في عام 2006 قدم لنا المخرج المكسيكي أليخاندرو إينياريتو فيلمه الرائع Babel الذي كتبه جيرمو أرياجا. في ذلك الفيلم نشاهد أربعة خطوط درامية تبدو منفصلة، تقع ثلاثة منها في بلدان مختلفة بل وقارات مختلفة، لكن السيناريو نجح في ربط هذه الخطوط ببراعة شديدة، ودون أن نشعر أن هناك مبالغة أو صدف غير مُقنعة.
منذ أيام قليلة عرض فيلم ”يوم وليلة“ من تأليف يحيى فكري وإخراج أيمن مكرم. فما العلاقة بينه وبين فيلم ”بابل“؟
ملاحظة: المقال سيحتوي على كشف لأحداث الفيلم.
كل هذه الشخصيات
تدور أحداث الفيلم كما هو واضح من عنوانه خلال يوم كامل، ونتابع خلال هذا اليوم عدة شخصيات تربطها صلات مختلفة، وهذا النوع من الأفلام شاهدناه في عدة تجارب في السنوات الأخيرة، أبزرها فيلم ”الفرح“ للمخرج سامح عبد العزيز.
تبدأ شبكة العلاقات في ”يوم وليلة" في التشعب من خلال منطقة السيدة زينب التي يعيش فيها أول الشخصيات التي نتعرف عليها وهو أمين الشرطة أيمن الدهبي (خالد النبوي)، ثم تظهر الشخصيات الأخرى تدريجيًا. يقدم لن الفيلم أكثر من 10 شخصيات مختلفة يتقاطع بعضها مع بعض، ويحاول السيناريو أن يصنع نسيجًا واحد يضم الشخصيات جميعها، حتى إنك لو كتبت اسم أي شخصيتين ستجد رابطًا بينهما ولو بعيد.
كمثال دعونا نأخذ أحد الخطوط، يحترف محمود (أحمد الفيشاوي) السرقة، يسرق إحدى السيارات في بداية الفيلم، وفي مشهد لاحق نجد صاحب السيارة المسروقة وهو مهندس مدني، يذهب إلى مبنى قيد الإنشاء ويطرد عبد الله أحد العاملين فيه لأنه ليس دقيقًا في عمله، ولأن المهندس غاضب من سرقة السيارة. قبل نهاية الفيلم يجلس محمود مع عبد الله، بحكم الجيرة، يدخنان المخدرات، ويشكوان همومهما والأخير لا يدري أن الأول له دور كبير في فصله من عمله.
هكذا يقدم المؤلف بعض العلاقات التي بها قدر جيد من المفارقة، مثل هذه التي ذكرناها. يبدو هذا ذكيًا وهو بالتأكيد صعب التنفيذ، ولكن ماذا عن النتيجة النهائية؟
محاولة الفيلم لجمع أكبر قدر من الشخصيات جاءت نتيجتها عكسية في الكثير من الأحيان. فبينما يبدو الخط الذي ذكرناه سابقًا مكتوبًا بطريقة جيدة إذا مددناه على استقامته، فإن كثرة الخطوط ومحاولة ربطها جميعها ببعض أضعف المنطق في الفيلم.
مثل المثال السابق، نجد أن وفاء شقيقة أيمن الدهبي، وهي مسلمة، تصادق بيتر الشاب المسيحي، الذي والدته مريضة في المستشفى، ومن الممرضة؟ ميرفت (درة) التي هي في الوقت نفسه جارة أيمن، وشقيقة عبد الله.
هكذا نجد أن شبكة العلاقات تبدو متداخلة أكثر من اللازم، وأكثر مما يحتاجه الفيلم في الحقيقة، فلن يضر الفيلم على الإطلاق لو كان صديق وفاء ليس له علاقة بالشخصيات الأخرى، أو كان بيتر صديقًا لفتاة ليست لها علاقة بالشخصيات الأخرى، لكنه الإصرار على ربط كل الشخصيات.
كما ذكرنا في المقدمة، عندما قدم فيلم ”بابل“ شبكة التقاطعات التي تنتشر عبر 3 قارات كان الأمر يبدو مقنعًا أكثر مما حدث في ”يوم وليلة“، لماذا؟ لأن الأمر لا يتعدى وجود خط واضح ومنطقي يربط الشخصيات وبعضها، ومع التركيز على 4 خطوط درامية أخذت وقتها في التقديم ثم الحبكة، جاءت النتيجة شديدة التماسك، بينما بذل يحيى فكري مجهودًا أكبر من اللازم في رسم شبكة العلاقات لكل هذه الشخصيات بينما كان يمكنه التركيز على قدر أقل منها لتخرج النتيجة أفضل مما شاهدناه، خاصة ونحن في مصر التي تضم 100 مليون، بينما قد نشعر في الفيلم أن مصر ما هي إلا منطقة صغيرة كل الساكنين فيها يعرفون بعضهم بشكل ما.
لكن ربما أراد الفيلم حشد قدر أكبر من الشخصيات ليتسنى له عرض قدر أكبر من القضايا، فكيف جاءت الأفكار التي ناقشها الفيلم؟
كل هذه القضايا
منذ البداية، ومع التعريف بكل شخصية، يؤكد صناع الفيلم على أننا أمام شخصيات قريبة من الواقع إلى حد كبير، جميعها تقريبًا لديه أزماته وخطاياه وحسناته أيضًا، ولم تظهر الشخصيات بهذه الطريقة حتى تكون كلها متساوية وفي كفة واحدة، بل لجعل الشخصيات حية بشكل أكبر، تحتوي على عدة تفاصيل وليست أحادية البعد، هكذا نجد أننا مع الوقت نتعاطف مع بعض الشخصيات أكثر من الأخرى، أو أننا نغفر لهذا ولا نغفر لتلك.
واحد من أهم وأفضل الخطوط التي قدمها الفيلم هو الخاص بقسم الشرطة وما دار فيه، وتحديدًا مشهد المقابلة بين أيمن ومحمود، والذي يسمح وحده بأن يُبنى عليه فيلم كامل، أمين الشرطة الفاسد يعقد اتفاقًا مع محمود الهجام الذي بلا مستقبل تقريبًا، بأن يقضي هذا الأخير عدة أيام في الحبس لينقل لأيمن أخبار المساجين، مقابل عدة أيام ينعم فيها بحريته. هذه الصفقة تسمح بالكثير من القراءات للشخصيتين ولوضعهما في المجتمع، فمن ناحية هذا استغلال واضح للسلطة في غير محلها، لكن في نظر أيمن هو ينقذ هذا الشاب من أن يرتكب المزيد من الجرائم التي قد تودي بحياته بأن يبقيه قريبًا منه، وكأن التجسس على الآخرين ونقل أخبارهم ليس جريمة في حد ذاته. في المقابل نجد أن محمود الذي لا يعمل بالفعل في أي شيء جيد، يرى أن هذا العرض هو أسوأ ما يمكن ليس فقط لأنه سيسلبه حريته، بل لأنه لا يملك حرية الاختيار من الأساس، عليه الموافقة فقط. هذه الشخصية المنسحقة والتي تحمل في الوقت نفسه عدة أسباب لعدم التعاطف معها كان يمكن إفساح المزيد من المساحة لها، لكن صناع العمل فضلوا زيادة عدد الشخصيات على زيادة مساحة الشخصيات.
النتيجة كانت أننا وجدنا الكثير من الشخصيات التي يمكن الاستغناء عنها لأنها لم تأت بأي جديد على الإطلاق، على رأسها شخصية ميرفت التي شوهدت بنفس المعالجة من قبل في الكثير من الأعمال، المرأة المطلقة التي لا تستطيع أن تصرف على طفليها فتضطر إلى بيع جسدها. فإن كانت هذه الشخصية نموذجًا آخر للشخصيات من أسفل السلم الاجتماعي، فشخصية محمود كانت كفيلة بتوضيح جانب من هذه الطبقة وبشكل أفضل ومختلف عما شاهدناه لدى ميرفت.
على الجانب الآخر وجدنا أن بعض الخطوط لم تُعالَج بشكل جيد، وبالتالي مثل وجودها عبئًا إضافيًا على الفيلم، أبرزها بالطبع قصة الحب بين المسيحي والمسلمة التي لم تقدم بأي شكل مختلف، بل كانت أكثر الخطوط ابتعادًا عن الواقع، سواء على مستوى الحوار الذي أتى بعبارة على شاكلة ”ليه كل واحد لازم يصاحب اللي من نفس دينه“ أو على مستوى الإخراج الذي شاهدنا فيه الشاب المسيحي يضع يده على كتف صديقته المسلمة في منطقة شعبية قريبة من سكنها، وهو أمر شبه مستحيل، بل إنه من الصعب أن يضع شاب يده على كتف صديقته دون ارتباط في الأماكن الشعبية بعيدًا عن تفصيلة الدين، فمع وجود الاختلاف في الدين، يصبح الأمر أبعد ما يكون عن الواقع.
فيلم ”يوم وليلة“ احتوى على بعض الخطوط الجيدة التي كانت تحتاج إلى مزيد من التكثيف والتركيز عليها بدلًا من محاولة عرض الكثير جدًا من الأفكار، التي جعلت في النهاية مميزات الفيلم تختلط بعيوبه فتأتي النتيجة النهائية غير مرضية.
اقرأ أيضًا:
داليا مصطفى: سعيدة بمشهد القتل في "حواديت الشانزلزيه"
عقوبة داليا مصطفى للساخرين من نبيلة عبيد ونادية الجندي