على هامش مهرجان لوميير السينمائي في مدينة ليون الفرنسية، عُرض بشكل استثنائي أحدث أفلام المخرج الأمريكي الكبير مارتن سكورسيزي ”The Irishman“ (الأيرلندي)، هذا المشروع الذي تعثر لسنوات طويلة قبل أن يخرج للنور وتصبح مدته 3 ساعات ونصف الساعة ليصبح أطول أفلام سكورسيزي على الإطلاق، وأكبر إنتاج لنتفليكس.
حضر سكورسيزي بنفسه ليقدم العرض، وقال في البداية إنني انتظرت طويلًا لأقدم عملًا جديدًا مع روبرت دي نيرو -أكثر المممثلين الذين عمل معهم- وخاصة في ما يخص أفلام العصابات (Gangster) لأننا قدمنا الكثير منها بالفعل، حتى جاء إلي دي نيرو بعد أن قرأ كتاب ”I Heared you Paint Houses” (سمعت أنكم تطلون المنازل) من تأليف تشارلز برانت وقررنا تحويله لفيلم.
السؤال هنا هو ما الجديد بالفعل الذي يستطيع تقديمه في هذا النوع الفيلمي الذي قُدمت خلاله الكثير من الأعمال العظيمة، والذي يعد هو مخرجًا ودي نيرو ممثلًا من أبرز علاماته؟ الإجابة كانت داخل الفيلم.
شخصية جديدة
يضم الفيلم الكثير من العلامات المميِّزة لأسلوب وأعمال سكورسيزي، حتى يبدو أن المخرج البالغ من العمر 77 عامًا يوجه تحية لأعماله من خلال فيلمه الأحدث.
يتعاون سكورسيزي مع كاتب السيناريو ستيفن زاليان الذي سبق وعمل معه في ”Gangs of New York“ (عصابات نيويورك). يتابع الفيلم شهادة فرانك شيران الأيرلندي (روبرت دي نيرو) الذي بلغ من العمر أرذله، ويروي علاقته بجيمي هوفا (آل باتشينو). نشهد تحول شيران من سائق سيارة نقل لأحد القتلة المحترفين التابعين للمافيا تحت رعاية راسل بافالينو (جو بيشي) ثم تحوله للذراع الأيمن لهوفا في أثناء مرحلة صعود وانتشار سطوة هذا الأخير.
الشخصيات المذكورة هي شخصيات حقيقية، أبرزها في التاريخ الأمريكي هو جيمي هوفا الذي كان رئيسًا لاتحاد العمال (IBT) لعدة فترات متتالية منذ 1957 وحتى 1971 قبل أن يُسجن نتيجة علاقاته المشبوهة بالمافيا، ثم يخرج ليحاول أن يعود مرة أخرى لمنصبه لكن الخلافات التي نشبت بينه وبين بعض القيادات جعلت عودته صعبة وتحول إلى عدو للمافيا.
هنا نجد أول الملامح المميزة لسكورسيزي وهي ولعه بالسِيَر، الكثير من أفلامه قدمت سير بعض المشاهير، مثل ”Raging Bull“ (الثور الهائج) الذي قدم فيه الملاكم جيك لاموتا، و“The Aviator“ (الطيار) الذي قدم فيه هوارد هيوز. في كلا الفيلمين، وفي غيرهما، عادة ما يختار سكورسيزي أن يقدم مرحلة محددة من حياة الشخصية التي يقدمها، ربما كان الاستثناء هو ”Goodfellas“ (الأصدقاء) الذي تابع فيه بطله منذ كان صغيرًا حتى أصبح كهلًا. في ”الأيرلندي“ يختار سكورسيزي فترة طويلة نسبيًا تمتد من نهاية الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات.
يتيح هذا الاختيار أمرين مهمين نتابعهما في الفيلم، الأول هو رصد شخصية شيران الثرية المليئة بالتفاصيل وتحولاتها الدرامية المختلفة سواء على مستوى مركزه في العصابة أو علاقته بهوفا، بالإضافة لعلاقته ببيته وتحديدًا بابنته بيجي (لوسي جالينا وآنا باكوين)، وهو أمر مهم دائمًا في أفلام سكورسيزي، فالشخصية دائمًا هي محور الحدث ومنها يتنقل إلى القضية التي يحملها الفيلم وليس العكس، والمثال الأبرز بالطبع هو ”Taxi Driver“ (سائق التاكسي).
والثاني هو متابعة خريطة التغيرات السياسية وانتشار الفساد داخل السياسة الأمريكية. وتشريح المجتمع أيضًا ليس أمرًا جديدًا، ونفس المثال السابق احتوى على نقد عظيم للمجتمع.
على الأغلب، بالنسبة للمشاهد غير الأمريكي، فإن تفاصيل شخصية جيمي هوفا لن تكون معروفة، وهكذا نأتي لواحدة من التفاصيل الممتعة التي اعتمد عليها السيناريو وهي التقلبات المتتالية في خريطة تحالفات الشخصيات، ومراكز القوة. ربما اعتاد المشاهد المتمرس في أفلام العصابات على وجود هذه التغيرات في ولاء الشخصيات والعلاقات بينها، وإن كان أغلبها يعتمد على عنصر المفاجأة في الكشف عن هذه التحولات. المميز في ”الأيرلندي“ هو أنه يركز على هذه التحولات وكيف تتغير الشخصيات من جانب إلى الجانب المقابل لسبب أو لآخر، يعرض لنا هذا بشكل متدرج حتى عندما نصل إلى النهاية يصبح الموضوع شديد القسوة لأننا عايشنا بدايته، وفي الآن ذاته يعج بالتفاصيل التي تجعل المشاهد يود استعادتها في ذهنه مرارًا.
لكن السؤال المهم هنا، هل احتاج السيناريو بالفعل إلى كل هذه المدة ليقول ما يريده؟
ثلاث ساعات ونصف. هل تكفي؟
واحدة من التعليقات التي صاحبت الفيلم بعد الإعلان عن مدته النهائية، هي طوله الشديد ليصبح أطول أفلام سكورسيزي. الإحساس بالزمن نسبي، وفيلم قصير ضعيف مدته نصف ساعة قد يمر على المشاهد أطول مما يمر عليه فيلم طويل جيد، وبالتأكيد ”الأيرلندي“ من الأفلام التي لا نشعر معها بالوقت.
ليس فقط للشخصيات المثيرة التي تحدثنا عنها سابقًا، ولكن لأن كاتب السيناريو ستيفن زاليان، اعتمد على حيلة معروفة وجيدة لكسر أي شعور بالرتابة قد يتسلل للمشاهد وكان هذا من خلال استخدام السرد غير الخطي، إذ تبدأ الأحداث ونحن نشاهد شيران وهو عجوز في أحد دور المسنين، قبل أن ننتقل بالزمن لمنتصف السبعينيات ومنها إلى الخمسينيات، وخلال الفيلم نتابع بالتوازي ما يحدث في السبعينيات والخمسينيات وما بعد بعدها حتى يلتقي الخطان. هذا الانتقال بين الأزمنة إنما جعل المشاهد يترقب دائمًا ما الجديد، وكيف وصلت الأحداث إلى هذه النقطة.
بجانب هذا الأسلوب في السرد، فإن سيناريو الفيلم يسير بخطوات واسعة في السنوات لكنه في الوقت نفسه يعرض أهم التفاصيل التي نود معرفتها عن الشخصية، فنشاهد كل ما يخص قصة صعود شيران في الفصل الأول من الفيلم بينما الفصل الثاني يقدم بالتوازي شخصية هوفا، ليصبح من أقوى الفصول وأغناها بالأحداث، قبل أن نصل للفصل الثالث إلى السر الذي يكشفه شيران وإلى أين وصلت علاقته بالمافيا.
مع انتهاء الفيلم نجد أنه من الصعب حذف بعض مشاهده لتقليل مدته. بل إن السيناريو يُلام على تفصيلتين في غاية الأهمية تم تجاوزهما سريعًا. الأولى هي اختيار بيجي ابنة شيران فقط للتركيز على علاقتها المضطربة بوالدها، دون توضيح سبب اضطراب هذه العلاقة منذ البداية أو كيفية تعامله مع بقية أبنائه إلا في مشهد وحيد قرب النهاية، فبدا وكأنها ابنته الوحيدة. بالطبع ليس الفيلم دراما أسرية ولكن وجود بقية بناته على الهامش كان أمرًا غير معالج داخل العمل.
الأمر الثاني الذي يُلام عليه السيناريو هو سرعة القفز بين السنوات في الفصل الأخير إذ ننتقل مباشرة من السبعينيات إلى التسعينيات لنشاهد مصائر الشخصيات، وهي القفزة الأكبر زمنيًا داخل الأحداث عكس ما كان منذ البداية من التقديم الكافي لكل فترة أو تحول عبر الزمن.
من الضروري ألا نغفل الدور المميز، المعتاد في الحقيقة، من مونتيرة الفيلم ثلما سكونميكر، التي لولاها لما كنا نتحدث بهذه الأريحية عن تميز إيقاع فيلم بهذا الطول.
سكورسيزي يقدم
رغم أن السينما فن لا يمحوه التقدم في السن بل يصقله، فأن بعض المخرجين الكبار ”قيمة“ يفقدون لمستهم تدريجيًا مع التقدم في السن، فرانسيس فورد كوبولا وألفريد هيتشكوك لم تكن أفلامهم الأخيرة بنفس مستوى الأولى. فهل ينضم سكورسيزي إلى هؤلاء؟
للإجابة عن هذا السؤال سنقف أمام أحد تتابعات الفيلم، وهو حفل تكريم شيران بحضور جميع الشخصيات المهمة في الفيلم. في هذا التتابع يعبر سكورسيزي بصريًا عن وضع كل شخصية بالنسبة للأخرى بشكل مُلفت، فتكفي المشاهدة دون الاستماع للحوار لنُدرك وضع كل شخصية بالنسبة للأخرى ومن صديق من ومن في مركز القوة. كل التفاصيل مستخدمة بعناية، من وضع طاولات الطعام وأماكن جلوس الشخصيات، وتوزيع الإضاءة على بعضها دونًا عن الأخرى، ثم قيامهم للرقص، تتابع واحد يختزل الكثير.
يمكن أن نقف هنا أيضًا عند الجانب الآخر من قدرات سكورسيزي التي لا زالت مزدهرة، وهي تحريك الممثلين. نحن نتحدث بالطبع عن ممثلين استثنائيين، ولكن كيف يمكن أن يوظف المخرج هذه المواهب معًا.
يحتوي التتابع على مشهدين محوريين، أحدهما حوار بين شيران وبافالينو ثم بين شيران وهوفا. في الأول نجد لقطات متوسطة لكل شخصية على حدة، يرصد فيها المخرج كيفية تأثير كلام كل منهما على الآخر ويترك الوقت الكافي للممثل ليعبر عما يدور في ذهنه قبل أن يتحدث. في الحوار الثاني نجد اللطقات أكثر قربًا وتجمع الشخصيتين معًا في الأغلب، وهو ما يعكس أيضًا العلاقة بين الشخصيتين، بينما تعكس تعبيرات وجهيهما ما سيترتب عليه هذا الحوار.
بجانب هذه الإجادة، يصبغ سكورسيزي فيلمه بطابع أقل جدية، رغم موضوعه، من ”Goodfellas“ أو ”Casino“ ليبدو في بعض مشاهده أقرب للشكل الهزلي الذي قدمه في ”The Wolf of Wall Street“ (ذئب وول ستريت)، مما يمنح الفيلم في النهاية شكلًا مختلفًا عن أفلام العصابات السابقة التي قدمها بالفعل، مما جعل الفيلم ذو شكل مختلف في النهاية.
يجب في النهاية أن نتوقف عند الممثلين، الذين أثر عليهم أحد الاختيارات التقنية بشكل سلبي. استخدم الفيلم تقنية تدعى ”De-Aging“، وهي تقنية تستخدم المؤثرات البصرية لتحويل ملامح ممثليه لسن أصغر بدل الاعتماد على المكياج التقليدي، وهو الخيار الذي لم يكن موفقًا بالنسبة لدي نيرو الذي بدت تجاعيده واضحة لا تتناسب مع سن الشخصية في بداية الأحداث والذي يقترب من الأربعين، والانتقال بالتوازي بين السنين المختلفة، ثم مرور الزمن على الشخصية سبب حالة من الارتباك حول معرفة سن الشخصية وعلامات مرور الزمن عليها، ولهذا أصبح أداء دي نيرو أكثر قوة في النصف الثاني من الفيلم مع تقدم سن الشخصية وقلة استخدام هذه التقنية لتصبح ملامحه متماهية بالفعل مع السن. ولا يعني هذا أن أداؤه كان ضعيفًا، فقد سخّر كل قدراته الاسثتنائية ليمنحنا دائمًا الشعور بتغير الشخصية مع مرور السن عليها.
في المقابل جاء جو بيشي متحررًا أكثر من هذه التقنية في تغيير الملامح، إذ شخصيته أكبر سنًا من شيران، ويمكن القول إنه أفضل من أدى في الفيلم، فعلى العكس من دوره الشهير في ”Goodfellas“ الذي قدم خلاله شخصية انفعالية تتحدث بسرعة وتسبق أفعالها تفكيرها، نجده الشخصية الأكثر هدوءًا وحكمة، والأقل كلامًا، والأكثر قدرة على إظهار ملامح الزمن على أدائه، وأغلب الظن أنه سيكون له نصيب كبير من الجوائز في موسم الجوائز القريب.
ثم يأتي آل باتشينو في دور هوفا، الذي لم يقدم جديدًا يذكر في أدائه، وجاء المكياج وتحديدًا الشعر المستعار الذي وضعه ليزيدا من عدم القدرة على تقبل الشخصية في في كثير من المشاهد، وعانى من نفس ما ذكرناه عن دي نيرو في ما يخص تماهي ملامحه مع سن الشخصية التي يلعبها.
إذن نحن أمام سيناريو ممتع ومميز، أداء تمثيلي قوي في مجمله، وسكورسيزي يعيد التجول في ملعبه المفضل، أفلام العصابات، فهل يشكل الفيلم إضافة للمخرج الكبير؟ الإجابة نعم بالتأكيد، بعد سنوات طوال من الابتعاد عن نوع العصابات، يأتي ”الأيرلندي“ بمثابة عودة تليق بسكورسيزي إلى هذا النوع دون أن يكرر نفسه أو يقدم تنازلات.