نقلا عن نشرة مهرجان القاهرة السينمائي 41
في معرض السعي للحديث مع المخرج السينمائي محمد ملص عن فيلم (فتح أبواب السينما، محمد ملص) كان اللقاء في مقهى الروضة في قلب مدينة دمشق، وهو المكان الأثير لملص، حيث يجلس فيه بشكل شبه يومي بين عدد من المبدعين السوريين الآخرين يتبادلون أعطاف الحديث في ذلك اللقاء السريع كانت هذه اللحظات التي تناست فيها الذاكرة بين سينما الأمس واليوم وما حملته مسيرة الحياة من مشاريع سينمائية، نفذ بعضها وعرض، ونفذ بعضها ولم يعرض، وجزء ثالث بقي رهين الأدارج يقاوم برودتها في انتظار حرارة التنفيذ لتصاغ أفكارٌ سينمائية حارة.
لا شيء كالسينما يجعل محمد ملص يمزج بين الواقع والمتخيل، يرنو بكثير من العمق والشفافية نحو كوامن اللحظة، ليجعل منها كنزًا دراميًّا فيه شغف الحكاية وحرارة البوح وحنين الذكريات. يبحث في مكونات الذاكرة عن تفاصيل تغدو من خلال دفق إبداعي شلالًا سينمائيًّا فيه البيت والحيّ والوطن والحلم الوحدويّ العربيّ المنكسر. ثائر هادئ يرسم بالحنين سطور السينما الخالدة في وجع إنساني يمتد مسافات وأعماقًا. كتب في السينما وعنها، وحقق أفلامًا كانت منعطفات في تاريخ السينما العربية، فكان أحد قلاع السينما العربية وعيًا وفكرًا وإبداعًا. لذلك لم يغب عن البوح السينمائي حتى في مشاريع مختلفة لسينمائيين عرب، حلّ ضيفًا عليهم في العديد من الظهورات الصحفية أو النقدية أو السينمائية. فكان في سينما (حميد بن عمرة) الجزائري في فيلميه (حزام، زمن الحياة) حيث كان ضيفًا على الفيلمين في العديد من المشاهد اللافتة كما كان الموضوع الكامل في كتاب (سينما محمد ملص: رؤى مخرج - مؤلّف سوريّ) الذي صدر في الولايات المتحدة الأمركية عن سلسلة (دراسات بالغريف في السينما العربية) بتوقيع كل من سميرة القاسم من صندوق القدس للتعليم وتنمية المجتمع ونزار عنداري من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة زايد في أبو ظبي).
للمخرج محمد ملص، ذكريات مع مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهو الذي يعتبره الأهم عربيًّا، ففيه الكثير من الرؤى السينمائية التي يهتم بها كمخرج سينمائي أولًا ومفكر سينمائيّ ثانيًا، مهرجان القاهرة السينمائي يعده واحة للسينما العربية.
يقول: «مهرجان القاهرة السينمائي حبيب إلى قلبي، وهو أحد المهرجانات التي يحب على أي سينمائي في العالم أن يزورها، ولي فيه صداقات وذكريات جميلة، تربطني بناسه ومبدعيه علاقات صداقة عميقة ومتجذرة. لكنني في هذه الدورة لن أستطيع الحضور لأسباب قاهرة شخصية، وإني أعبّر عن سوء حظي لعدم القدرة على حضور هذا المهرجان في دورته الحالية التي يرأسها الصديق العزيز محمد حفظي. وكانت أمنياتي أن أكون معكم ولكن الظروف شاءت غير ذلك. المهرجان له مكانة كبيرة في نفسي، وكثيرًا ما اهتممت به وبحضوره وتتبع أخباره الكثيرة والناجحة، في هذه الدورة تحضر تظاهرات عديدة تحمل المعنى الكامل للسينما وهي ملتقى لسينمائيين كُثر يحملون رؤى سينمائية مختلفة وجميلة فيها التنوع والثقافة والجمال، المهرجان يصنع لنفسه مكانة هامة من خلال هذه التظاهرات العديدة التي تهتم بها السينما العربية، وفي هذا المهرجان شعرت بسعادة كبيرة مسّتْني شخصيًا، كونها حملت لي فرصة أن يكون العرض العالمي الأول للفيلم الذي يتحدث عني من خلاله ومن خلال هذه التظاهرة السينمائية الجديدة والجميلة، هذا الفيلم الذي حققه عني الصديق نزار عنداري بكل طاقة الحب والجدّ، وكلّي شوق أن تصلني أخبار العرض الطيبة متمنيًا للجميع متابعة ممتعة له».
لم يكن فيلم الأستاذ والمخرج نزار عنداري اللقاء الأول بينه وبين المخرج السوري محمد ملص، بل سبق الفيلم مشروع إصدار كتاب سينمائي، صدر في الولايات المتحدة الأمريكية بمشاركة زميلة له تحت عنوان (سينما محمد ملص: رؤى مخرج - مؤلّف سوريّ) الذي احتوى الكثير من تفاصيل حياته المهنية، وكان الهدف من إصدار الكتاب تعريف الناطقين بالإنجليزية بقامة سينمائية عربية كبيرة. يتابع محمد ملص: «العلاقة مع المخرج نزار عنداري الأستاذ الجامعي المرموق تشبه الرحلة الإبداعية بكامل تفاصيلها الجميلة وبما تحمله من قدرة على البوح، إنها رحلة تخص الكتاب الذي قام بتأليفه مع المخرجة والأستاذة سميرة قاسم منذ فترة، وهو الكتاب الذي أعتزّ به، لما يقدمه للقارىء من أفكار مفيدة، في هذا الكتاب الذي كلّف جهدًا ووقتًا طويلًا، تم تبادل الأفكار والتواصل معي بخصوص الأفلام التي حققتها خلال مسيرتي الفنية، وبعد نقاشات وحوارات طويلة نتج الكتاب الصادر في أمريكا الذي هو قراءة سينمائية عميقة للأفلام التي حققتها والمشاريع الأدبية التي أشتغل عليها أحيانا.
هو سبر لمسيرة حياة مهنية تمتد لعشرات من السنين. ومن بوح الكتاب، وبعد نضوج التجربة فيه، تشعب الأمر من بعده إلى فيلم سينمائي وثائقي حمل اسم (فتح أبواب السينما، محمد ملص) ليصنع عنداري عني فيلمًا سينمائيًّا فيه الكثير من الشجن. استضافه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الحادية والأربعين ليكون صاحب العرض السينمائي الأول له ضمن تظاهرة البانوراما الدولية التي استحدثها في هذه الدورة ويعرض فيها لشخصيات سينمائية عالمية من كل اتجاهات العالم».
البانوراما الدولية:
في خطوة جديدة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وتأكيدًا على وجود رؤى سينمائية جديدة يهتم المهرجان بإيجادها، كانت الانطلاقة بفكرة البانوراما الدولية، التي تعني بعرض مجموعة من الأفلام وفق تصنيف محدد. لذلك كانت البداية من خلال عرض خمسة أفلام. أربعة وثائقية وواحد في التحريك. وهي أفلام حديثة تقدّم موضوعات عن شخصيات سينمائية عالمية كبرى. واحد من هذه الأفلام الخمسة (فتح أبواب السينما، محمد ملص) الذي أخرجه المخرج السينمائي نزار عنداري. البانوراما العالمية معنية بالإجابة على كلا سؤالين: ماذا يعني أن تكون مبدعًا؟ وما الأثر الذى يتركه فنان السينما في عالمه؟ سؤالان عميقان يلِجان أعماق الروح الإبداعية للعديد من السينمائيين الذين صاروا في بيئاتهم الفنية علامات فارقة والبانوراما مهتمة بتكريس سينما هؤلاء للأجيال الشابة من السينمائيين لتتعرف على القيمية المضافة فنيًّا التي أوجدها هؤلاء في فن السينما. من هؤلاء الخمسة، كان محمد ملص. السينمائي السوري الذي حقق بسلسلة أفلامه مكانة سينمائية عالية ومتفردة من خلال مواضيع حياتية، موغلة في تحقيق أحلام بسيطة وحارّة. تعبر عن توق الإنسان البسيط في رسم تفاصيل حلمٍ أفضل سيعيشه مستقبلًا في عالم عربيّ مليء بالإرباكات السياسية والاجتماعية. وما يمليه ذلك على المواطن العربي أيًّا كان موقعه من ضرورة إعمال العقل وانتهاج الحكمة للوصول لحلول، تحفظ حياته وكرامته بالشكل المطلوب ولو في الحد الأدنى.
يقول محمد ملص عن سينماه: «لا أريد أن أُرى كسينمائي فحسب، بل ككاتب ومفكّر أيضًا. حين أصنع أفلامي، أنهل أيضًا من ينابيع الأدب والفلسفة وروائح أهلي».
وفي استحضارٍ لمعانٍ بالغة الصغر، يتناول ملص في سينماه مواضيع تحمل الفرادة والبساطة، كالعشب الذي ينمو بين أحجار رصيف ما، فيغدو هذا العشب بالنسبة إليه شريكا فنيًّا ومعادلًا إبداعيًّا لفكرة ما.
جاء في كتاب عنداري والقاسم: «توقّف محمد ملص وراح يحدّق في الأرض من حوله. ثم داعب العشب النامي بين حجارة الطريق المرصوف القديمة وقال: ”هذا العشب الجميل يحفظ ذاكرة الحجارة وما يكمن تحتها، سينماي تفعل الشيء ذاته”.
يعرض الفيلم، ويشاهده محمد ملص في تلك التجليات التي صنعها مخرجه، يتابعه بالكثير من الحنين للحظات عاشها في تنفيذه، ليخرج بانطباعات عنه: «الآن يمكنني أن أقول بعد أن شاهدت الفيلم الذي أخرجه نزار عنداري أنه فيلم جميل، وعنه يهمني أن أؤكد، بأن هذا المخرج يمتلك رؤية فنية وموهبة سينمائية لا بد من الإشارة إليها وتقديرها، بصرف النظر عن شهادتي المطعون فيها لكون الفيلم الذي نتحدث عنه موضوعه عني. هو فيلم ينتمي إلى شكل السينما التسجيلية العربية بواحدة من تجلياتها الهامة، التي سبق للعديد من السينمائيين التسجيليين أن حققوها، أقول: إن فيلم نزار جميل وبمعنى أدق هو فيلم ذو بنية سينمائية هامة. وراء هذا الفيلم سينمائي موهوب قادر على أن يساهم في تقديم سينما جميلة ونحن بصرف النظر عن الموضوعات التي سيتناولها فنحن بحاجة إلى تحقيق، هكذا أفلام تمتلك البنية المتفردة والجميلة التي تضعها في مرتبة السينما الهادفة وكذلك التي تحقق جماليات عالية وهامة. حين حدثني نزار عنداري عن المشروع وفكرة الفيلم، اعتقدت أنه يخصّ الكتاب بتكويناته وحيثياته، ولكن الحوار بيننا لفت نظري إلى جانب بصري أهتم به كثيرًا، ألا وهو الارتكاز المكاني والزماني في الفيلم. إن العلاقة بيني وبين الزمان والمكان، فيما حققته من أفلام يشكل جوهرًا أساسيًّا بالنسبة لي وهذا التآلف بيني وبين نزار منحني الكثير من الشعور بالثقة والطموح لمشروع نزار في تحقيق فيلم عني وعن أفلامي وهذا ماكان فعلًا بإنجاز هذا الفيلم الذي يسعدني أن يكون عرضه الأول في مهرجان القاهرة السينمائيّ».