قبل أسابيع، كان العرض العالمي الأول لفيلم "جوكر" ضمن مهرجان فينسيا، أحد أقدم وأعرق مهرجانات السينما، حيث فاز بالجائزة الكبرى بالمهرجان، وهي جائزة الأسد الذهبي. وخلال الأسابيع التالية، وقبل حتى أن يصبح متاحا للعرض في السينما، أصبح الفيلم حديث الجميع، ما بين متحمس ومتربص، إما لمقارنة بين أداء واكين فينكس لنفس الشخصية التي لعبها هيث ليدجر وخلد بأدائه اسم الشخصية للأبد، أو بسبب أجندات سياسية، تتهم الفيلم بترويجه للعنف، أو بسبب فوزه بجائزة فنية عريقة، في سابقة لم تحدث من قبل لفيلم تجاري.
وأخيرا عرض الفيلم، فهل يستحق الفيلم حالة الضجة التي أحدثها، سواء بالسلب أوالإيجاب؟
بين الفنية والتجارية
الفيلم من إخراج "تود فيلبس"، المخرج المعروف بأعماله الكوميدية وأشهرها سلسة أفلام "هانج أوفر". أعمال فيلبس كانت أفلام كوميديا سطحية وهذا ليس انتقاصا منها، فلا شك إنها نجحت في مسعاها التجاري، ولكنه كان اختيارا غريبا من الشركة المنتجة، لتسند له فيلم بهذا الحجم.
من المفترض أن يكون "جوكر" هو نقطة التحول في مسيرة فيلبس، لكن للأسف فأن فيلبس لم يستطع التخلص من سماته التجارية.
هناك الكثير من التكلف والافتعال، في كل عناصر الفيلم تقريبا، بدءا من اختيار شكل الصورة واختيار الألوان الزاهية، ومع ذلك فهي لا تخلو من السواد الذي لا يفارق أي كادر، وحركة الكاميرا المستمرة بداع وبدون، مرورا بشريط الصوت المليء بالموسيقى الصاخبة والمؤثرات الصوتية التي تضخم حالة كل المشاهد تقريبا، في مبالغة واضحة، كل الغرض منها ألا يمل المشاهد.
مبررات ضعيفة وسيناريو غير محبوك
وإذا كان تقبل الاختيارات الإخراجية وتلقيها، أمر انطباعي ونسبي من متفرج لآخر، فإن مشاكل السيناريو لا يمكن الاختلاف عليها.
الفيلم يبدأ بمشهد لآرثر فليك وهو يقوم بفقرة المهرج في الشارع، فيهاجمه شباب مراهقون ويضربوه، يمكن تقبل هذا الأمر في إطار النظرة السوداوية لطبيعة البشر، خاصة أنه تم وضع تفصيلة أن "آرثر" يعاني من اضطراب نفسي، يجعله يضحك في أوقات غير مناسبة، هذه تفصيلة تساعد في تقبل فكرة تنمر أي شخص عليه، لكن السيناريو لم يحبك ذلك جيدا.
فلماذا تنفر منه سيدة لمجرد أنه يضحك طفلها؟ ولماذا يتنصل منه صديقه الذي أعطاه مسدسا ليحمي نفسه، بل أنه يشي به حتى. ولماذا يأخذ آرثر المسدس معه إلى مستشفى أطفال مصابين بالسرطان؟ بالطبع، لإعطاء سبب لرفده من عمله ودفع الحبكة إلى الأمام.
كيف يدخل آرثر بالمسدس إلى قناة شهيرة؟ لماذا لم يصدر أمر باعتقال آرثر طالما تأكد الضباط من أنه القاتل الذي يبحثون عنه؟ هل الكلمة التي قالها "توماس وأين كافلة لإشعال حالات الشغب، وأن يصير الجوكر رمزا لثورة؟
الفيلم مليء بهذه الأمثلة، التي يلوي فيها السيناريو ذراع الحبكة لدفعها إلى الأمام، إما بعدم وضوح المبررات، أو بأغفالها، أو بإعطاء مبررات ودوافع واهية.
أما تركيبة شخصية آرثر فكانت في غاية التشتت، فلا يمكن فهم حالته النفسية ولم يستطع الفيلم حبك حالة تحوله من مريض نفسي إلى قاتل، فجاء التحول بشكل مهرول وغير مدروس، واكتفى الفيلم بإعطاء عدة التواءات في الحبكة، لتشكل دافع لتحول الشخصية، دون التعمق داخل نفسيتها وتاريخها.
لا يمكن تحديد نوعية السيناريو، هل هو سيناريو حبكة أم دراسة نفسية لشخصية "آرثر فليك". الفيلم تائه بين الاثنين، يريد تقديم شخصية عميقة وفى نفس الوقت، وضع التواءات في الحبكة وأحداث ضخمة، لجذب أكبر عدد من المشاهدين، والنتيجة هي عمل هجين، لا ينجح في الأمرين.
تأثر واضح لكن غير مجدي
عند الإعلان عن البدء في صناعة الفيلم، صدرت إشاعة تقول بأن سكورسيزي، المخرج الكبير، أحد منتجي الفيلم، وأن الفيلم نفسه سيكون مشابها لفيلمين من أشهر أفلامه، "تاكسي درايفر"، و"ملك الكوميديا".
الفيلم بالفعل متأثر بالاثنين ولا يخفي ذلك بتاتا، فبجانب تشابه الحبكة مع "تاكسي درافر"، فهو يقتبس لقطات بعينها مثل لقطة دي نيرو، وهو يشع يداه على رأسه في شكل مسدس، كأنه يقتل نفسه، اللقطة تتكرر هنا عدة مرات، ولها توظيف في الحبكة.
أما فيلم "ملك الكوميديا"، فالفيلم هنا يقتبس تتابع كامل يتخيل فيه بطل الفيلم أن يستضيفه مذيعه المفضل في برنامجه، بل الفيلم يستخدم بطل الفيلم القديم وهو "دي نيرو"، ولكن هذه المرة هو المذيع الشهير بدلا من المتابع المهووس.
هذه الاقتباسات هي تأثر واضح، ولا تعيب الفيلم، طالما أنها غير مقحمة، لكنها أيضا لا تفيد، فمجرد التأثر بأفلام ذات قيمة عالية، لا يعني الحصول على نفس القيمة بالضرورة.
التمثيل هو العنصر الأبرز
بغض النظر عن الكتابة المرتبكة للشخصية، فإن "واكين فينكس" يقدم أداء لا غبار عليه، أداء مركب وشديد التعقيد.
كمثال، ذكرنا أن شخصية آرثر تعاني من اضطراب نفسي يسبب حالة ضحك هيستيرية، لا يمكنه إيقافها، وذلك يوقعه في العديد من المواقف المحرجة. وفي أحد المشاهد، وبسبب ضحكته، يجذب انتباه عدد من الأشخاص في مكان فارغ، لكنه يحاول كتم ضحكته لكيلا يثيرهم ضده، تعبيرات وجه فينكس عبقرية، فمه لا ينقطع عن الضحك، وباقي عضلات وجهه وعينيه، تحاولان منعه من الضحك.
يمكن تطبيق هذا المثال على أداء فينكس ككل، ليس انفعالات الوجه فحسب، بل لغة جسده ككل، نحالته، مشيته، انحناءة كتفه بشكل معين، نظرات عينيه، صوته، وضحكته بالطبع، تمكن شديد من كل التفاصيل، فينكس يضيف للشخصية تفاصيل، ربما تكون غير موجودة في السيناريو حتى، بل أنه يمكن القول إن مشاهد انفعالاته الصامتة، أقوى من التي تحتوي على حوار، أداء عظيم بلا شك، يضاف إلى قائمة أدواره الخالدة.
فيلم متذبذب لكن مهم
في النهاية، فيلم "جوكر"، هو فيلم متوسط، ليس جيدا وليس سيئا، ليس فنيا بالكامل، ولا جماهيريا بالكامل، اهتم بأن يضخم من الحكاية، بحشر العديد من القضايا مثل، الفقر، والطبقية، والعنف، والإعلام، والمرض العقلي، والاعتداءات الجنسية، ولم يهتم بحبك الدراما وبناء شخصيته المحورية.
لكن مهما كانت جودة الفيلم، فلا يمكن إنكار أهميته أو تأثيره، فهو يفتح الباب لصناعة أفلام كوميكس ذات قيمة فنية، وفتح مجال جماهيري أكبر، لتقبل الجمهور لأفلام دراسة شخصيات، لا تحتوي على العناصر التجارية المعتادة. كما أن الاهتمام النقدي والجماهيري بالفيلم، قد يعطي فينكس حقه أخيرا من التقدير، وربما يكون ذلك سببا، لإعادة اكتشاف أفلامه الأفضل فنيا.
اقرأ أيضا:
الفيل الأزرق 2 ... جزء ثان ناجح أم فرصة مهدرة؟
"خيال مآته" يجمع بينهما مجددًا.. تاريخ التعاون بين حلمي وخالد مرعي