هناك نوع من الأفلام يحمل الجدل داخله بصورة تلقائية، أحيانًا بسبب شكله السردي والبصري، وكثيرًا بسبب الموضوع، إلا أن هناك أعمال معدودة يمكنها أن تجمع الجدلين، الموضوعي والشكلي، جنبًا إلى جنب. ضمن هذه القائمة يُمكن وضع فيلم "بفضل الله Grâce à Dieu"، أحدث أفلام المخرج الفرنسي القدير فرانسوا أوزون، والذي عُرض للمرة الأولى عالميًا ضمن المسابقة الدولية لمهرجان برلين السينمائي الدولي ليكون أول فيلم يفتح باب نقاش حقيقي بين حضور المهرجان.
الفيلم يروي الأحداث الحقيقية لقضية لم تُحسم بعد، فالحكم فيها من المتوقع أن يصدر خلال شهر مارس المقبل، تتعلق بقس كاثوليكي من مدينة ليون متهم بالتحرش بالأطفال خلال أعوام طويلة كان فيها مشرفًا على معسكرات كشفية دينية. جرائم ظلت أعوام طويلة طيّ الكتمان إما بسبب خوف الأطفال عن البوح أو لقرار أسرهم بتوجيه الشكوى داخليًا لإدارة الكنيسة الكاثوليكية وليس للشرطة، ففي النهاية هي أسر متدينة تثق في الكنيسة التي وعدتهم بعقاب القس، حتى يكتشف أحد الضحايا أن العقاب كان نقله عدة أعوام عاد بعدها ليواصل عمله مع الأطفال.
قضية اليوم وكل يوم
الجدل حول انتهاكات الرهبان الكاثوليك الجنسية يمكن اعتبارها إحدى قضايا الساعة في كثير من المجتمعات الأوروبية، لا سيما بعد الحراك الشجاع من البابا فرانسيس فور توليه نحو مواجهة الظاهرة والكشف عن مرتكبي هذه الجرائم، القرار الذي ترتب عليه بالفعل عدة قرارات بشأن رهبان، والذي كان أحد دوافع رب أسرة فرنسي أن يستعيد ذكرياته المؤلمة ويقرر إعادة فتح القضية، بالرغم من مرور 20 عامًا هي الفترة التي يسقط بعدها حق الضحية في التقاضي، وهي القاعدة التي وقف ضدها أبطال الفيلم الحقيقيون؛ باعتبار هذا النوع من الجرائم عادةً ما تحتاج ضحيته لأعوام حتى تمتلك شجاعة البوح بما تعرضت له.
إلا أن القضية أيضًا ـ وكما يطرح أوزون في خلفية فيلمه ـ هي قضية كونية يمكن ربطها بكافة الأماكن والأزمنة والأديان، قضية خيانة الأمانة من قبل رجال الدين الذين يثق فيهم المؤمنون بلا حدود، ويفترضون فيهم الطهارة الكاملة بحكم قربهم من الإله، بينما هم في نهاية الأمر مجرد بشر، منهم الضعيف والمخطئ، والمريض الذي تمنحه سلطة الرداء الديني مساحة شاسعة لتحويل مرضه جرائم دنيئة، تمامًا مثل الأب بريناه الذي خان الأمانة وسبب جرحًا لا يندمل لعشرات (وربما مئات) الأطفال.
تلك الخيانة هي سبب قيام الضحايا، الذين اجتمعوا تباعًا وشكلوا منظمة أهلية هدفها الكشف عن الجريمة ومحاسبة المخطئ، بتصعيد الأمر ومقاضاة رأس الكنيسة في ليون باعتباره متواطئًا مع بيرناه لعلمه بالأمر وإصرار على تجاهله والتلاعب بالشكاوى حتى تنتهي إلى لا شيء. الفيلم المبني على الأحداث الحقيقية يروي كذلك هذه الحكاية: ثقة البعض في إمكانية الكنيسة بتصحيح أخطائها داخليًا، وتطور هذه الثقة إلى المزيد من الآلام.
يدرك فرانسوا أوزون أن لفيلمه بعدًا تسجيليًا، يرتبط بقضية راهنة لا تزال قيد البحث والجدل والتقاضي، فيؤكد على هذه الروح في عمله، عبر جماليات التصوير الواقعي دون أي ألاعيب تسلب الفيلم هذا الحس، وعبر تركيز كبير على أداء الممثلين الذي يظهرون جميعًا، وعلى رأسهم الرجال الثلاثة أبطال الحملة، بصورة رائعة قد تجعل لجنة التحكيم التي ترأسها النجمة الفرنسية جوليت بينوش تقرر منح أحدهم ـ أو جميعهم ـ جائزة التمثيل.
جدل الشكل السردي
ما سبق كان كفيلًا بجعل "بفضل الله" فيلم قضية، من نوعية الأعمال التي تستمد قيمتها من مضمونها فحسب، إلا أن أوزون اختار شكلًا سرديًا غير متوقع خلق جدلًا موازيًا بين مُعجب ومتحفظ. هو تقسيم الفيلم إلى ثلاثة فصول، لكل منها بطل هو أحد الأشخاص الذين تعرضوا للتحرش من قبل الراهب.
الانتقال يمنح الحكاية ديناميكية وثراء في وجهات النظر، فتبدأ الأحداث مع رب الأسرة المتدين الذي يُثير القضية للمرة الأولى، والذي يدفعه إيمانه في البداية إلى محاولة تصعيد الشكوى داخل الإطار الكنسي، قبل أن ينتقل التركيز في ثلث الطريق إلى الملحد المتحمس الذي يريد إحداث تأثير موجع للكنيسة بشكل عام أكثر من معاداته للراهب، والذي يكون المحرك الرئيسي لتكوين المنظمة، ثم يتحول المسار في الثلث الأخير إلى الشاب صاحب مستوى الذكاء المرتفع، والذي كان من الممكن أن يكون له شأن آخر، مالم يتسبب الراهب المتحرش له في تشوهات نفسية وجسدية.
كل خط من الثلاثة يأخذ وقته الكامل من التعبير عن حياة بطله وكيف أثرت صدمة الماضي عليها، مع تشابك يبدأ من القصة الثانية لتبدأ مصائر الشخصيات ترتبط ببعضها البعض. بناء يزيد تلقائيًا من زمن الفيلم الذي يبلغ ساعتين وربع، لكنك وإن لم يوقف تغيير الشخصية الرئيسية متابعتك، لا تشعر أبدًا بهذا الطول في ظل الإيقاع السريع وكثرة الخطوط التي يتابعها الفيلم.
يُضاف لذلك نضج معتاد من أوزون في رسم الشخصيات ونسج العلاقات بينها، متفاديًا أكبر فخين يمكن أن يقع فيهما فيلم مثل هذا: تنميط الشخصيات فيكونوا تنويعات لصورة الضحية المغلوبة على أمرها، والتعامل الجمعي معهم بعد تكوين المنظمة بحيث تفقد كل شخصية وجودها المستقل ويصير الصراع بين كيانات. الفيلم لا يقع في الفخين ويرسم الشخصيات بعناية، مهتمًا بالبناء النفسي والأسري لكل منهم على اعتبار أن علاقة الفرد بوالديه وأشقائه هي المحرك الأهم الذي يصيغ علاقته بالمقربين منه باقي حياته.
أبطال "بفضل الله" شخصيات من لحم ودم، لكل منهم نقاط ضعفه وقوته، وفرادته الشخصية والأسرية التي جعلته يتعامل مع حادث الطفولة بطريقة تختلف عن غيره، بل ويتعامل مع حملة الكشف عن المجرم بشكل مختلف أيضًا، فصحيح أن الحملة ترفع شعارات موحدة، لكن لكل عضو فيها أهدافه المختلفة عن زملائه.
"بفضل الله" فيلم كبير ومثير للجدل على المستويين الفكري والفني، جاء به فرانسوا أوزون، المخرج الدؤوب الذي لا يتوقف عن العمل، إلى برلين، ليمنحنا أول أفلام المسابقة التي تستحق الانتباه.
اقرأ أيضا