عادة من ينتمون إلى القرى المصرية، يولدون خارج حدود الحلم والاهتمام، حيث يتركز كل شيء في المدن وتظل القرى فقيرة، خصوصا لمن يملكون حلما يلح عليهم، من يملكون موهبة ويرغبون في رؤية هذا الحلم وقد صار، لذلك يشعر أصحاب تلك المواهب وكأن جلدهم يضيق عليهم، فيواصلون الركض، فتانا أو نجمنا كان واحدا من هؤلاء ابن "المطامير" محافظة البحيرة. إنه محمود الجندي الذي ولد يوم 24 فبراير 1945 ورحل في 11 أبريل 2019.
هرب الجندي من واقع حياتي كان يراه رتيبا، خاصة بعد أن التحق بمدرسة الصنايع قسم النسيج، وفي لحظة ما جلس فتانا أمام شريط القطار في قريته وشاهد نفسه بعد أن يتخرج في مدرسة الصنايع و قد أصبح صاحب مهنة و"ماهية" ثابتة أي راتب شهري، وزوج يعود إلى منزله في وقت محدد، يتناول غذائه ويحصل على قيلولته، وهكذا تستمر الحياة، أو أن يهرب هناك إلى مدينة القاهرة تلك المدينة الواسعة والتي تستطيع لوحدها أن تمنحه حلمه بأن يصبح ممثلا ونجما، يتصدر اسمه الأفيش، أو يشارك نجوما كبار أعمالهم، وأفاق الفتي على صوت القطار، وكان صوت "صافرة "القطار بمثابة علامة من العلامات التي يجب أن يسير ورائها، فقد ندهته النداهة تماما كما جاء في رواية الكاتب الراحل يوسف إدريس" النداهة" وبالفعل ركض محمود الجندي إلى القاهرة، محددا وجهته إلى المعهد العالي للسينما.
ابن اللحظات الفارقة
ويبدو أن الجندي كان مكتوبا عليه دائما أن يعيش في لحظات فارقة، كان لها آثرا كبيرا على حياته، حيث التحق بالمعهد العالي للسينما، والبلد كلها تعيش هزيمة انكسار يونيو وكان وقتها مجندا في سلاح الطيران في الجيش المصري، وتخرج في بداية 1973، لذلك شارك في حلم تحرير الأرض وبعد ذلك بدء في تحقيق حلمه سواء في الغناء أو التمثيل، وكان الجندي بالفعل من أجمل الممثلين الذين غنوا، فهو لم يكن يملك أذنا موسيقية ويجيد الغناء الصحيح فقط، ولكنه كان يستطيع التجويد وغناء المواويل، إلا أنه كان يعتبر الغناء حلية في أعماله التمثلية، حيث كان مهموما أكثر بالتمثيل وبدء انطلاقاته مع النجم الكوميدي فؤاد المهندس في مسرحية " إنها حقا عائلة محترمة" 1979، والتي كانت انطلاقته إلى عالم التمثيل عمومًا. فقد أثبت نفسه في تلك المسرحية، ومع عادل إمام في " أحلام الفتي الطائر 1980"، وواصل الجندي إبداعاته في العديد من الأعمال المهمة والمؤثرة والتي باتت جزءا من وجداننا منها "الشهد والدموع"
واذا كانت الدراما التليفزيونية وطبيعة الأدوار التي جسدها هي من قدمته للجمهور من أوسع باب خصوصا دور الفتي الفهلوي والشاطر والجدع وابن البلد، إلا أن الجندي كان أحد النجوم المتمردين في السينما، وكان شاهدا ومشاركا في بداية تيار الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وقدم العديد من الأدوار المميزة مع عاطف الطيب، وخيري بشارة، وشريف عرفة، وبشير الديك، وعلى بدرخان.
وبنظرة متأنية لأفلامه ومشاركاته المميزة وحتى الأدوار الخفيفة سنجد أنه من أكثر النجوم الذين قدموا أدوارا في أفلام تعد من أهم انتاجات السينما المصرية، وأيضا الأفلام التجارية، وما كان يطلق عليه مجازا أفلام مقاولات.
قدم أدوارا لا ينساها له الجمهور أبدا، ومنها دوره الشهير في فيلم "شمس الزناتي" مع الفنان عادل إمام، والذي جسد فيه شخصية "عم سلامة الطفشان" الذي أحبه أطفال الواحة، والمثقف الثوري السكير في "ناجي العلى" مع بشير الديك ونور الشريف وعاطف الطيب والذي كان يصرخ بجملته الشهيرة والتي تحولت إلى عبارة دارجة يتم استخدامها بهدف السخرية من الوضع العربي المتأزم"هي الجيوش العربية مش هتيجي؟ ليه بيحاربوا في حتة تانية!".
وتعاون محمود الجندي مع الفنان عادل إمام في فيلم "اللعب مع الكبار" تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة، وقدم شخصية محورية في الفيلم وهي "علي الزهار" الذي يكشف لصديقه حسن بهلول "عادل إمام" عن مكالمات يسمعها أثناء تأدية وظيفته في السنترال، وجسد الجندي الشخصية ببراعة شديدة وحقق نجاحا كبيرا لدى الجمهور، وشخصية "ضيا" مع المخرج المبدع نيازي مصطفي في فيلم "التوت والنبوت" والمأخوذ عن قصة الأديب العالمي نجيب محفوظ من بطولة عزت العلايلي، وتيسير فهمي، وأمينة رزق، وسمير صبري، وجسد في الفيلم الجندي شخصية "ضيا الناجي" الشاب المستهتر الذي يسعى وراء المال.
ومن أدواره المهمة أيضا "حربي الأبكم " أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة من خلال أحداث فيلم "يوم مر ويوم حلو" وشاركه في البطولة محمد منير، وسيمون، وحنان يوسف، وعبلة كامل، والفيلم للمخرج خيري بشارة.
وكان له تواجدا مميزا مع الثنائي الشهير أسامة أنور عكاشة وإسماعيل عبد الحافظ ومن أهم مشاركاته معهما المسلسل الشهير "الشهد والدموع"، وجسد الجندي خلال أحداثه شخصية "شوقي رضوان" الشاب الذي يعمل مع والده في تجارته وتنشأ خلافات بينه وبين أخيه، وحقق المسلسل شهرة كبيرة على المستوى الجماهيري وقت عرضه.
أسطى التمثيل
الجندي كان مشخصاتيا كبيرا وواحدا من أهم أسطوات التمثيل المصري، وفنان من أصحاب الوعي الثقافي والسياسي والذي لم يتوقف يوما عن طرح الأسئلة فيما يتعلق بالدين والخالق، وماهية الوجود، إلا أنه بجانب كل ذلك كان يملك حسا صوفيا خالصا جعله يعيش رحلة بحث في كل المسلمات وأدرك أن أهم شىئ أن يكون الإنسان متسقا مع ذاته شاعرا بالرضا قادرا على المنح والعطاء، وجاء حادث حريق منزله ووفاة أم أبنائه السيدة ضحي بمثابة علامة جديدة شكلت ملامح الجندي في آخر عشر سنوات عاشها، حيث بات أشبه بمشايخ المتصوفة، وعاد إلى بلدته كأنه أصبح يدرك ويعي أن جزءا من روحه لم يفارق تلك البلد بعد، وانه سيعود إلى طينها وأرضها من جديد.
لذلك سجل الفنان الراحل محمود الجندي تفاصيل أعظم مشروع قام به- كما وصفه هو- قبل وفاته حيث قال الجندي إنه راضي جدا وسعيد بالفرقة المسرحية التي أسسها في مسقط رأسه قرية أبو المطامير لرعاية المواهب الشابة وإثقالهم بالخبرة الفنية التي اكتسبها على مدى تاريخه الفني و أن هذا هو الاستثمار الحقيقي وأن هذا قيمته أكبر من مشروع أرباحه ١٠٠ مليون جنيه.
الجندي مثله مثل العديد من نجومنا الكبار أصحاب المواهب الحقيقية والثقيلة، والذين آثروا الفن ألا أنهم كانوا يشعرون بمرارة من عدم التقدير لذلك لن أجد أصدق من تعبيره عندما صرح في حوار تليفزيوني "لا أرغب أن أتطرق لأمور شخصية أو أظل اشتكي دائما، لكن هناك أشياء تسبب لي الضيق لم يعد التقدير في الوسط الفني مرتبط بالتاريخ أو الخبرة بل أصبح مرتبطا بالأجر، وأضاف يجب أن يتم وضع معايير أخرى للتقدير ولن يتم ذلك من خلال المنتج الخاص بل يجب أن يتم من خلال الدولة أصبحت أنا وزملائي مجرد إكسسوار يتم الاستعانة بهم في الأعمال".
هذا ما تفعله المنظومة الإنتاجية البائسة في نجومنا الكبار، تجعلهم يشعرون بأنهم مجرد قطع زائدة عن الحد، ولكن الجندي لم يكن أبدا قطعة إكسسوار بل فنانا كبيرا شديد العطاء والموهبة ومن فرط نعومة أدائه وقدرته على التلوين، وتجسيد شخصيات مختلفة كنا ولا نزال نرددها مهما كانت صعوبة الشخصية " عملها حلو أوي .. طبعا ما هو محمود الجندي".
اقرأ أيضا
الحزن يخيم على الوسط الفني في أسبوع.. رحيل هؤلاء الفنانين وإصابة بمرض خطير
المطرب محمود الجندي صاحب "فنان فقير".. ألبوم وحيد ومواويل "البرنسيسة" وذكريات لمحبي "كوكي كاك"