ذات يوم سأل مدرس بأحدى المدراس الابتدائية تلاميذه وهم يستعدون لتقديم مسرحية على مسرح المدرسة (مين يعرف يقلد الشيطان؟) فنهض أحد التلاميذ وقال أنا يا أستاذ وراح يقلد الشيطان بحركات ساذجة لكنها كانت كفيلة بإقناع المدرس بإسناد الدور له، كان الشيطان هو الشيطان ولكن كان اسم التلميذ الذي قلده هو محمود عبد العزيز محمود.
لم يكن أحد يعلم أن ذلك الصغير سوف يلتصق بمهنة التشخيص فيما بعد ليصبح واحدا من شياطين هذا الفن وقبطان تعشقه أمواج التقمص ولا تعانده أبدا، ولم يكن أحد يعلم أيضا أن اسم هذا الأستاذ الذي أسند اليه دور الشيطان في تلك المسرحية المدرسية هو محمود عبد العزيز! فهل كانت مجرد مصادفة أم علامة من تلك العلامات التي يتركها القدر كي تشير لنا عن المواضع التي يبدأ عندها تاريخ الفنان.
الساحر محمود عبد العزيز... المزاجنجي الإنسان
ولد محمود عبد العزيز بحي الورديان في الإسكندرية عام 1946 ومنذ أن صعد على خشبة المسرح وهو في المدرسة الإبتدائية لم يفارقه حتى بعد أن التحق بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية طالبا بقسم الحشرات ثم معيدا بذات القسم بل أنه اضطر لتسجيل نفسه في الماجيستير فيما بعد لمجرد ان يظل منتسبا لمسرح الجامعة.
وبتعبير مقتبس من رائحة البحر التي طالما ملئت خياشيم ذلك الشاب الإسكندراني على شاطئه مختلطة بأحلام كثيرة عن الفن والتمثيل والحياة التقطته صنارة المخرج نور الدمرداش حين شاهده في أحد العروض المسرحية على خشبة مسرح جامعة الإسكندرية، وبحرفنة صانع النجوم الذي اعتاد أن يضع كل ممثل في توب الشخصية التي تناسبه عرض على محمود عبد العزيز أن يقوم بتمثيل دور ضابط مخابرات في مسلسل "كلاب الحراسة" الذي كان من بطولة عبد الرحمن أبو زهرة، ولكن محمود توجس من أن يكون الدور لضابط مخابرات إسرائيلي نظرا لملامحه التي تعطي انطباعا أجنبيا، كان يخشى أن تتم قولبته في أدوار الأجانب مما يفقده القدرة على ممارسة التشخيص في مفهومه الذي لا يعترف بالقوالب.
لكن الدور كان لضابط مخابرات مصري وبعد انتهاء المسلسل قال له نور الدمرداش إن التليفزيون يحتوى على 5740 ممثل لم يحققوا أنفسهم وأنا أريدك اسما لا مجرد رقم آخر، ولم تكن هناك سوى الأيام التي أثبتت للفنان الشاب أن نظرة ملك الفيديو كانت نحو الزاوية التي سوف تمكنه من تسديد أول هدف فني في حياته، فبعد عشرات العروض التي رفض نور الدمرداش أن يقبلها محمود عبد العزيز جاء مسلسل" الدوامة" ليقوم فيه بدور مميز جعل من الحلم الذي طالما راوده في أن يتعاون مع المنتج الكبير رمسيس نجيب حقيقة سوف تستمر (حتى آخر العمر).
كان "حتى آخر العمر" الذي أنتج عام 1975 هو أول بطولة مطلقة للفنان الشاب بعد دور صغير في فيلم "الحفيد" مع المخرج عاطف سالم 1974 وبعدها جاء "وجها لوجه" أمام مصطفى فهمي عام 1976 ليثبت أن هذا الفنان لا ينقصه سوى التقدم نحو القمة دون أن يكون هناك ما يمكن أن يعوقه من الوصول إليها، ورغم ظهور تلك الدعاوي التي أطلقها البعض من أنه سوف يكون دوبلير حسين فهمي! أي أن الأفلام التي سوف يرفضها حسين فهمي سوف تذهب لمحمود عبد العزيز.
لكنه لم يكترث لذلك بقدر ما ازداد توجسه من ذلك الطريق الذي أصبح من الأكيد أنه ماضي فيه لا محالة، لنجده في العام التالي1977 يقوم ببطولة 7 أفلام دفعة واحدة منها "طائر الليل الحزين" إخراج يحيى العلمي ليكون أول لقاء بينه وبين المؤلف الشاب انذاك وحيد حامد في أول تجاربه السينمائية، وفي العام الذي يليه يقوم بتصوير 8 أفلام ليصبح رصيده 18 فيلما في أربع سنوات فقط.
أصبح الآن هناك النجم الشاب محمود عبد العزيز في "وضاع العمر يا ولدي" وفي "شباب يرقص فوق النار" ومن الموسيقي الهارب في "طائر الليل الحزين" إلي الشاب الذي يبيع فحولته للنساء في "شفيقة ومتولي" ومن ابن الذوات الذي يعشق البنت الفقيرة ويبيت طوال الليل أمام بيتها في سيارته الفاخرة في "المتوحشة" 1979 إلى رجل الأعمال الانفتاحي الذي يعاني من رغبة في تدمير الآخرين في "ولا يزال التحقيق مستمرا".
لقد أصبحت ملامحه وسنوات عمره الثلاثون تؤهله لكي يصبح الفتى الوسيم الذي يعرف "البنات عايزه إيه" لكنه وكما سيعرف عنه لا يفلح معه مبدأ الثبات على المألوف وأن التمرد ليس فقط جزء من شخصيته ولكنه جزء من نزعته الفنية، أي أنه يكاد يكون مُصيرا في تمرده، ولكن هذا التمرد هو الذي سوف يدفعه فيما بعد أن يعلن (أنا اعتزلت من فترة طويلة..اعتزلت الفن الردئ) فها هو يأتي مع عام 1981 ليقوم بدوره الغريب في "وكالة البلح" وبعده في ذات العام يقف فوق مركب في الملاحات ليكتشف أن تفييش الهوامش لم يفلح وأن الجنون يمكن أن يصيب حتى الأطباء النفسيين حين يلحق بهم "العار" فيغنون والملاحة والملاحة وحبيبتي ملو التراحة.
وتدريجيا تزداد قدرة عبد العزيز على امتصاص الشخصيات وإعادة افرازها في شكل تصبح معه صفة التشبع بالشخصية لازمة لوصف هذا الفنان، وها نحن نقترب من عام 1985 وهو العام الذي شهد توهجا أدائيا وتنوعا في الأدوار التي أصبحت أفلامها تقترن باسمه.
إن 1985 هو العام الذي شهد "الشقة من حق الزوجة" و"الصعاليك" و"إعدام ميت" و"الكيف" وهو العام الذي لا شك أصبح على الجميع التوقف لدراسة هذا الفنان الظاهرة، فكما اعترف أنه (اذا كان أصعب أنواع الكتابات هي الكتابة الكوميدية فإن الأصعب منها هو طريقة أداء الممثل لهذا الشئ المكتوب) لذلك فأن الخيط الشفاف بين اضحاك الناس والضحك عليهم كان ولا يزال العفريت الذي لا يكف عن تخويفه كلما تذكر أن همه هو إسعاد الناس، وهو ذاته الذي جعله يقذف نعيمة الصغير حماته في "الشقة من حق الزوجة" بالغسيل في حركة عفوية تماما غير مكتوبة بالسيناريو لأنه أحس أن هذا الزوج المقهور لا يستطيع أن يمنع نفسه عن ذلك، وهو الذي جعل من شخصية المطرب الشعبي (بتاع الكيمي كيمي كا) (يشرشر شراشير الشهرة) علشان يبقى (اكوس) مما هو عليه في "الكيف"، وبينهما يأتي"إعدام ميت" لتصبح العفوية إلى جانب التقمص و(الغطسان) في الشخصية هما أدوات هذا المشخصاتي الأصيل.
سوف تمكنه هذه الأدوات التي احترفها في العام التالي 1986 من تمثيل 3 أدوار فقط ولكنها تصلح كتاريخ كامل لأي فنان، الضابط السادي الذي يعاني من حالة أشبه بحالات الفصام التي تظهر في المجتمعات التي تعاني من فساد يأكل الروح في البريء مع وحيد حامد وعاطف الطيب والفتوة الواقع في مأزق السلطة المطلقة في الجوع مع على بدر خان عن قصة نجيب محفوظ، ثم أخيرا الشقي الذي يهبط من الجبل على قرية جاهلة في ثوب شيخ مبروك يصنع المعجزات ليكشتف أن جهل النفوس أخطر بكثير من جهل العقول في الحدق يفهم مع أحمد فؤاد.
وفي عام 1987 تنتهي ثلاثيته مع الكاتب محمود ابو زيد والمخرج على عبد الخالق التي بدأها بالعار ثم الكيف وأخيرا جري الوحوش بشخصية المنجد الفحل الذي يسعى ورء المال فيفقد (الترلوب بتاعه) وتبدأ في ذات العام ثلاثية الفانتازيا الاجتماعية مع سيد الواقعية العبثية رأفت الميهي في السادة الرجال ثم سمك لبن تمر هندي 1988 ثم سيداتي انساتي 1990 لتصبح ملامحه وعيناه اللتان تأخذان اوضاعا تعطيه صفات الاحول او الأهوج او اللعيب او النشنجي مقترنة بقهقهته المجلجلة ماركة مسجلة بأسمه.
ان كل من تابع رحلة سائق التاكسي رضا رشدي مع زبونته العائدة بعد 15 سنة غربة في الدنيا على جناح يمامة 1989 لوحيد حامد وعاطف الطيب لابد وان يتوقف امام القفزة التالية التي سوف يقوم بها محمود عبد العزيز بعد ان صارت قدرته على التقمص تكاد تكون لا نهائية، ليبدأ عام 1991 بأبو كرتونة وينتهي بالدور الأيقوني الأعظم في مجده الشيخ حسنى في الكيت كات وهو اروع ادواره على الاطلاق، واكثرها نفاذا إلى الروح والقلب.
لقد درس محمود عبد العزيز الشخصية جيدا حتى أنه ذهب لإحدى دور المكفوفين واستعلم عن أنواع العمى والتي منها ذلك النوع الذي يفقد الإنسان السيطرة فيه على ملامح وجهه إذا ما كان فقدان البصر ليس منذ الولادة ولكن في سن متأخر مثل الشيخ حسني، لدرجة أن المخرج داود عبد السيد كان يكتب في هوامش السيناريو (هذا المشهد متروك لإبداع الفنان) ولكن هذا الفنان الذي قال (هدفي من الفن ليس الشهرة والنسوان) هو ذاته الذي يستعير عقب النجاح الهائل لفيلم "الكيت كات" مقولة الممثل العالمي مارلون براندو (ليس هناك فيلم قمة..ليس هناك فيلم نهاية هناك فيلم به شخصية جيدة فقط).
أثناء تمثيله لدور ضابط المخابرات المصري في فيلم "فخ الجواسيس" وهو الفيلم الوحيد الذي قام بتمثيله عام 1992 كان "رأفت الهجان" قد صنع أسطورته التي جعلت من محمود عبد العزيز يعلن بعدها أنه سوف يتوقف عن التمثيل للتليفزيون إذا لم يجد المسلسل المناسب الذي يعود به بعد أن صار الناس ينادونه في الشارع يا هجان، بعد أن كان قد اعتاد على لقب الشيخ حسنى الذي يعترف بأنه كان يتمنى أن يكون في قوة هذا الرجل الذي لا يحني رأسه للإحباطات والذي صنع من بصيرته أسطورة بعد أن فقد بصره.
ويظهر مشروع مسلسل "أحمد سالم" الذي طرح فكرته الكاتب محفوظ عبد الرحمن وأثناء فترة إعداد المادة يخجل محمود عبد العزيز من أن يسأل الفنانة مديحة يسري التي كانت زوجة لأحمد سالم عن تفاصيل علاقتها بزوجها، كانت أخلاق ابن البلد تمنعه من ذلك ولكنها كانت تشير أيضا إلى تلك المرحلة التي أصبح فيها أولاد البلد أو الحارة محور اهتمامه، بل أن البعض وصمه بذلك الإكلاشية الصدئ الإغراق في المحلية من أجل الوصول إلى العالمية، ولكن محمود عبد العزيز رأى أن الحارة هي أصلنا جميعا مهما كانت مهامنا ومراكزنا، ولما كانت قراراته نابعة من ذاته ومن وعيه الفني المتزايد جاءت أفلامه "تلاتة على الطريق" 1993 و"البحر بيضحك ليه" و "الجنتل" 1996 الذي حقق 5 ملايين جنيه إيرادات -قبل هوجة إسماعيلية رايح جاي- ثم "هارمونيكا" 98 وأخيرا "النمس" 99 جاءت كلها أفلام من داخل الحارة أو من داخل صورة أولاد البلد في تلك الفترة.
كان تركيزه على الحارة راجع إلى أنه يرى أن انفلات المعايير والطموحات والتهليب تحتاج إلى العودة للبساطة والقيم الطيبة التي توجد في الحارة المصرية، ولم يكن عرض "الجنتل" في 30 دار عرض بالنمسا كأول فيلم مصري يعرض عرض تجاري هناك ولم تكن جوائز مهرجان دمشق والقاهرة والإسكندرية كأحسن ممثل إلا تعبيرا صادقا عن أصالة هذا الفنان، ولم يكن استقباله في مطار القاهرة بفرقة حسب الله بعد رحلة علاجة في فرنسا من مرضه الذي لا يصيب سوى شخص كل 10 ملايين شخص في العالم -وهو وجود كيس دموي على البنكرياس أدى إلى الاشتباه بوجود مرض خبيث- سوى تعبير عن حب الجمهور له.
ومع حالة التخبط التي أصابت السينما المصرية نجده يرفع شعار (لا للرائحة الكريهة التي تفوح من سينما متخبطة تعكس حالة التخبط التي يعيشها المجتمع) فنجده يتوقف لثلاثة سنوات قبل أن يختار تمثيل سيناريو واحد، ويعترض على شعار السينما الشبابية ويصرح بأن جيل هنيدي وعلاء ولي الدين في ورطة حقيقية لأن الناس وضعت ثقتها فيهم، ومن ثم فإن عليهم أن يقدموا المختلف دائما وهو ليس بالأمر الهين.
ورغم توقف مشروع مسلسل أحمد سالم ورغم عدم اكتمال مشروع مسلسل عن حياة مصطفى أمين الذي طلب قبل وفاته أن يقوم محمود عبد العزيز بتمثيل دوره ورغم تعاقده على بطولة "أوان الورد" ثم حدوث تغيرات أدت إلى اسناد البطولة إلى هشام عبد الحميد، ورغم حماسه لمسلسل "الكومي" وذهاب البطولة إلى غيره لم يفقد محمود عبد العزيز رغبته في العودة بعمل جيد وعلى الرغم من أنه يوقن من أننا (نعيش عصر سينما الموبايل والفيشار) إلا ان الساحر الذي في داخله شجعه على اقتناص هذا الدور الذي كان آخر ما أفرزه المخرج رضوان الكاشف قبل رحيله.
كان يشتاق لجمهوره بقدر ما يشتاق جمهوره له، حتى عندما سرت شائعات حول أسرار حياته الشخصية ردد مقولة مصطفى أمين (أقف فوق الحجارة التي يقذفونني بها فأعلو) كان محمود عبد العزيز كما قالوا عنه متأمل، حائر ومتألم أيضا، فنان من طراز نادر لا تملك حياله سوى الحب. فبعد أكثر من 80 فيلما و25 جائزة محلية ودولية ظل يشعر بالقلق لأنه مهما كانت فرحة الجائزة فإن الخوف لا ينتهي من التفكير في ما سوف يقدمه بعدها من أعمال، كان يرى أن الفنان يسعى دوما نحو الكمال ويرفض اعتبار أن أي من أعماله الفنية امتدادا لعمل آخر، تاركا تقييم مشواره إلى النقاد بكل حرية، ورغم أن الكثيرون كانوا يرون أن حلمه بالكمال قد تحقق مع الشيخ حسني في مرحلة مبكرة نسبيا في رحلة أي فنان لكن يظل حضور "عبد الملك زرزور" الطاغي والمنفلت وغير المقنن والممتد هو حالة من إعادة تحقق هذا الكمال الباهي المتفرد. فحين تجلى زرزور تجلى معه عبد العزيز كملك حقيقي على عرش التشخيص ليس من السهل منازعته على سلطة الأداء وفنون التقمص.
في ذكراه الثالثة لا يمكن أن ننسى أن من وقفوا أمام الكاميرات يوما وتفرقت وجوههم فوق ملامح عشرات الشخصيات لا يمكن اعتبارهم مغادرون عاديون صوب الأفول أو النسيان وإنما هم الإثبات الأكثر بريقا على أن السينما هي فضاء الخلود المشتهى للبشر.
اقرأ أيضا:
كيف استغل محمود عبد العزيز "باب الخلق" لتنشيط السياحة
لقاء نادر- محمود عبد العزيز يحكي عن حبه للتمثيل في طفولته