"إنني متطوع عربي جئت لأدافع عن الحرية في مدريد وعن دمشق في وادي الحجارة وعن القدس في قرطبة وعن بغداد في طليطلة وعن القاهرة في قادش وعن تطوان في برغوس " هكذا دون الكاتب والمناضل الفلسطيني نجاتي صدقي إحدى ذكرياته عن الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثنيات القرن الماضي، لُتصبح هذه الحرب فصل من فصول مأساه إنسانية مُمتدة لأكثر من نصف قرن. تنسج المخرجة أمل رمسيس خطوط هذه الحكاية من بدايتها في الفيلم التسجيلي " تأتون من بعيد " والذي عُرض مؤخرا في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة في الدورة 21 من مهرجان الإسماعلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة.
يبدو الفيلم ليس فقط مهموماً برصد حكاية مُثيرة عن أسرة أرغمتها الحروب على التفرق، لكنه يَمتد لما هو أعمق، رصد الوجه الأخر للحرب، والشتات وما يتبعه من إزدواج الهوية، وتدفق الذكريات التي لا مناص من قنصها قبل أن يلتهما طوفان النسيان. " هند " و" دولت " و" سعيد " أسرة حكم عليها الزمن بالشتات، ثلاثة أشقاء يقبع كل منهم في بلد ما بلغة مُغايرة عن لغته الأم، حكاية واحدة، لكن لا أحد يَملك فصولها مُكتملة، فللحكاية أوجه عديدة.
موسكو .. أثينا
يبدأ الفيلم بمشهد مُصور لشاشة تليفزيون تعرض صوراً لغزو العراق 2003، لتصبح هذه المشاهد إستهلالهاً لعالم الفيلم المحفوف بالحروب، فالبداية من المنتهى، وفي المشهد التالي نرى " دولت " وهي تسير برفق في شوارع موسكو وتبدأ في سرد الحكاية من البداية، مُنذ إقتلاعها كجذوع الأشجار من القدس حيث ولدت لأب مُناضل فلسطيني وأم أوكرانية، وذهابها إلى روسيا، لتبدأ حياة جديدة. فقد اختار السيناريو أن تُروى الحكاية بأسلوب الرواه المتعددون، " دولت " و" هند " كل منهما تَسرد الأحداث من زاويتها، ومن واقع رؤيتها لها، مشهد من هنا مع أخر من هناك لتكتمل مصفوفة السرد بشكل أشبه بقطع البازل الذي لا يكتمل إلا بأصواتهن معاً، ففي إحدى المشاهد نرى " هند " وهي تعرض صور العائلة، ليتقاطع المشهد بأخر نرى فيه "دولت" تعرض هي الأخرى بقية الصور، وتُكمل حكي هند، وهكذا في أغلب مشاهد الفيلم، حتى نصل للنقطة المحورية القائمة عليها فكرة الفيلم، " دولت " وإنتزاعها من جذورها، بعد القبض على الأب والأم لنضالهما ضد الإنتداب البريطاني وإيداعهما السجن في القدس، ليقرر الحزب الشيوعي إرسال الأبنة إلى موسكو في إحدى دور الرعاية.
يُعبر الفيلم عن فكرته من خلال طرحها عبر مستويين، تاريخي عام، وشخصي خاص، ليمتزج الإثنان سوياً ويتحدا ويُشكلا مزيجاً خاصاً للحكاية لا يخلو من شاعرية وعذوبة معاً. فمن خلال المستوى التاريخي والذي يُعد بمثابة التمهيد، وبواسطة المشاهد التليفزيونية والسينمائية النادرة والتعليق الصوتي المُصاحب، والمزج بينها وبين الحاضر نُعايش أحداث القرن العشرين المُتأججة بالصراعات والحروب، فالبداية مع فترة الإنتداب البريطاني لفلسطين مروراً بالحرب العالمية الثانية والنكبة 1948، إنتهاءٍ بالحرب الأهلية اللبنانية، لكن يظل الجزء الخاص بالحرب الأهلية الإسبانية هو الأكثر إثارة والأغزر معلوماتياً، فعلى رغم تعدد الأحداث المشحونة بالمعلومات والتي تتطلب قدراً ولو يسيراً من التركيز، إلا أن المعلومات تتدفق في إنسيابية دون الشعور بأننا أمام فيلم لا يُقدم سوى المعلومة في قالبها الجاف.
أما المستوى الثاني للفيلم الشخصي، أضفى حس حكائي ليبدو الفيلم في تسلسل وقائعه أشبه بالفيلم الروائي وكأنه يحوي تطورات درامية بين طياته وبشكل قد لا يشعر معه المتفرج سوى بمتعة مُضاعفة، فمن خلال هذا المستوى تُنسج الحكاية الأصلية للأسرة ذاتها وأثر التغيرات والحروب عليها وذلك بالتوازي مع الأحداث العالمية، لتبدو الحروب وكأنها على الهامش في مقابل حياة هذه الأسرة وقصتها التي تحتل هي المتن، أثر الحروب لا يُغفل، فمع كل حرب تُصاب الأسرة بخطب ما يقوض ويزعزع استقرارها.
" نجاتي صدقي " الأب الذي يرى العالم ساحة معركة من أجل الحرية لتصبح حياته رحلة طويلة مُمتدة يتخللها قدر ضئيل من الإستقرار النسبي، من فرنسا إلى إسبانيا وغيرها من البلاد مُضحياً بأسرته في سبيل نضاله ضد الإستعمار، الأم الأوكرانية الأصل ونضالها مع الأب في القدس، تتطور القصة وتأخذ بُعداً مأساوياً بفعل الشتات، دولت المُبعدة قسراً في موسكو بعد أن تركتها أمها هناك بعد اشتعال الحرب العالمية الثانية وتعود إلى فلسطين، لتفقد هويتها ولغتها ومع ذلك تنتمي لأب عربي، تلتق بأشقائها في بيروت بعد مرور سنوات طويلة، لكن دون حوار فلا يبق لديهم سوى الإشارة وبعض الضحكات على هذه الأخت الغريبة التي لا تفهمهما ولا يفهمانها، فترات الهدوء والإستقرار شحيحة، سرعان ما تشتعل الأجواء مُجدداً مع الحرب الأهلية اللبنانية في السبعينيات، ويبدأوا رحلة شتات جديدة، " هند " في أثينا، و" سعيد " الأخ الأصغر ينتقل إلى البرازيل، و" دولت " لا تزال في موسكو.
أطلال الماضي
قُدمت الحكاية في زمنين، الماضي والحاضر، الماضي عبر إستعادته بالفلاش باك والصور الفوتغرافية والمشاهد المصورة، تتقاطع مع الحاضر، ليبرز تداعيات وأثار الماضي بحلوه ومره، ففي أحد المشاهد نرى " دولت " وهي تُطعم الحمام وصوتها ينساب سارداً قصة الأب وهو قيد الحبس في إحدى سجون القدس، ليضيف التضاد البليغ بين حال الأب الأسير في مقابل الحمام الذي يَنعم بحريته معنى عذباً. كما أمتدت المقارنة الذكية بين الزمنين إلى المدن هي الأخرى، مدريد وشوارعها العريضة كما وصفها " نجاتي صدقي " في مذكراته تتقاطع مع مدريد الحاضر المُكدسة بالسيارات، القدس قديماً والآليات العسكرية تتقدم لإحتلالها لم تختلف كثيراً عن الآن فالمُحتل هو من تبدل وإن بقي الحال كما هو، بيروت ما قبل الحرب الأهلية في الخمسينيات بريشة " دولت " في مقابل بيروت في السبعينيات المُحاصرة بطلقات الرصاص وبيروت الحاضر المُدججة بناطحات السحاب وبمذاق ما بعد الحداثة. وبالتالي الأبطال أيضاً كل منهم في ماضيه الذي ينعكس على حاضره، كل منهم في عالم منفصل وقائم بذاته عن الأخر وبلغة مُغايرة، أطلال الماضي تُخيم وتُحرك أحداث الحاضر، " دولت " الفلسطينية الأصل الروسية النشأة، نراها في مشاهد عديدة وهي تَسير في شوارع موسكو أو وهي تُدندن بحماس الأغاني الوطنية الروسية، تَتمسك بهويتها وتاريخها، تحتفظ بالعديد من الصور الفوتغرافية لأهلها كما تعشق سماع اللغة العربية التي تتحدث بها شقيقتها " هند "، وترغب في أن تسكنُ روحها في القدس محل ولادتها، كما تُخبر حفيدتها " ينبغي أن تستقر روح الإنسان في المكان الذي إنطلقت منه روحه إلى العالم ".
لمسات إخراجية
على مستوى الصورة، صنعت " أمل رمسيس " صورة شاعرية عبر مزج المشاهد التليفزيونية بالتصوير الحي لتتدفق المشاهد في سلاسة، مع قطعات مونتاجية محسوسة لا نكاد نشعر بها، بالإضافة إلى مشاهد الأشجار التي غلفت الفيلم، في اشارة واضحة إلى الأصل والجذور، " دولت " تشبه الشجرة التي تنبت في أرض غير أرضها، ففي إحدى المشاهد تصف " دولت " حالها قائلة " عندما ينفصل شخص ما عن موطنه ويذهب إلى بيئة مُختلفة، أشبه بإقتلاع الأشجار من جذورها وزرعها في أرض أخرى، لن ينجو جميعهم ". كما تلجأ المخرجة في مشاهد عديدة للـ Close up، تقترب حيناً من وجه " دولت " وهي تَجلس مُبتسمة وحيناً أخر وهي تبكي، تلتقط ملامح وجهها وتَعبيراته الممزوجة بالألم، لنقترب أكثر من الشخصيات ونُدرك واقعها وحياتها وكأننا نعرفها منذ زمن ونكاد نتوحد مع أزمتها.
إزدواج الهوية النابع من الشتات، أحد أهم الأفكار التي تناولها الفيلم، ثلاثة أشقاء مُبعثرين في أرجاء العالم، كل منهم يتحدث بلغة ما ولكل منهم هوية أخرى غير هويته الأصلية، لقاءاتهم نادرة مُفعمة بالشجن والذكرى، ففي مشهد من أرق مشاهد الفيلم نرى اللقاء الأخير بين الأشقاء الثلاثة في موسكو وكأنهم ينتهوا من حيث ما بدأت فصول المأساه، يقف سعيد مُنتظراً وصول " هند " و" دولت " لتُظهره الصوره من وراء زجاج يعكس ملامح وجهه وتكوينه الجسدي بشكل مُكرر وكأنه أثنين، جزء واضح تماماً والأخر باهت بالكاد نتبينه، وكأن الصورة تُخبرنا عن الأزمة التي يُعانيها، سعيد المُهاجر إلى البرازيل بتاريخ وحاضر جديد، ينعكس ماضيه بداخله ولايزال ينبض بالحياة، ثم يجتمع الأشقاء معاً أخيراً، وتقترب الكاميرا من أيديهم وتلتقط تشبثهم ببعضهم البعض، ليُحمل المشهد بدفقة شعورية مُطعمة بالشجن.
تجلس " دولت " مع " هند " و" سعيد " بجوار بعضهم البعض في إحدى الحدائق، ترصد الكاميرا من زاوية مُقربة تعبيرات وجوههم وكل منهم يقول كلمته عن الغربة، فقد تنوعت وتباينت رؤيتهم وإن إتسقت مع بعضها البعض في النهاية، لكن تظل جملة " سعيد " " كنا نشعر بأننا غرباء، الإحساس بالغربة لدي صار طبيعياً، الإنتماء بالعكس " موحية بالأسى ومُعبرة عن مضمون الفيلم، فقد قدمت " أمل رمسيس " معزوفة بالغة الرقة عن الشتات، صداها سيتردد طويلاً بداخلنا، مُفجرة سؤال تلو الأخر عن ماهية الوطن.
اقرأ أيضا
كل ما تود معرفته عن "زي الشمس".. الخلافات سيدة الموقف!
كل ما تود معرفته عن مسلسل "قابيل".. أجواء بوليسية ومغامرة السيناريو