من هم "مسافرو الحرب"؟ سؤال يبدو للوهلة الأولى بديهيًا لا يستحق التوقف عندما يتعلق الأمر بفيلم المخرج جود سعيد الجديد، والذي تستضيف أيام قرطاج السينمائية التاسعة والعشرين عرضه العالمي الأول ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة. فيلم بهذا العنوان يحمل ملصقه الرسمي صورة بطل الفيلم يحمل حقائبه ويقول ملخصه أن الحكاية تتابع "بهاء" الذي يتقاعد ويقرر الرحيل عن حلب الممزقة بالحرب. تبدو هذه أمور كافية للإجابة عن السؤال، إلا أن مشاهدة الفيلم نفسه تمنحنا رأيًا مختلفًا، وأفقًا أوسع، ونظرة مغايرة لهوية المقصود بمسافري الحرب.
الحرب تجربة بشعة، بالغة التعقد، يصعب حصرها في وجه واحد أو حتى عدة أوجه. من تضطره الظروف لترك بيته والبحث عن ملاذ آمن هو بالتأكيد مسافر، لكن كل من يتعرض للحرب هو بشكل أو بآخر أحد مسافريها وإن لم يغادر مكانه. وبينما تأتينا دائمًا الأخبار حاملة أرقام ضخمة، صماء، تُلخص حياة إنسان في كونه رقمًا ضمن القتلى أو النازحين، وتُصنف البشر في صفوف ومعسكرات بالأبيض والأسود، تبدو الحقيقة أكثر تعقيدًا، فالحكاية الكبرى تتفتت قصصًا أصغر وأصغر، والحيوات تتقاطع، والنفوس تتغير وتتلون في خبرة عسيرة يظهر خلالها، وفي الوقت عينه، أنبل وأحط ما في نفوس البشر.
قصة الحرب إذن، ووفقًا لفيلم جود سعيد، أشبه بالماتريوشكا، الدمى الروسية التي تحمل كل منها نسخة أصغر فأصغر. لا حكاية تتم بمعزل عن الأخرى، وإن كان الدافع الدائم هو نجاة الإنسان بنفسه أولًا وبمن يحب ثانيًا من الجحيم المحيط. لذا فإن صانع الفيلم يُدرك ـ ببراعة في شكل السرد ومحتواه ـ أن بطله بهاء (أيمن زيدان بأداء يستحق التحية) هو كل شيء ولا شيء، هو مجرد واحد بين الملايين من "مسافري الحرب"، وهو حياة إنسانية تستحق أن يدافع عنها صاحبها حتى الرمق الأخير، هو دمية ماتريوشكا تمثل في إحدى الرؤية القصصية بطلًا أوحد في حياة من حوله، وفي الأخرى شخصية رئيسية من بين شخصيات عديدة، وفي رؤية ثالثة مجرد أحد العوام المجهولين، الذين نقرأ عن موتهم بالجملة، دون تفاصيل أو أسماء.
هذا الفهم يجعل من "مسافرو الحرب" أحد أكثر الأفلام الروائية التي تناولت الشأن السوري نضجًا، ليس فقط لأن صاحبها لا يشغل نفسه كثيرًا بالاستقطاب السياسي والتقسيمات وإلقاء اللوم على هذا الجانب أو ذاك، لكن لأنه أيضًا استفاد من خبرة السنوات المؤلمة لصياغة حكاية هي ـ بخلاف خفة ظلها وإحكام عناصرها البصرية ـ يصعب الاختلاف حولها.
ما يجمع أكثر مما يُفرق
في الأرض الخراب، ولحظات الكوارث وما بعدها، تفقد الإنسانية تراثها الحضاري وتعود لحالة أولية، يكافح كل من فيها مستخدمًا ما يملك من قدرات ودهاء من أجل البقاء، وكلٌ يسير وفق بوصلته الأخلاقية فيولد من بين المسافرين المسيح ويهوذا، البطل والخائن، الإنسان والضبع. ينفك العقد الاجتماعي ويُعاد تأسيسه وفقًا لحسابات القوى التي يجيد جود سعيد تقديمها من خلال القرية التي يلوذ بها المسافرون ليؤسسوا مجتمعهم الجديد؛ لتكون حكاية هذه المجموعة من البشر هي قراءة ذكية وعميقة على خفوتها، لما وقع في سوريا، وتنبؤ بما قد نراه في السنوات المقبلة.
البلطجي الذي يجد غياب السلطة فرصة لاستغلال حاجات البشر في تحقيق المزيد من المكاسب، ضعاف النفوس المستعدين للإتجار حتى بعرضهم من أجل الصعود، والبشر الحقيقيون، المخلصون، المستعدون للتضحية من أجل الغير، والتنازل حتى عما دفعوا ثمنه من أجل تصورهم الأولي ـ والصادق ـ عن الشرف والأخلاق التي يجب أن يضعها المحك في الصدارة، لا يؤخر ترتيبها لحساب المكاسب الفردية الرخيصة.
يخبرنا "مسافرو الحرب" دون خطابة أو صوتٍ عالٍ أن الخير داخلنا وإن توارى تحت ركام البيوت المهدمة والمخاوف المتصاعدة، يخبرنا أنه حتى في أحلك اللحظات يظل الإنسان ـ وليس السوري فقط ـ قادرًا على الحب، على "أن يرى العالم بطريقة مختلفة عما سواه"، كما يقولها البطل بهاء لرفيقه الشاب الذي لا يفوق طيبته البالغة حد السذاجة سوى خفة ظله وقدرته على غزو القلوب، بالحب.
لوحات وأصوات
المخرج جود سعيد يأخذ خطوات للأمام على مستوى الصنعة، سواء باختيار هذا النوع من النصوص تحديدًا (السيناريو لأيمن زيدان وسماح القتال وجود سعيد)، أو بصياغة الموضوع المهم في حكاية مشوقة خفيفة الظل متقنة العناصر، ومن بينها يستحق الديكور والتصوير تنويهًا خاصًا، التصوير لما يحققه من غرض مقصود بأن تكون كل لقطة في الفيلم أشبه باللوحة في تكوينها وصياغتها اللونية، والديكور لدوره السردي الذي يتضح أكثر في نهاية الفيلم عندما نفهم حقيقة حكاية الضيعة التي تُسيطر على نصف زمن الفيلم تقريبًا.
كذلك يُتقن المخرج ـ للمرة الأولى ربما بهذا القدر من النجاح ـ التعامل مع شريط الصوت، وهو أحد المشكلات الكبرى في السينما الروائية السورية المعاصرة التي لا تزال تتعامل مع الموسيقى التصويرية بطريقة آتية من الستينيات كأداة لتوكيد بل وتحريك المشاعر وإن لم يحمل المشهد ما يوازي ملحمية موسيقاه. في "مسافرو الحرب" موسيقى سمير كويفاتي في محلها أغلب الوقت، دون إسهاب أو استجداء، وبناء المؤثرات والأصوات عمومًا في شريط الصوت الذي صممته رنا عيد ـ وهي ربما الأفضل بالمجال في العالم العربي حاليًا ـ بتوازن يلائم روح الفانتازيا دون أن يسقط في فخ كاريكاتورية تفقد الحكاية حميميتها.
وبينما يبدو موضوع الفيلم ـ كأي عمل سوري في السنوات الأخيرة ـ كئيبًا محبطًا عند سماعه ملخصًا، فإن المواهب المساهمة في "مسافرو الحرب" جعلت من ناتجه النهائي واحدًا أكثر الأفلام السورية بهجة وتفاؤلًا وإن أظهر العكس. فمن يمكنه أن يحب في أحلك الظروف، لم ولن يموت وإن طالت المعاناة.
اقرأ أيضا