بعد ثلاثة أعوام تقريبًا من حصوله على أوسكار أفضل نص مقتبس عن فيلمه The Big Short يقدم المخرج آدم مكاي فيلمه Vice، الذي كتبه بمفرده هذه المرة بعد أن كان مشاركًا في الكتابة في فيلمه السابق، الذي يعرض في القسم الرسمي خارج المسابقة في مهرجان برلين في دروته 69، بعد أن حصل على 8 ترشيحات في الأوسكار أغلبها في فئات مهمة.
لا يمكن الحديث عن Vice دون التوقف عند The Big Short، إذ أن الفيلم الأحدث يعد امتدادًا واضحًا للأسلوب المميز واللافت الذي قدمه مكاي في فيلمه السابق.
عن أي أسلوب نتحدث؟ هذا ما سنحاول التعرض له خلال السطور التالية:
السياسة للمبتدئين
تُتابع أحداث فيلم Vice قصة صعود السياسي الأمريكي المعروف "ديك تشيني" من مجرد عامل فاشل محدود الدخل إلى أن أصبح نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش رسميًا، والمتحكم الحقيقي في زمام الكثير من القرارات التي قلبت موازين العالم كله أثناء وجوده في منصبه.
بالنسبة لأكثر من نصف الشعب الأمريكي (بناء على أحدث إحصائية من مؤسسة Pew) يعد قرار الحرب على العراق قرارًا سيئًا.. بمرور الوقت اتضحت الصورة بشكل أكبر، لم يكن وحده هو المتحكم في زمام الأمور، بل ربما لم يكن إلا واجهة هشة، بينما العقل المدبر هو "ديك تشيني"، الذي كان يتمتع بصلاحيات مخيفة داخل البيت الأبيض.
والآن لدينا شخصية سياسية مكروهة وربما شيطانية أيضًا، بجانب عدة شخصيات ثانوية لها نصيبها من الكره أيضًا، بالإضافة لقرارات سيئة لا تزال آثارها واضحة على العالم، فلماذا لا نقدم فيلمًا كوميديًا؟
الكوميديا أبعد ما يكون عما ذكرناه، ولكنها كانت خيار المخرج والمؤلف آدم مكاي ليصنع فيلمًا يندر أن نشاهد مثله على مستوى السيناريو تحديدًا.
كان أمام مكاي عدة تحديات مبدأية يجب إيجاد حلول لها حتى يخرج السيناريو في الصورة التي يودها والتي يمكن أن تجذب المشاهد في الآن ذاته.
أول هذه التحديات هو كيفية تبسيط وتقديم هذه الأحداث السياسية، هناك العديد من التفاصيل التي يعرفها المشاهد بالتأكيد نظرًا لقُرب زمن الأحداث، وفي الوقت نفسه توجد الكثير من الوقائع التي لا يعلمها، وهي كواليس هذه القرارات، بجانب وجود عدة مصطلحات سياسية تحتاج إلى شرح وتوضيح.
هنا نجد أولى مظاهر التشابه مع فيلمه السابق، في The Big Short كان الأمر أعقد إذ أن الفيلم احتوى على الكثير من المصطلحات الاقتصادية المتخصصة جدًا، والتي قرر مؤلفا السيناريو أن يأتيا بأشخاص ليسوا داخل أحداث الفيلم ليشرحوا هذه المصطلحات مباشرة للجمهور بأمثلة بسيطة قبل أن يستمر سرد الأحداث مرة أخرى.
في Vice يلجأ مكاي لنفس الحيلة لكن يقدمها بشكل مختلف، فنستمع منذ البداية إلى تعليق صوتي لشخصٍ ما مجهول الهوية يُدعى "كِرت" جيسي بليمونز ثم نشاهد هذا الشخص كل عدة مشاهد كواحد من العمال أو الجنود الذين حاربوا في العراق، يلعب "كِرت" دور المعلق على الأحداث، دون أن يكون طرفًا حقيقيًا فيها، إلى أن نكتشف في الثلث الأخير علاقته الطريفة بالأحداث، والتي تجعلنا ننتقل إلى التحدي الثاني.
الكوميديا لعرض الحرب
لم يكن من السهل إعادة تجسيد شخصية ووقائع عاصرها الكثيرون وربما لا يرغبون في تذكرها، وهكذا كان يجب إيجاد مدخل ما يجذب المشاهدين، وكان المدخل متمثلًا في المعالجة الكوميدية التي طرحها الفيلم بذكاء وحرص شديدين.
يؤسس مكاي لهذه التناول الساخر منذ أول مشاهد فيلمه، إذ يكتب على الشاشة، ”هذا الفيلم عن قصة حقيقة“ ثم يظهر سطرٌ آخر ”بقدر ما سمح لنا هذا المخابراتي اللعين "تشيني" باستكشاف حياته“. هكذا بتنا نتوقع أن الفيلم يسخر من الشخصية وهذا هو منهجه في تناولها.
بالمناسبة هذه اللافتة الافتتاحية كشفت لنا أيضًا عن طبيعة وجهة نظر المخرج للشخصية التي سيقدمها، فمن ينتظر فيلمًا محايدًا كما يطلب بعض المشاهدين عادة عند التعرض للتاريخ، فإن هذا الفيلم ليس له، فالمخرج منذ البداية يُظهر عدم رضاه عن شخصية "ديك تشيني".
تستمر الكوميديا في الفيلم بشكل خفي يطل بوجهه فجأة ليلقي دعابة ذكية ثم يختفي مرة أخرى، وتتجلى هذه الكوميديا الذكية بقوة في مشهد النهاية الافتراضية للفيلم وتخيل تحول مسار "تشيني" ليصبح شخصًا بعيدًا عن السياسة، وهو ما يذكرنا مرة أخرى بفيلمه السابق، عندما ذكر المُعلق قرب نهاية الأحداث أن المصرفيين والمتورطين في الأزمة المالية نالوا عقابهم، قبل أن يعود ليقول إن هذا غير صحيح على الإطلاق.
يذكرنا هذا التناول الكوميدي لأزمات طاحنة، أثرت في العالم، ما قدمه المخرج الأمريكي الراحل ستانلي كوبرك في فيلمه Dr. Stranglove الذي تناول الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي بشكل ساخر أيضًا.
الحدث أم الشخصية؟
من الخيارات الأخرى المميزة في هذا الفيلم هي اختيار اللحظات التي يتناولها السيناريو، فنجد الفيلم يقدم الكثير من مراحل حياة وصعود "تشيني"، على عكس المعتاد في أفلام السير في الآونة الأخيرة والتي باتت تركز على مرحلة بعينها من حياة الشخصية، وليس أغلب تفاصيل حياتها.
لكن السيناريو كان خياره هو أن يُعرف المشاهد بكيف تحول "تشيني" إلى هذا الشيطان الذي يراه. لكنه أيضًا لا يلجأ إلى السرد الخطي التقليدي، الذي يمكن أن يكون مملًا، بل يبدأ بمشهد لاحق في الأحداث "فلاش باك" للحظة ضرب مركز التجارة العالمي، والتوتر السائد في مكاتب القيادات الأمريكية الذين يجلس بينهم ديك تشيني، ثم نستمع إلى التعليق الصوتي، ”تشيني رأى في هذه الضربة فرصة“، ويعني بالفرصة ذريعة الحرب على العراق.
من هذا المشهد الافتتاحي يعود الفيلم إلى بدايات "ديك تشيني"، ليقدم لنا التحول الدرامي الذي مر بهذا الشخص ليتحول من طالب وعامل فاشل إلى الرجل الثاني على الورق والمتحكم في أمريكا فعليًا.
يختار السيناريو عدة محطات مهمة للتوقف عندها في حياة "تشيني"، والاختيار يحركه غالبا الرغبة في شيطنة هذا الشخص الذي لا يتورع عن التضحية بمصلحة ابنته إذا لزم الأمر. وحتى الشخصيات الثانوية لها تأثيرها المهم أيضًا، مثل شخصية "دونالد رامسفيلد" ستيف كاريل الذي نتعرف عليها في البداية كشخصية سياسية قوية التأثير على "تشيني"، ثم تنقلب الآية لاحقًا ليصبح "رامسفيلد" هو من يعمل تحت إمرة "تشيني"، ولا يتورع هذا الأخير عن التضحية بالأول عندما تتعقد الأمور بعد الحرب على العراق، رغم التاريخ الطويل الذي يربطهما.
يصاحب هذا مونتاج هانك كروين، الذي يترك تأثيره في الكثير من المشاهد، والذي يكمل الرؤية الساخرة للمخرج، ليمزج عدة صور أرشيفية للأحداث الحقيقية مع الأحداث، وأحيانًا نجد مقطًا أريشيفيًا للقاء بين عدة قيادات سياسية ونشاهد محل الشخصية الحقيقية، الممثل الذي يقوم بدورها داخل الفيلم، يتم هذا الانتقال بين المشاهد الأرشيفية والتمثيلية بسلاسلة كبيرة، تجعل من ترشيح الفيلم لجائزة أفضل مونتاج أمرًا منطقيًا، وربما لا يكون بعيدًا عن الفوز بها.
فيلم Vice خطوة للأمام لآدم مكاي في أسلوب سينمائي خاص به لتقديم السير والوقائع الحقيقية، أو الأقرب للحقيقة من وجهة نظره، هذا الفيلم يمكن التوقف عنده والانبهار بالأداء التمثيلي لكرستيان بيل وستيف كارل، لكن لن يكون من الإنصاف الوقوف عند التمثيل وحده، هذا الفيلم يقف وراؤه سيناريو وإخراج مميزين من آدم مكاي.
اقرأ أيضا
ما هي الجوائز الأقرب للحذف من حفل أوسكار 2019؟
دواين جونسون: لهذا السبب لن أقدم حفل الأوسكار