في أكتوبر من العام الماضي، أضيف إلى معجم اللغة الإنجليزية الشهير أكسفورد Oxford، أكثر من 1400 كلمة ومصطلح حديث من بينهم مصطلح Tarantinoesque والمشتق من اسم المخرج الأمريكي الشهير كوانتن تارانتينو Quentin Tarantino، والذي يعني: "فيلم يتميز بالعنف الجرافيكي والمنمق، والسرد القصصي غير الخطي، والمرجعيات الأدبية السينمائية، والتيمات الساتيرية، والحوار الحاذق".(1)
يشمل هذا التعريف بشكل محدد ودقيق جميع المعالم المميز لأسلوب المخرج الأمريكي، والذي يعد أحد أكثر المخرجين السينمائيين تأثيرا على مستوى العالم، صاحب العلامات السينمائية التاريخية مثل Pulb Fiction، وKill Bill، وInglourious Basterds.
منذ أيام قليلة بدأ عرض آخر أفلام تارنتينو Once Upon a Time... in Hollywood بدور العرض المصرية، بعد 5 سنوات على آخر أفلامه The Hateful Eight. نظرا للمكانة الخاصة التي يتقلدها تارانتينو لدى جماهير فن السينما على مستوى العالم، يأتي عرض الفيلم بمثابة أحد أبرز الأحداث السينمائية لهذا العام، غير أن الجمهور المصري وجد الفيلم مخيبا للآمال، وانتشرت على مواقع السوشيال ميديا العديد من التعليقات التي تتساءل: ما المميز في هذا الفيلم ليلقى كل هذه الحفاوة؟
بالنسبة لي، وجدت الفيلم مرضيا إلى حد كبير، ربما يكون بالفعل هو أقل أفلام تارانتينو التسعة، ولكنه بالتأكيد فيلم جيد، وينطبق عليه مصطلح أكسفورد الجديد بامتياز. كيف ذلك؟ هذا ما سنحاول الوقوف عليه في السطور القادمة.
رؤية إبداعية
في سنوات الشباب الأولى، عمل تارنتينو بأحد متاجر الفيديو في كاليفورنيا يدعى "أرشيف الفيديو Video Archives" والذي يقوم ببيع وتأجير نسخ الفيديو من الأفلام السينمائية، وهناك تعلم تارنتينو فن السينما، ليس في أي معهد متخصص، ولكن في متجر للأفلام، حيث شاهد الكثير من الأفلام من مختلف الجنسيات والأنواع.
في البداية كانت وجهة تارانتينو هي التمثيل، إذ قام بالتسجيل في عدد من فصول التمثيل التي قدم خلالها مجموعة من العروض. يقول تارانتينو أنه أثناء هذه العروض لجأ إلى الارتجال وإضافة الكثير من الجوانب إلى الشخصيات التي يؤديها، وهنا أدرك ان مقصده هو الكتابة والإخراج وليس التمثيل.(2)
الخبرة البصرية الكبيرة التي اكتسبها تارانتينو من خلال مشاهدة الكثير والكثير من الأفلام، بالإضافة إلى الخبرة الحياتية الخاصة، هي أبرز ما يميز رؤية تارانتينو الإبداعية. ربما لا يكون من قبيل المبالغة أن نقول أن الأفلام الرديئة كان لها تأثير على تارانتينو يماثل تلك الجيدة، وهذا تحديدا ما دمغ أشهر أفلامه Pulp Fiction الذي اغتنم من خلاله سعفة كان الذهبية في بداية مشواره الفني. بداية من عنوان الفيلم والذي يعني "المجلات الشعبية الرخيصة" والتي كانت تقوم بالأساس على فكرة "الخيال الرخيص"، والتي يعادلها في الثقافة المصرية "مجلات الحوادث" التي تقتات على نشر حوادث عادية بإضافة الكثير من المبالغات والتفاصيل المبهرة من أجل جذب انتباه القارئ.
إنني أحب حقا أن آخذ قصتي، ما أود قوله، مقاطع بسيطة من سيرتي الذاتية، وألقي بهم في عالم أحد الأنواع الفيلمية.
(كوانتن تارانتينو) (3)
يمكننا أن نتلمس هذا الأثر بشكل واضح في جميع أعمال تارانتينو، وبشكل خاص في أغلب مرجعياته السينمائية التي يتعمد نسخها في أفلامه، كمشهد الرقصة الشهير في فيلم Pulp Fiction. هنا تارانتينو يقدم شخصيات حية، ويسقط عليها رؤيته الذاتية وأفكاره شديدة الخصوصية التي تعبر عن فلسفة متكاملة تجاه الحياة، كأن نرى في فيلمه الأول Reservoir Dogs مجموعة من المجرمين يتجادلون بشأن "الإكرامية" والدافع الأخلاقي والاجتماعي الداعم لها.
هذه الفلسفة الخاصة، والدافع الذاتي للتلاعب بالواقع من خلال وسيط فني كالسينما هي أكثر ما يميز بصمة تارانتينو السينمائية. تارنتينو لا يقدم الواقع كما هو، ولا حتى يقدم الأنواع الفيلمية كما تم الاصطلاح عليها تاريخيا، ولكنه يتلاعب بالواقع والتاريخ والتقاليد السينمائية العتيدة من أجل تقديم رؤية خاصة على المستوى الفني والفلسفي.
نرى ذلك بوضوح في فيلمه Inglourious Basterds الذي يقدم من خلاله سردية موازية لحقبة الحرب العالمية الثانية. يتلاعب تارانتينو بالثوابت التاريخية عبر عالمه الفيلمي الموازي الذي يقوم فيه بالانتقام من رموز النازية بحرقهم داخل صالة السينما. يواصل تارانتينو هذا التلاعب الخلاق في فيلمه الأخير Once Upon a Time... in Hollywood على مستويين متداخلين، أحدهما ما يعرف بالـMeta Cinema، حينما يقوم الممثل ريك دالتون (الشخصية الرئيسية بالفيلم والتي يقوم بأدائها ليوناردو دي كابريو) بحرق مجموعة من القادة النازيون باستخدام قاذف للنيران، وهو نفس القاذف الذي يستخدمه الممثل في الواقع (المستوى الثاني) لحرق إحدى عضوات عصابة "عائلة مانسون Manson Family" بنهاية الفيلم.
مرة أخرى يختار تارنتينو حدثا تاريخيا شهيرا، مقتل الممثلة شارون تيت على يد عصابة تشارلز مانسون، ويختتمه بنهاية مغايرة تليق برؤيته الخاصة، ولكن الأمر لا يتوقف عند التلاعب بالوقائع التاريخية والأنواع الفيلمية الراسخة، وإنما يتجاوزه إلى خصوصية النص السينمائي والرؤية البصرية المميزة.
المعالجة السينمائية
في حوار مطول مع موقع "إمباير Empire" حول فيلمه الأخير (4) يقول تارانتينو أن فكرة الفيلم الأولية تمحورت حول عصابة تشارلز مانسون، ولكنه قرر التراجع عن هذه الفكرة بعد بدء العمل على السيناريو، فعلى حد قوله: "لم أرد أن أترك مانسون داخل عقلي". ولكنه عاد بعد سنوات إلى النص غير المكتمل وقرر أن تتحول المعالجة إلى اتجاه مغاير.
ترتكز المعالجة السينمائية لحادثة شارون تيت على تصوير هوليوود في لحظة تاريخية تتحول فيها من عصر الذهبي إلى حالة من الركود الذي أتى على عدد من استديوهاتها العملاقة بفعل تغول تأثير التلفزيون على المواطن الأمريكي، والأثر الذي تركه ذلك التحول على اثنين من الشخصيات الخيالية التي تقاطع مسارهم مع شارون تيت وعصابة تشارلز مانسون.
من خلال الشخصيتين الرئيسيتين، ريك دالتون الممثل الذي اشتهر بتقديم شخصيات الويسترن الأمريكي والذي يتزامن أفول نجمه مع تراجع نوع الويسترن، وبديله كليف بوث الذي احترف أعمال المخاطر أو ما يطلق عليه "الدوبلير"، يأخذنا تارانتينو إلى قلب هوليوود في عصرها الذهبي ويقدم تحية إجلال إلى أبرز رموز هذه الحقبة من خلال عدد من المشاهد كان أجملها على الإطلاق هو ذلك المشهد الذي يجمع بين ريك دالتون والممثل الأمريكي الشهير ستيف ماكوين في نسخة خيالية من فيلم The Great Escape.
هذا التوغل في عالم هوليوود يرتبط بالطبع بشكل أعمق من أشكال Meta Cinema الذي يعبر في أبسط تعريفاته عن تصوير عملية صناعة السينما داخل سياق الفيلم، وهو ما نشاهده في عدد غير قليل من المشاهد التي يقوم فيها الممثل ريك دالتون بأداء عدد من الأعمال التلفزيونية والسينمائية، ويبلغ الأمر ذروته في أحد المشاهد التي يقوم فيها دالتون بتصوير مشهد من مسلسل تلفزيوني يقوم فيه بشخصية الشرير، تنتقل كاميرا تارنتينو لتحل محل كاميرا المخرج التلفزيوني لتنقل لنا صورة حية من المشهد الذي يقوم دالتون بأدائه. يتعثر دالتون في استذكار إحدى الجمل، ليعيد المخرج تصوير المشهد، فتعود بنا الكاميرا مرة أخرى وكأننا نشاهد تصوير المشهد، وليس إحدى مشاهد فيلم تارنتينو.
ما يعمق من التجربة السينمائية هنا هو استخدام تارانتينو لشريط السيلولويد التقليدي وليس الشريط الرقمي Digital، والتي تعتبر إحدى العلامات المميزة لأسلوب تارانتينو، غير أن الأمر هنا يرتبط بشكل أعمق بالمعالجة السينمائية.
كوانتين تارانتينو هو أحد القلائل الذين يواصلون الاعتماد على شريط الفيلم التقليدي السيلولويد رغم تكلفته الباهظة التي تصل إلى 1500 دولار في النسخة الواحدة، في حين أن شريط الديجتال لا يتجاوز 150 دولار فقط.
عن سر تمسكه بالشريط التقليدي، يقول تارانتينو: "أنا مؤمن بسحر السينما، وبالنسبة لي يرتبط سحر السينما بفيلم 35 مليم. الجميع يعتقدون أن تصوير الفيلم يعني تسجيل للحركة، ولكنك لا تقوم بتسجيل الحركة، وإنما تلتقط عدد من الصور الثابتة التي تخلق وهم الحركة أثناء عرضها بمعدل 25 إطار بالثانية، وهذا الوهم شديد الارتباط بسحر السينما". (5)
عدد قليل من المخرجين أمثال مارتن سكورسيزي، وستيفن سبيلبرج، وكريستوفر نولان يشاركون تارانتينو في رؤيته الرومانسية للشريط التقليدي، ولكن الأمر يتجاوز ذلك إلى رؤيتهم للخبرة الواقعية التي يضفيها هذا الشريط إلى الصورة السينمائية، الذي يوفر ألوانا أكثر حيوية، وظلالا أكثر قتامة، وبالتبعية صورة أكثر واقعية.
هنا في Once Upon a Time... in Hollywood يتصل ولع تارانتينو بفيلم السيلولويد بشكل مباشر بالمعالجة السينمائية والتي تدور أحداثها في هوليوود بنهاية الستينيات حيث السلولويد هو المادة الوحيدة المستخدمة في صناعة الأفلام قبل دخول الفيلم الرقمي إلى عالم السينما أول مرة في عام 1999.(6) ومن ذلك أيضا اعتماد تارانتينو على النسبة الباعية Aspect Ratio والمزج بين نسبة 16:9 لأغلب مشاهد الفيلم، وهي النسبة المعتمدة في تلك الفترة، ونسبة 4:3 في عدد من المشاهد المرتبطة بالتلفزيون مثل المشهد الافتتاحي بالفيلم.
النص السينمائي
في تعريف معجم أكسفورد لمصطلح Tarantinoesque نحد إحدى أهم العلامات المميزة لسينما تارانتينو وهي الحوار السينمائي. يصطبغ الحوار في سينما تارانتينو بصبغة شديدة الخصوصية إلى الحد الذي يمكن معه تمييز حواره حتى في أفلام ليست من إخراجه. هذا الحوار المميز يرتبط إلى حد كبير بأحد أهم عناصر الكتابة السينمائية وهي رسم الشخصيات.
في المشهد الافتتاحي لفيلم Once Upon a Time... in Hollywood وفي حوار تلفزيوني يجمع ريك دالتون وبديله كليف بوث، يسأل المذيع بوث: "هل يمكننا القول أنك تحمل عن دالتون أعباءه؟" فيجيب الأخير: "بلي، يمكنك قول ذلك".
هذه الجملة الحوارية البسيطة تحمل الكثير من الإرهاصات بشأن الشخصيتين الرئيسيتين في أول مشاهد الفيلم، وبشكل حرفي وليس مجازي، ولكن ربما علينا قبل ذلك أن نرجع إلى جذور الشخصيتين.
كما أسلفنا، فإن شخصية دالتون هي شخصية خيالية وليست حقيقية، استلهمها تارانتينو من عدد من الشخصيات الحقيقية مثل George Maharis جورج ماهيرس، وEdd Byrnes إيد برنيس، وTab Hunter تاب هانتر، على حد قوله في مقابلته مع موقع إمباير، وما يعود بنا إلى المعالجة السينمائية التي تصور هوليوود في هذه الحقبة المميزة من تاريخها. كذلك شخصية بوث وعلاقة الصداقة التي تجمعه بدالتون، والتي استلهمها تارانتينو أيضا من شخصيتين حقيقيتين هما الممثل هال نيدهام Hal Needham، والدوبلير بيرت رينولدز Burt Reynolds، واللذين جمعتهما صداقة قوية في السبعينيات.
غير أن النص السينمائي يتجاوز بالتأكيد عنصر الحوار، حتى مع الإقرار بمدى مركزيته في سينما تارانتينو، ويمكن القول أن هذه المركزية تتراجع هنا في Once Upon a Time... in Hollywood على حساب الشخصيات نفسها والتي اعتمد تارانتينو على التعبير عنها بصريا أكثر من اعتماده على الحوار.
يمكننا أن نلمس ذلك في عدد من التفاصيل البسيطة مثل تأتأة دالتون الطارئة التي تداهمه أثناء التوتر، فنراها في مشهده الوحيد مع المنتج السينمائي مارتن شوارز (قام بدوره آل باتشينو) في إشارته إلى أفول نجم دالتون، ونراها كذلك أثناء تعثره في استذكار الجمل الحوارية أثناء تصوير أحد المشاهد. هذه التفصيلة البسيطة التي تشير إلى هشاشة دالتون واضطرابه أمام الواقع المتغير من حوله، والتي تشير أيضا إلى جانب نفسي أصيل في الشخصية يمثل رمزية واضحة إلى واحد من عناصر الصناعة وأكثرها بريقا، النجم.
أما شخصية بوث، فاختيار مهنته يحيلنا على الفور إلى سمات شخصية واضحة، كجرأته الشديدة، وولعه بالمخاطرة، وميله إلى العنف، وهي الصفات التي تلازم بحثنا عن إجابة السؤال المفتوح طوال الفيلم: "هل قتل بوث زوجته؟". بانتقال السرد في الفصل الأول إلى التأسيس لشخصية بوث، نرى تتابع من اللقطات أثناء خروج بوث من منزل دالتون وفي طريق عودته إلى منزله. يستبدل بوث سيارة دالتون بسيارته الخاصة، ثم يخوض الطريق الجبلي الملتوي في سرعة متهورة، تشي بسمات الشخصية، وترسمها سينمائيا.
في تتابع آخر نشاهد شارون تيت تقضي يومها العادي ما بين متجر للكتب حيث تبتاع هدية لزوجها، أو ذهابها لمشاهدة فيلمها بإحدى السينمات، أو نزوعها إلى الرقص من وقت إلى آخر. يقول تارانتينو أن الصورة الذهنية المرتبطة بشخصية شارون الحقيقية دائما ما يتم اختزالها في نهايتها المأسوية، ولذلك فهو هنا يحاول أن يضفي جانبا إنسانيا على حياة هذه الشخصية يتجاوز هذا الاختزال المخل. هنا أيضا ينزع تارانتينو إلى رسم شخصياته بصريا من خلال الصورة وليس الحوار.
ربما يكون فيلم Once Upon a Time... in Hollywood هو أقل أفلام تارانتينو جودة، ولكنه بالتأكيد فيلم جيد مطبوع بخاتم تارانتينو، ومطابق تماما لمصطلح أكسفورد الحديث.**