يقول أندريه تاركوفسكي:"دافعي لعمل الأفلام مساعدة الناس على الحياة، حتى لو أصبحوا في منتهى البؤس والتعاسة في بعض الأوقات ". وفيلم يوم الدين سيناريو وإخراج أبو بكر شوقي يسعى لتقديم رؤية رحبة للحياة تتقبل كل الأطياف بعيداً عن أي اختلافات جوهرية، رؤية تجعلنا نرى المُهمشين والمنبوذين بحياتهم التي تقع على الجانب الأخر من المجتمع من زاوية آخرى، نظرة موغلة في ذواتهم وعوالمهم التي لا ندري عنها شيئاً.
أحداث الفيلم تدور حول " بشاي" ( راضي جمال ) مريض الجذام المتعافى، الذي ينطلق في رحلة طويلة برفقة "أوباما" ( أحمد عبد الحافظ ) صديقه الطفل اليتيم النوبي نحو بلدته بالصعيد باحثاً عن أهله، اللذين تركوه لسنوات طويلة مُباغت بالوحدة يُواجه المرض في مستعمرة الجذام.
من الشمال إلى الجنوب
يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه بشاي وهو يلتقط من بين مسطحات القمامة ما يصلح للبيع، لنراه بعد ذلك في طريق عودته لبيته في مستعمرة الجذام، فقد اختار السيناريو أن يكون المكان الرئيسي الذي تنطلق منه القصة من المستعمرة التي تقع في مكان منعزل في أبي زعبل، وكأنها عالما قائما بذاته، له قوانينه وحياته التي تخصه وحده، فقد صورها السيناريو وكأنها يوتوبيا مُنغلقة على من بداخلها، أما العالم الخارجي فيكاد يكون وجوده منعدما، اختيار رمزي وإن كان رمزه بالغ الوضوح بشكل لا يُحفز عقل المشاهد على العمل لتفكيك رمزيته ودلالته، الذي يُعبر عن المُهمشين بصفة عامة، وبالتالي جاء اختيار المكان الأخر ملجأ الأيتام الخاص بأوباما هو الأخر لتدعيم تلك الرمزية، شخصيتان يقعان على تخوم العالم ينطلقا في رحلة بحث عن الجذور والهوية، رحلة تحوي من الفشل أضعاف ما تحوي من النجاح.
بعد وفاة زوجة بشاي، يكتشف وحدته وأنه بلا أهل، لتُصبح وفاة الزوجة هي القوة الدافعة للأحداث، منها يتغير مصير بشاي وحياته، تبدأ الرحلة التي لا يكون قوامها سوى بشاي وأوباما وحربي الحمار الهزيل الذي يجر العربة الكارو من المستعمرة التي تقع في شمال مصر نحو جنوبها متجهة لقنا، رحلة أشبه بإنتقال موتى قدماء المصريين بعد وفاتهم من البر الشرقي نحو الغربي حيث العالم الأخر، رحلة كاشفة للذات وموغلة داخل المجتمع وفئاته، نرى فيها مصر بعين مُغايرة كما لم نرها من قبل.
يلتقي بشاي في طريقه بنماذج عدة، كل منها يُمثل فئة ما، اشتركت جميعها بأنها تبعدُ عن المركز المدينة، وأيضاً يرفضون بشاي ويرهبون وجوده، وقد عبر السيناريو عن هذا الرفض بمشاهد عديدة أبرزها حينما يكتشف مُحصل التذاكر داخل القطار المتجه إلى قنا أن بشاي وأوباما لا يملكان ثمن التذاكر، ليتشاجرا مع المُحصل الذي يقذف بشاي بعيداً، لتتلقفه أيدي الركاب وكأنه خرقة بالية ليصرخ قائلاً " أنا مش بني آدم ولا أيه ؟ "، على الجانب الأخر لا يقبله سوى من هم منه وينتمون إلى نفس درجته وبيئته مثل مجموعة الشحاذين أسفل الكوبري، فجميعهم يُعانون من التهميش والنبذ، وكأن بتشاركهم معاً يكونون عالماً موازياً لا يخص سواهم.
بشاي وأوباما
يبدو "يوم الدين" مهموماً بالأخر، ذلك الذي يختلف عن المألوف أو السائد، من هذه النقطة جاء اختيار شخصية بشاي مريض الجذام المتعافى، فمضمون الفيلم ليس عن مرضى الجذام إنما يمتد لما هو أوسع وأشمل المُهمش أو المنبوذ بصفة عامة، بشاي ليس إلا رمزاً. مريض وقبطي، يكاد يجهل وجود حياة أخرى خارج حدود المستعمرة، يخشى مواجهة المجهول ذلك العالم الذي لا يُدرك عنه شيئاً، وفي نفس الوقت يبدو غير قانع بذاته وغير متصالح معها، كما يتضح من مشهد المقابلة بينه وبين شقيقه وهو مُنكمش على ذاته خشية الرفض مرة أخرى ليخبره شقيقه بألا يخاف ولا يُداري وجهه، فقد رسم السيناريو شخصية بشاي بتكوينه الجسماني والنفسي بشكل متوافق تماماً مع الدراما، رغم ما يُعانيه من ألم ووحدة يحوي بداخله تلقائية وحب جارف للحياة ورغبة حقيقة للإشتباك معها والإحتكاك بها، ففي أحد المشاهد نراه وهو يركض بعربته المتهالكة في الصحراء وهو يقف أعلى العربة وكأنه Cowboy فِرح بحريته وبمجابهته للصحراء والعالم الخارجي.
أما أوباما رفيق الرحلة، طفل نوبي يتيم، توليفة مُعبرة هي الأخرى عن التهميش، تربطه ببشاي علاقة ليست صداقة فحسب، كل منهما يُكمل الأخر، أوباما الذي فقد أهله في النوبة يبدو في حاجة إلى أب أو من يحتوي وحدته، وبشاي لا ولد له ولا نسل، علاقة قوامها الإحتياج ودرأ الوحدة، يرتبط مصيرهما معاً وتتوطد علاقتهما أثناء الرحلة، يكون أوباما فيها خير مُعين لبشاي على التعامل مع الواقع الخارجي، فنجده في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم حينما يصنع قبعة بغطاء وجه ليتمكن بشاي من ستر وجهه حتى يتسنى له التعامل مع الأخرين بحرية ودون حرج، لتنطلق أغنية الفور أم " الولا ده " كخلفية موسيقية لتُصبح كلمات الأغنية وكأنها تربت على كتف بشاي تُهون عليه خوفه.
مخرج على الطريق
"أبو بكر شوقي في أولى تجاربه الروائية الطويلة بعد فيلمه " المستعمرة " الذي أخرجه منذ عشرة سنوات، قدم إلى حد ما فيلم مُتماسك، إنساني للغاية أعتمد على العاطفة لبث مضمونه بشكل يقتحم قلب المشاهد بسهولة ويُسر مُعتمداً على التلقائية والطبيعية التي غلفت السيناريو والحوار، مثل الحوارات المتداولة بين بشاي وأوباما التي جاءت عفوية وكأنه أدار الكاميرا لينطلق الممثلين في ممارسة حياتهم دون الحاجة إلى حوار مكتوب، جعلت الآداء بين راضي جمال و أحمد عبد الحافظ مُتناغماً وحيوياً ضاجاً بالصدق دون افتعال.
أما من الناحية البصرية فالصورة غنية بالتفاصيل، بداية من اللقطة الإستهلالية للفيلم، حيث ينفتح المشهد الأول على بقعة متسعة في الصحراء تحوي نفايات ومخلفات قديمة، ويلتقط بشاي ما يصلح للبيع من بين هذه التلال، ومع ذلك لم يشعر المتفرج بأي آذى أصاب عينه، فقد أجاد شوقي توظيف المكان وتكويناته وبالتالي تعتاد العين على المشهد وتألفه بسهولة. تتقاطع أحلام بشاي وذكرياته مع واقعه في قطعات مونتاجية حادة، ليمتزج الواقعي بالمتخيل، بشكل أضاف للسرد والشخصية بُعداً أخر عن رؤاها وأحلامها، ففي أحد المشاهد يقف بشاي أمام النيل يُشاهد مجموعة من الشباب يرقصون على ظهر مركب على إحدى الأغاني ثم يعود فجأة للوراء مُتذكراً يوم أن وصل المستعمرة التي سيفقد فيها أي تواصل يربطه بالعالم الخارجي، وفي مشهد أخر نري بشاي وهو يقف أمام المرآه ليظهر وجهه طبيعياً خالي من الجروح، لتبدو هذه المشاهد وكأنها تُعبر عن رغبة بشاي في العودة إلى فطرته وطبيعته التي أهدرها المرض.
رغم جماليات الفيلم إلا أنه لم يخلو من بعض السلبيات والثغرات التي أثرت على السرد بصورة واضحة، بدا الضعف ملموساً في الجزء الأخير من الفيلم، حينما يلتقي بشاي وأوباما أثناء الرحلة بمجموعة الشحاذين والمنبوذين أسفل الكوبري، لنكتشف فجأة أن موقعهم يقع بالقرب من ملجأ الأيتام السابق الذي كان يُقيم فيه أوباما، وبأن هذا الملجأ موشك على السقوط بعد الزلزال وتم تهجير المقيمين فيه، رغم أن أوباما ولد في 2004، فكيف كان يُقيم أوباما بالملجأ ؟ وأمتد الضعف في السيناريو للجزء الخاص بمقابلة أوباما وبحثه عن أهل بشاي، يجد أهله فجأة دون أي عناء!، ثم يلتقي أوباما بشقيق بشاي الذي يتحدث بلهجة قاهرية لا تمت بصلة لأهل الصعيد، رغم أن أوباما لهجته لاتزال مُتأثرة بنشأته.
كما أن بعض الأجزاء من الحوار بدت مُباشرة ونبرتها الوعظية طاغية على حسها الفني، مثل الجمل الحوارية التي يُلقيها زعيم الشحاذين في سوهاج عن إنتظاره ليوم الدين حتى يتساوى البشر بعيداً عن أي اعتبارات أخرى، ليبدو الحوار في هذه المشاهد يفتقر للمنطقية والإقناع بشكل أخل بالسياق العام للدراما.
كلمة أخيرة
يقول انجمار بيرجمان: " أريد إيجاد صلة مباشرة بيني وبين الناس لأخبرهم بأشياء عن أنفسهم وعني أيضاً، فربما يصبح بإمكاننا بالوسائل المتواضعة تغيير بعض الأشياء ولو كانت أشياء صغيرة " وفي المشهد الأخير من الفيلم الذي يُعد الاجمل نرى بشاي وهو يقذف القبعة التي اهداها له أوباما، وكأنه تصالح مع ذاته وقنع بمواجهة العالم كما هو دون حاجة لأي مواربة، وكأنه أكتشف بعد رحلته أن جذوره وعالمه الأصيل يقع من حيث أتى في المستعمرة وما خارجها ليس سوى عالم بلاستيكي لا ينتمي إليه ولا يشعر تجاهه بأي رابطة. ليبدو الفيلم رسالة شاعرية مُحبة للعالم تدعو التصالح مع الذات وتقبلها كما هي.
اقرأ ايضا
فيلم A Star Is Born يسحر الجمهور- تعرف على أماكن تصوير الحفلات الموسيقية.. أحدها استغرق 4 دقائق فقط
5 أشرار يمكن أن يواجههم "فينوم" في الأجزاء الجديدة من السلسلة