تابعت، ولا زلت أتابع حالة الجدل التي تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي، وتصريحات الفنانين وصناع السينما والدراما سواء المؤيدين أو المعارضين منهم للفنان المصري يوسف الشريف، بعد تصريحه مؤخًرا بأنه يضع بندًا في تعاقداته، يمنع وجود مشاهد ساخنة، والتي تم تحريفها صحفيًا إلى أنه يرفض أداء المشاهد التي تحتوي على (لمس) للفنانات.
وسواء كانت التصريحات حول المشاهد الساخنة أو التلامس، فالأمر بشكل عام يستحق النقاش بمنظور أشمل وأوسع، دون شخصنته وحصره في اسم يوسف الشريف، إذ أن اسماء كبيرة لها ثقلها وتاريخها الفني الطويل، قالت تصريحات مماثلة بل وأكثر جرأة وتحدي مما قاله يوسف، دون أن يجرؤ أحد وقتها على انتقاد أصحاب تلك التصريحات ومهاجمتهم، مما يحيلنا إلى سؤال هام: هل تصبح التصريحات الفنية مجازة ومباحة لو خرجت من أفواه من يملكون السطوة والقوة، لكنها في الوقت نفسه تستحق وقفة ومحاكمة فورية عاجلة لو خرجت من طرف أضعف أو أقل نفوذًا، وليس خلفه "شلة" تسنده، أو منتفعين يغضون الطرف عن تصريحاته طمعًا في المكسب والمصلحة؟!
وهل الأزمة الحقيقية في شخص صاحب التصريح؟ أم في الطبيعة الجدلية نفسها التي تتعلق بما يجب أو لا يجب أن يكون عليه الفن والأعمال الفنية عند تمثيل مشهد يحتوي على قبلة، أو حضن، أو علاقة حميمة من أجل توصيل حالة ضرورية ضمن سياق ورسالة العمل؟!
حسنًا لنرتفع ونعيد تأمل القضية بمنظور عين الطائر، حتى نرى وندرك كافة الأبعاد والزوايا..
أعتقد أن نظرة عامة للأرشيف الصحفي والتليفزيوني، لمعرفة آراء النجوم الذين أدلوا بها في حوارات صحفية وبرامج التوك شو، حول مسألة القبلات والمشاهد الساخنة في الأفلام والمسلسلات، ستفصح عن حالة فصام وتناقض حادة لدى البعض من جانب، أو وجود قناعات شبيهة لقناعات يوسف الشريف لدى الكثير من نجوم الوسط الفني من جانب أخر، والدليل ما يلي..
هل يختلف معي أحد على أن الفنان الكبير عادل إمام، واحد من أجرأ الفنانين الذين احتوت أفلامهم على قبلات ساخنة ومشاهد حميمة، بخلاف الضرب على المؤخرات والصدور في السينما المصرية والعربية؟!
ورغم ذلك، قال الزعيم فى أحد تصريحاته أنه يرفض - رفضًا قاطعًا - عمل ابنته فى الفن والتمثيل، والسبب هو القبلات. وقتها قامت الدنيا ولم تقعد من بعض النجوم أو بمعنى أدق النجمات لاسيما اللاتي عملن معه، على اعتبار أن موقفه غير منطقي، ما دام هو نفسه يشتغل بالفن ويُقبّل الفنانات؛ لكنه برر ذلك بأنه رجل شرقى تربى على تقاليد الأحياء الشعبية بحي الحلمية، أحد الأحياء الشعبية الشهيرة فى القاهرة وقال: "أنا حر في رأيي، وما زلت متمسكًا به؛ لأن طبيعتي وثقافتي هي التي جعلتني أرفض احتراف ابنتي التمثيل، وأنا من الحلمية وأساسا من المنصورة، فهل سأكون سعيدا عندما أشاهد ممثلا يقبل ابنتي ثم أقول لها بعد انتهاء المشهد "الله البوسة حلوة؟!"، لكن المثير في الأمر أن أغلب من يهاجمون يوسف الشريف اليوم، لم يُسمع لهم صوت وقتها.
بنفس المنطق رفض الفنان هاني سلامة أن يقبل أحدهم زوجته أو ابنته في لقاء سابق مع الإعلامي محمود سعد، ورفض الفنان ماجد المصري في لقاء سابق مع رزان مغربي أن تعمل بناته بالتمثيل قائلًا:"أرفض دخول بناتي المجال الفني بكل أنواعه، أنا مبدأي سك على بناتك"، وقالت ريهام عبدالغفور مع بوسي شلبي: "أرفض القبلات لأن أمي متحفظة ومربياني بالطريقة دي"، واعترفت الفنانة عبير صبري أن القبلات في الأعمال الفنية "حقيقية، وحرام، ومالهاش لازمة"، وعدد أخر هائل من التصريحات الشبيهة، التي لا يتسع المقام لحصرها في مقالٍ واحد.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلاتزال ذاكرة اليوتيوب تحتوي ذلك المقطع الشهير للمغني والممثل تامر حسني، وهو يقول للإعلامية إنجي علي:"مش بتمنى أموت وأنا مطرب".
تجاوز الأمر إذًا أزمة الفنانين مع القبلات والمشاهد الساخنة، إلى رؤيتهم التي تحرم الفن بوجه عام، حتى أنهم لا يريدون الموت وهم يمتهنون هذه المهنة، رغم أنهم لايزالون على ذمتها، ويتربحون منها، ويشارك تامر حسني هذا الشعور كومة من الفنانين والفنانات الذين اعتزلوا العمل بالفن، وحاول بعضهم شراء أعماله لإخفائها عن الجماهير، وابتعد أخرون عن المجال واعتزلوه لسنوات طويلة ثم عادوا مرة أخرى من النقيض للنقيض!
الفصام هنا لا يشمل الوسط الفني فحسب، ولكنه يشمل كذلك الجماهير المصرية والعربية، التي تسُبّ النجوم والمنتمين للوسط الفني على مواقع التواصل الاجتماعي، ومقاطع اليوتيوب الساخنة، بعد أن دخلوها وشاهدوها حتى النهاية، ثم وضعوا تعليقات الرفض والاستنكار المصحوبة بالاستغفار!
وليس خفيًا أن بعض الجماهير التي تسُبّ النجوم وفنانين الصف الثاني والثالث والوجوه الجديدة على حدٍ سواء، هي نفسها التي تتزاحم حول النجم أو النجمة فور رؤيتها في المول أو السينما أو أي مكان عام، وتطلب منها التقاط صورة "سيلفي"، وهي التي يتمنى عدد غير قليل منها العمل في الوسط الفني، والوصول لعالم الشهرة والمجد والمكاسب المادية، ولهم في مكاتب "الكاستينج" مقاطع فيديو صوروها في "الأوديشن"، أملًا في الحصول على فرصة تمثيل بمسلسل أو فيلم.
في ما يتعلق بهذه الجدلية، يمكن إدراك أن لدينا ثلاثة أنواع من البشر سواء كان هؤلاء البشر نجومًا أو جمهورًا عاديًا.
1- هناك من يعمل في الفن أو يتابعه، وهو يشعر داخله أن سلبياته أكثر من إيجابياته، وأن مساويء الممارسة تعلو فوق قدسية الرسالة، لذا يتعامل معه بمنطق "المُدخّن" الذي يقرأ العبارة المكتوبة بالفونت العريض وتقول "التدخين ضار جدًا بالصحة ويؤدي إلى الوفاة"، لكنه لا يستطيع الامتناع، وينتظر لحظة "التبطيل"!
2- من يرى في الفن متعة ورسالة عظيمة، لا يجوز إخضاعها لمعايير الدين، وإلا فعلينا على سبيل المثال حرق اللوحات التي لا تقدر بثمن لكبار الرسامين، والتماثيل الأثرية لعظماء النحاتين، لمجرد أنها لنساء عاريات، فضلًا عن أن القبلات والأحضان والمشاهد الحميمية – من وجهة نظرهم - هي تجسيد لخيال غير حقيقي، حتى وإن كانت وقت التصوير تحدث بشكل حقيقي، لكنها حقيقة رمزية لتجسيد حالة فنية، وبعضهم يُشبّه الأمر في ضرورته، بتعري فتاة أو سيدة أمام طبيب من أجل توقيع الكشف عليها، وعلاجها، ليصبح هذا التعري مباحًا ومفهومًا ضمن إتمام "التشخيص" للوصول للعلاج.
3- من يرى أنه ليس مضطرًا لاعتزال الفن، أو التوغل في تمثيل مشاهد معينة تتعارض مع قناعاته الدينية والأخلاقية، مازجًا بين معاييره الدينية والفنية في نطاق ما يجسده أو ما يشاهده، دون أن يشغل باله بعموم المسألة في المطلق، لأن الأمر أكبر من أن يفكر فيه ويحسمه بشكل عام للبشرية، ويكفيه أن يُحاسب على ما يقدمه فقط، تاركًا الحرية للأخرين في فعل ما يحلو لهم، مثلما عليهم منحه الحرية نفسها لفعل ما يراه مناسبًا، ويؤمن به، ويستشهد هذا الفريق بالتطور الكبير الذي شهدته السينما الإيرانية – على سبيل المثال – في الشكل والمضمون، وفوز الكثير من أفلامها بأكبر وأهم جوائز المهرجانات السينمائية العالمية، رغم أن لها معايير وضوابط معينة، إذ أن الفيصل في المسألة هي طريقة الطرح والمعالجة، دون أن يمنع الالتزام أو الوازع الاخلاقي والديني من النجاح الفني وحصد الجوائز.
وفي وجهة نظري الشخصية أن هذه القضية مسألة شائكة، وأكبر من حسمها بمقال أو سلسلة مقالات، أو حتى مناظرات فنية ودينية، لأن لكل فريق قناعات تمثل رواسخ من الصعب زحزحتها، فضلًا عن أن الفن وجهة نظر تتسع للقبول والرفض حسب ذائقة وعقلية كل متلقي بشكل فردي، دون أن ينسحب ذلك على الكل بشكلٍ جماعي، وحتى الأفلام التي تحقق شبه إجماع جماهيري ونقدي، تتفاوت أسباب إعجاب الجماهير والنقاد بها، ما بين معجب بالتمثيل، أو الفكرة والسيناريو والحوار، أو الإخراج، أو الموسيقى التصويرية، وغيرها من عناصر العمل الفني، ودرجة تفاعل كل فرد بأحدها أكثر من باقي العناصر.
وغني عن القول أن القواعد الأكاديمية التي تنظم معايير جودة تلك العناصر، لا يمكن استخدامها بشكل ثابت كقانون موحد في التطبيق والتقييم، انطلاقا من مقولة بيكاسو الشهيرة "تعلم القواعد كبروفيسور ثم أكسرها كمبدع"، إذ أن القواعد وجدت لتنمية الفكر والوجدان، وليس لتقييده، وأن نفس السيناريوهات التي تم تنفيذها في أفلام ومسلسلات ومسرحيات، لو أعيد انتاجها مرة أخرى، بفريق عمل مغاير، لرأينا فيها روحًا غير الروح، وطريقة تمثيل وإخراج ستجعل منها أعمالًا مختلفة تمامًا، رغم أن الفكرة والورق واحد، لأن الفن في النهاية "وجهة نظر" وإحساس يختلف من مبدع لمبدع، دون حسم نهائي يقول أن طريقة بعينها هي الأصح دون غيرها.
والفيصل الوحيد هنا هو "الحرية" التي يجب أن تتاح لكل فصيل في الممارسة بالشكل المناسب لقناعاته، وعلى الجمهور الإقبال أو الإحجام وفقًا لقانون العرض والطلب، من ناحية، ووفقًا لدرجة الوعي والتعليم التي يجب أن تزداد بشكل يرتقي بثقافة الاختلاف والتنوع، دون مزايدة أو صراع في مسألة وجودية لا يوجد حل وحسم نهائي لها، مثلها مثل الأديان، يؤمن كل منها بها بطريقته وقناعاته، دون فرض أو وصاية من أحد.
اقرأ أيضًا:
مراجعات يوسف الشريف والمشاهد الساخنة
جلباب "عبد الغفور البرعي" الذي ارتداه "فريد شوقي"