في ربيع عام 1959، نشرت مجلة الإذاعة والتليفزيون بعض الكواليس المهنية والشخصية في حياة الفنان الكبير محمود المليجي، من خلال عرض ما كتبه خلال 7 أيام في أجندته الخاصة التي يدوِّن فيها مذكراته.
تباينت مواقف المليجي التي رواها ما بين أحاديثه مع العامة في الشوارع وكذلك موقفه من الضرائب، ثم سرد بعض المواقف مع أصدقائه وأسرته، وخوفه من المستقبل وغيره الكثير، وهو ما نستعرضه في السطور التالية.
السبت
في السادسة صباحًا كنت اتخذ طريقي إلى الاستوديو، الصباح الباكر جميل، تهب عليك نسمات حالة ما زالت نعيش تحت تأثير حلم الليل، واصلت سيري حتى إذا ما وصلت إلى الجيزة، كان إخوان من العمل في طريقهم، ولمحني أحدهم فصاح: "المليجي أهه !"، ثم أسرع إلى بعض الإخوان وكان صباحًا كله إشراق وسؤال ساذج: على فين كده من بدري؟!. فأجبت: على الشغل !
فانبرى أحدهم يسأل في عجب: "شغل بدري كده.. هو أنتم زينا؟. فأجبته: "أنتم أحسن مننا".
وكذبتني نظرته، وكان الباقي أكثر منه جرأة، فقال أحدهم ليعبر عن وجهة نظرهم: "يا عم مين زيكم.. نعيم وراحة". ولكنني أكدت لهم أنني ذاهب فعلا إلى العمل، وأنهم بالتأكيد أسعد حالا مني، فهم في الأعياد يأخذون أجازة أما نحن فلا نستطيع، لأننا إذا أخذنا أجازة من المسرح في العيد، فإلى أين يذهب المعيدون؟!
عندما يشتد سعير الصيف نعمل تحت الأضواء القاتلة، الفنانون يحسون بأوجاع الناس ولا يدعون الناس يحسون بأوجاعهم... وأمثلة كثيرة قلتها، ولكن هل اقتنع إخواني العمال؟ لا أظن.. إنهم مصممون على أننا نحن الفنانين نعيش في نعيم دائم، ناسين أنه لا يوجد إنسان _فنان أو غير فنان _ يعيش في نعيم دائم!!
الأحد
مصلحة الضرائب تطالبني بمبلغ كبير. لا اعتراض لي على التقدير ولكن لي وجهة نظر. أنا فنان، والفنان ليس له مرتب ثابت، وأيامه موزعه بين البصل والعسل.. وفي يوم "البصل" يأخذ من يوم "العسل".. وهكذا يمر العام. وفي آخره يفاجأ بما هو مطلوب منه، وليس معه إلا القليل. ماذا لو حصلت منّا الضرائب أولا بأول؟
أرجو أن يقتنع المسؤولون بوجهة نظري.
الاثنين
قابلت اليوم صديقًا كنت قد تعرفت عليه في إسبانيا منذ عامين أثناء زيارتي لها.. وهناك اتخذت منه مرشدًا. ذهب بي إلى المتاحف وإلى ملاعب الثيران، وإلى المسارح والحدائق، وكان يبدي إعجابه وتقديره لكل شيء في بلاده. وكان ضمن ما شاهدته ترعة لا يزيد اتساعها عن مترين، أخذ الصديق الإسباني يشرح لي بإعجاب متزايد تاريخ الترعة، ويعدد مميزاتها، وسمّاها "النيل".
ووجدت نفسي دون قصد _طبعا_ ألقي بعقب سيجارتي في هذه الترعة، فأسرع والتقطه منها، وفي عينيه نظرة عتاب، فقد لوثت السيجارة مياه الترعة.
قلت له: عندنا في مصر من يمتلك خمسة أفدنة يملك ترعة أكثر اتساعًا من ترعتكم هذه، والنيل عندنا يبلغ اتساعه في بعض الأماكن أكثر من خمسة كيلومترات. نظر إليّ مستريبًا كأنما لا يريد أن يصدق.
هنا في القاهرة التقيت به، لقد جاء ليرى مجدنا القديم والحديث، وصحبته ليرى نيلنا الخالد، فقال: رائع.. ولكن أيغضبك إذا قلت لك أنني أرى ترعتنا أروع؟!
لم أغضب طبعا.. وإنما أكبرته في أعماقي أنه وطني، ولأنه يحمل كل هذا التقدير والإعزاز لترعة صغيرة.. صغيرة جدًا في بلاده.
الثلاثاء
قرأت خبرًا يقول: إن وزارة الثقافة بعد أن أسست مؤسسة تدعيم السينما، ستتجه إلى المسرح، وستنشئ مؤسسة دعم المسرح لتقوم بمعالجة شؤون المسرح على أسس علمية هادفة.
هذا كلام جميل.
ولكن الذي ليس جميلًا هو أن يتصدى قوم أبعد ما يكونون عن طبيعة العمل المسرحي، ويحاولون تحقير مجهود الغير في هذا الميدان، وحجتهم في ذلك بعض اصطلاحات اطلعوا عليها اعتباطًا، أو أرشدهم إليها بعض المقربين المثقفين. فهذا هو ما لا يرضاه للمسرح أحد.
إن الفن في مصر أشبه بمريض التف حوله أهله الذي يؤلمهم مصابهم، ثم جاء شخص غريب لم يعرف المريض يومًا، ولم يحس بما يعتمل في أعماقه، وراح يدّعي صداقته، ويطلب إليهم أن يتركوه يباشر علاجه.
هل يكون أهل المريض مخطئين إذا هم ألقوا بهذا الغريب من النافذة؟!.. لا أعتقد.
الأربعاء
قرأت للكاتب الإنجليزي "سومرست موم" عبارة جاءت خلال قصة "الآن.. وفيما بعد":
"إنني أستطيع أن أضحي بالحب في سبيل الفن.. إن الحب مؤقت والفن خالد. الحب هو نداء الطبيعة لإنجاب مزيد من الأطفال يعانون الجوع والعطش والمرض والحزن والحسد والكراهية. ولكن الفن.. إنه المبرر الوحيد لخلق الإنسانية".
ويستطرد الكاتب قائلا: "والإنسان لا يمكن أن يجمع بين الفن والحب.. كل الفنانين الكبار لمع فنهم بعد أن حرموا أنفسهم _أو حرمتهم الظروف- من الحب. والرجل الذي يشبع رغبته من المرأة لا يمكن أن يكون فنانًا. إن موقد الفن هو الإحساس بالحرمان عن المرأة".
أنا مع سومرست في النصف الأول الذي يقول إن الحب مؤقت والفن خالد. أما النصف الثاني الذي يقول فيه إن الإنسان لا يمكن أن يجمع بين الفن والحب، فأنا ضده، فهناك فنانون لم يلمعوا إلا من خلال الحب.. الحب الكبير.
إن الحب في كثير من الأحيان يصنع المعجزات، ومن العبقريات ما لا يستطيع غيره أن يصنعه..
الخميس
خاطر غريب هاجمني هذا اليوم بلا مناسبة.. ماذا سيكون مصيرك عندما تذبل؟!.. فالفنان في رأيي كالوردة، طول ما ريحتها فيها، الناس شايلاها في صدرها، وعندما تذبل تداس بالأقدام. والدليل أمامنا: صالح عبد الحي!
فأنا في أشهر أكسب أكثر من 500 جنيه، وفي شهر آخر أكسب أقل من ذلك بكثير، وفي شهر ثالث لا أكسب شيئًا على الإطلاق.. وشهر يعوض وهكذا.. ولكن عندما ينفض الجمهور عني باحثًا عن فنان جديد _وهذه هي سنة الحياة_ ماذا سيكون مصيري؟ ماذا سيقدم لنا المجتمع الذي أرقنا حيويتنا على خشبة مسارحه؟
هل سيؤمن حياتنا ضد الشيخوخة؟ هل سنرى قريبًا صندوق معاشات يقدم لنا معاشات تحفظ لنا آدميتنا من الهون؟
هل سنرى قريبًا بيتًا يسمى بيت الفن، يفتح أبوابه للفنانين العجزة، الذين قدّموا بعض الشيء لبلادهم؟ أين الضمانات؟!
أنا لا أصدق أن وقتًا سيجئ لتدعو جمعية _أيا كانت هذه الجمعية_ لإقامة حفلة لمساعدتي أنا.. محمود المليجي الفنان العاجز.. لا أصدق أبدًا.
الجمعة
ذهبت إلى أحد المحلات الكبرى لأشتري منه لعبة لابني "يسري".. وأنا أنوي بعد ذلك أن أمضي فترة راحتي الصباحية في صحراء الهرم.
وفي تقاطع شارع عماد الدين مع شارع 26 يوليو، كانت الإشارة تسمح بالمرور، ولاحظت أن الناس لا يعترفون بقواعد المرور، فوقفت.. وأنا لا أستطيع أن أضرب كلاكس لأن الكلاكس ممنوع!!
وغاظني شاب تسكع أما عربيتي بطريقة استفزتني.. فقلت له ألفت نظره: "يا أستاذ مش شايف الإشارة؟!. فقال: إيه يعني.. أنت هتعلمني المشي!!.
ثم مضى يتحدث بطريقة وألفاظ جعلتني أوقف العربة وأنزل منها مصممًا أن أذهب به إلى مركز البوليس لتأديبه. وبعد نص ساعة اقتنع المارة الذين تجمعوا حولنا بأن الشاب يستحق العقاب فعلا. وذهبنا إلى قسم البوليس وهناك أحس الشاب أن المسألة أصبحت جد، فأخذ يتوسل لكي أصفح عنه وتذلل بشكل جعلني محرجًا أمام الناس. وأخيرًا تنازلت عن المحضر، وضاعت مني رحلتي الخلوية الجميلة.
اقرأ أيضا:
في ذكرى ميلاده - 4 تصريحات من محمود المليجي تكشف زهقه من أدوار تاجر الحشيش والفتوة
في ذكرى ميلادها- 6 معلومات عن علوية جميل .. هكذا تصرفت مع الزوجة السرية لزوجها محمود المليجي