وسط زحام مدينة القاهرة ذات العوالم المتباينة المتداخلة، هناك الكثير من الحكايات تقبع وراء الحواجز غير المرئية التي تفصل بين سكانها. في فيلمه الروائي الأول "ورد مسموم" يقدم المخرج أحمد فوزي صالح، صورة ثرية بصريا عن حياة منطقة المدابغ الخشنة التي تقع في قلب العاصمة، مبتعدا عن الكليشيهات الدرامية المرتبطة بتناول مثل هذه المناطق المهمشة في الواقع والسينما.
يمهد لنا صالح أن المكان هو البطل الرئيسي، وأن سرد الحكاية يرتكز على الصورة أكثر من الكلمات، في الدقائق الأولى من الفيلم، عن طريق لقطة من منظور عين الطائر ترى ممرا ضيقا غارقا في المياه الملوثة، يتعثر فيه المارة من شخوص وحيوانات، محاصرين داخل هذا المكان الخانق الذي تعجز أشعة الشمس عن اختراقه. ثم يعتمد على المزج بين الروائي والوثائقي خلال الأحداث مستندا على معرفته الجيدة بالمنطقة، منذ صناعة فيلمه التسجيلي "جلد حي" الذي يتعرض لقضية عمالة الأطفال في المدابغ، ويرصد المخاطر التي يتعرضون لها بسبب هذه المهنة القاسية.
تتكرر في الفيلم الجديد نفس اللقطات الحية المعبرة عن البيئة القاتلة؛ من ماكينات حادة ومواد كيماوية خطيرة وملابس مهترئة وأياد ملوثة، لكن أثرها الحقيقي والأعمق يتجلى مع تتبع المخرج ليوميات "تحية"، شابة في أواخر العشرينات، تعيش في المنطقة وتتردد باستمرار على ورش الجلود حاملة الطعام لشقيقها الأصغر "صقر"، الذي يحاول النجاة بحياته من شبح الموت المتربص له كل يوم، ويسعى للسفر إلى أوروبا بطريقة غير شرعية كأنه يختار الموت العاجل. تلهث ورائها في الأزقة المتعرجة، كاميرا محمولة ترافقها في رحلاتها الروتينية التي لا يطرأ عليها أي جديد وكأنها تدور في متاهة لا نهاية لها.
تفاصيل العلاقة بينهما مربكة ومحيرة لأن تعلقها به، وغيرتها عليه، ورغبتها في إبقائها بجانبها، توحي بأنها لا تراه شقيقا فحسب، وإنما يمثل بالنسبة لها العالم بأكمله. فبالرغم من استقلالها المادي وإنها صاحبة الدخل الثابت في المنزل، فإنها تشعر بحاجتها إلى وجود رجل في حياتها. هذا الرجل هو الأخ الذي يعوض غياب الأب والزوج والابن، ويمنحها فرصة لممارسة دوري الزوجة والأم. لا يقدم صالح في فيلمه المقتبس عن رواية "ورود سامة لصقر" للكاتب أحمد زغلول الشيطي، قصة تقليدية تعتمد على حبكة في السرد، ولكن يركز على تأثير التغيرات التي تحدث في حياة الأخ عليها، وردود أفعالها تجاه كل محاولاته للتملص منها ومن حبها المرضي له. فدخوله في علاقة عاطفية يعني أنه ليس ملكا لها وحدها، ورحيله عن البلد يفقد حياتها معناها وأهميتها. لذا تقرر البطلة الاستعانة بالسحر للتغلب على مشكلتها، وتذهب إلى الرجل الغامض "كروان"، الذي لا ينتمي مظهره الخارجي من بذلة وقبعة إلى هذا العالم، لكنه يجلس مراقبا لكل شيء من حوله. يظهر فجأة ويختفي فجأة. وينصحها بتعويذة تربط الأخ بجانبها، دون أن يحصل على مقابل، في صورة أقرب إلى الشيطان، الذي يوسوس لها ويدفعها إلى الوقوع في زنا المحارم.
في مثل هذه البيئة الضاغطة لا يوجد مجال للتعلق بأمل الحصول على حياة أفضل لأناس يعيشون على الهامش، غير مرئيين لباقي المجتمع. فقد تحولت الأحلام الطبيعية لشابة جميلة إلى أخرى مسممة ومهلكة لها ولشقيقها الأصغر. فتظهر في المقابر، كأنها ترثي حالها وأنوثتها التي تكاد تذبل مثل الورود المتروكة على مدافن الموتى. فتجمعها في إناء، ثم نراها تلقى في المياه الملوثة ليختلط لونيهما معا دون سبيل لفصل الورد عن السم.
يميل المخرج إلى الاختزال في الحوار والمعلومات التي يمنحها للمشاهد عن الشخصيات، ويفضل الاعتماد على تكوينات مرسومة بعناية شديدة تخلق حالة من الضيق والاختناق، وشريط صوت نابع من البيئة نفسها. كما يختار التركيز على بطلته وعلاقتها بالمكان، متمسكا بوحدة موضوعه وخصوصيته دون انزلاق وراء خطوط درامية فرعية.
تتشابه تجربة أحمد فوزي صالح مع تجربة أبو بكر شوقي في فيلم "يوم الدين"، الذي عُرض قبل أشهر قليلة في السينمات عقب مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي. فكل منهما تعرف على موضوع فيلمه الروائي الأول من خلال صناعة فيلم تسجيلي سبقه بأعوام، ساعده على التقرب من البيئة وشخوصها. كما أن المخرجين اقتحما عالمين بعيدين تماما عما تقدمه السينما في وقتنا الحالي؛ المدابغ في حالة صالح، والمصابين بمرض الجزام عند شوقي. إلى جانب انشغالهما بالصورة وقدرتها على الحكي والتعبير عن المشاعر الإنسانية. بالتالي، نحن أمام جيل جديد من المخرجين يحاول تقديم معالجات بصرية مختلفة عن السائد، بإدراك واع للواقع المحيط به، وانفتاح على إنتاجات العالم.
في النهاية، "ورد مسموم" فيلم جيد الصنع يتمتع بفكرة أصلية وجديدة على السينما المصرية، مكنته من حصد عدد من الجوائز في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي، وتوجته بلقب أفضل فيلم عربي. ربما يتطلب جهدا من المشاهد لقراءة صورته وإدراك موضوعه الشائك، لكن بالتأكيد يعد عملا سينمائيا يستحق المشاهدة.
اقرأ أيضًا: