"الجمعية" الفيلم المصري الوحيد المشارك في قسم البانورما ثاني الأقسام أهمية بعد القسم الرسمي في مهرجان برلين في دورته 68، وواحد من الأفلام المصرية القليلة جدًا في المهرجان.
في الحقيقة يجب توضيح كلمة ”مصري“ هنا قبل التطرق إلى الفيلم، فمخرجة الفيلم ريم صالح تحمل الجنسية اللبنانية ولكنها لأم مصرية، وإنتاج الفيلم تشترك فيه عدة دول منها لبنان ومصر، وكما جرت العادة فإن الأفلام تُنسب إلى جهة إنتاجها.
لكن كل هذا لا يمنع أن يكون موضوع الفيلم التسجيلي مصريًا 100%، إذ تدور أحداثه في مصر، وتحديدًا في قلب منطقة روض الفرج الشعبية.
أول ما يتبادر إلى الأذهان أثناء مشاهدة الفيلم هو التهمة الجاهزة والسهلة ”تشويه سمعة مصر في الخارج“، وهي التهمة التي تُطلق على أي فيلم يعرض أحد الوجوه القبيحة للحياة في مصر، حتى وإن كان هذا الوجه موجودًا بالفعل، لكن ما الذي يربط هذه التهمة بالفيلم؟
سنوات في روض الفرج
تدور أحداث الفيلم كما ذكرنا في منطقة روض الفرج بالقاهرة، يبدأ الفيلم من خلال التعرف على مجموعة من الجيران الذين يشتركون معًا في تشكيل جمعية يحصل عليها المحتاج إليها أولًا، والجمعية لمن لا يعرف هي مشاركة عدد من الأشخاص بمبلغ ثابت لمدة محددة على أن يحصل شخص واحد على مجموع هذه النقود في موعد ما، هكذا تُشكل الشخصيات التي شاهدناها جمعية يدفعون فيها 10 جنيهات يوميًا ليحصل شخص ما على 3 آلاف جنيهًا مصريًا في نهاية الشهر.
من خلال هذه الجمعية تمر المخرجة على الشخصيات المختلفة المشاركة في الجمعية لتقدم لنا ملامح من حياتهم وأزماتهم، ثم كيفية إنفاقهم للنقود التي يحصلون عليها من الجمعية، يحدث هذا خلال عدة سنوات متتالية.
تدخل مخرجة الفيلم إلى عمق الشخصيات التي تقدمها وتأخذ من الجمعية مدخلًا لهذا، هكذا يمكن أن نقسم الفيلم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، الأول هو التعريف بهذه الشخصيات والثاني هو عرض تأثير الجمعية عليها، وأخيرًا المصير الذي انتهت إليه هذه الشخصيات بعد عدة سنوات.
ربما شاهدنا بعض هذه الشخصيات في الواقع من قبل وربما لا نتخيل مجرد وجود بعضها الآخر لكن الفيلم يقول لنا إنها هنا وتحيا وهذا هو شكل حياتها، يتعرض الفيلم إلى حياة كل هذ الشخصيات التي تحيا على الكفاف ولديها مشكلات يومية قد تبدو بسيطة لكنها تتغلب عليها، سواء بالاستناد على بقية الشخصيات الأخرى في المنطقة كما نشاهد في الفيلم، أو من خلال الجمعية.
على الرغم من غنى الفيلم بتفاصيل حياة أبطاله لكنه استغرق في عرض هذه التفاصيل أكثر من اللازم حتى إننا نذهب إلى تأثير الجمعية في وقت متأخر من الفيلم، ومن المفترض أنها المحور الذي تجتمع حوله الشخصيات فتكتفي المخرجة بمشاهد متفرقة للأهالي وهم يجتمعون للتحدث عن الجمعية، أو لـ“أم غريب“ وهي تجمع الجمعية، لكن تأثيرها الحقيقي لا نراه إلا لاحقًا.
ربما كان السبب وراء هذا التأخير هو ثراء الشخصيات بالتفاصيل، مثل ”الشيخ عادل“ الذي لا يتكلم سوى بإلقاء الحِكم، ويتعامل مع أشياء غريبة بأريحية تامة.
لعنة الجمعية
ينتقل الفيلم في نصف الثاني للحديث عن تأثير الجمعية على أبطاله، وكان هذا الفصل الأكثر قسوة في الفيلم.
بعكس النصف الأول الذي يتعرض لجانب إنساني يسهل التعاطف خلاله مع الشخصيات، خاصة ونحن نعلم أن تلك الشخصيات حقيقية وليست مُتخيلة، لكن النصف الثاني يتعرض لعدة ملامح صادمة، إذ تتجلى استخدامات نقود الجمعية، أو الجمعية الموازية التي يشارك بها أطفال المنطقة، في الطفلة دنيا التي تستخدم هذه النقود لإجراء عملية الختان، القسوة ليست في فكرة الختان نفسها بل في الاستماع إلى حديث الطفلة عن العملية إذ نشاهدها تتحدث عن الأمر بكل فخر وأنها هي من سعت إليه، هذه الطفلة التي تتكلم على طريقة الكبار بشكل مثير للدهشة وأحيانًا للصدمة، وهنا إحدى ثغرات الفيلم التي سنتطرق إليها لاحقًا.
نشاهد أيضًا أحد شباب المنطقة تساعده الجمعية على إقامة حفل زفافه، ونشاهد تفاصيل هذا الزفاف الشعبي بكل حذافيره على الشاشة، الزفاف الذي ينتهي بشجار بين العريس والعروس وكأن الجمعية تحولت إلى لعنة، وهو ما سيتمد إلى عدة شخصيات أخرى لاحقًا.
يعرفنا هذا الفصل من الفيلم إلى وجوه ربما نحاول عدم التعامل معها على أنها تعيش معنا، وجه آخر من مصر ربما اعتدنا مشاهدته بشكل مغالى فيه، بأفلام المخرج خالد يوسف ولم نتعرف إلى أبعاده الحقيقية التي يقدمها لنا فيلم ”الجمعية“.
هذا الفصل من الفيلم أجمل ما فيه كان صوت سيد مكاوي وهو يُنشد ”رمضان كريم“ الصوت القوي والغنوة الجميلة لا تتماشى مع ما يحدث في الواقع القاسي.
ريم صالح
تتعامل مخرجة الفيلم ريم صالح مع أبطالها بطريقة التوجيه وكأنها تصور فيلمًا روائيًا، هي تعيد تسجيل الوقائع التي حدثت بالفعل ولم تعاصرها كاميرتها فتطلب من الشخصيات إعادة تقديم هذه المشاهد، ولا تداري هذا إذ نستمع إلى صوتها واضحًا في عدد من المشاهد وهي توجه الشخصيات، ربما يتعارض هذا مع البناء المعروف للفيلم التسجيلي الذي نعرف أنه يسجل الواقع كما هو، ولكن عدم مداراة المخرجة للتمثيل في هذه المشاهد يجعلها لا زالت تندرج تحت بند التسجيل.
لكن إحدى المآخذ على الفيلم كانت في التأثر الواضح بالشخصيات على حساب الموضوع أحيانًا، ففي الكثير من المشاهد، خاصة في النصف الأول كما ذكرنا، ننسى أن الفيلم عن الجمعية، ويبدو لنا أن المخرجة تخشى من حذف الكثير من المشاهد الخاصة بأبطالها، بينما في النصف الثاني أفسحت مساحة لمشاهد لم تُضف جديد إلى الأحداث مثل مشهد طويل للطفلة دنيا وهي تتحدث عن تفاصيل عملية الختان، وكانت قد تعرضت للعملية بالفعل في مشهد سابق.
قدم الفيلم رؤية جيدة لفكرة سكون الزمن لدى أبطاله، إذ نرى مرور السنوات عليهم، وليس باستخدام الكتابة على الشاشة كما هو معتاد، بل من خلال لافتات مختلفة تعرفنا بمرور السنوات، مثل لافتة لانتخابات 2012 وأخرى تحمل صورة الرئيس السيسي لنعرف أن الزمن قد مر لكن على أرض الواقع لا توجد آثار حقيقية للزمن على الشخصيات، هم يتعايشون ويمرون بأزمات جديدة ويتجاوزونها وهكذا. بقدر ما ساهم هذا في وصول أحد الجوانب المهمة، لكنه أيضًا كان عقبة في اتجاه تصاعد بناء الفيلم للوصول إلى نقطة نهاية جيدة، وهو ما جعل آخر الفصول أضعفها، فالفيلم يمكن استكماله بأحداث أخرى في سنوات قادمة، أو حتى إنهائه في سنة سابقة على سنة انتهاؤه، وربما كان يمكن معالجة هذا بالتركيز بشكل أكبر على خط الجمعية وليس على الشخصيات نفسها، فالشخصيات الحقيقية لديها دائمًا المزيد من الأحداث التي يمكن أن تملأ عدة أفلام.
في مهرجان مثل برلين تُعرض فيه مئات الأفلام من عشرات الدول، يتفنن المخرجون في طرح الموضوعات المختلفة طبقًا لرؤيتهم، وكانت هذه رؤية ريم صالح لفئة من الفئات التي تحيا داخل مصر، قد يرى البعض أنها بالغت في سوداوية الطرح وقد يرى البعض الآخر أنها كانت منصفة في عرض ملامح هذه الشخصيات، وسواء كنا نتبنى هذا الرأي أو ذاك، فإن الأفضل هو صناعة المزيد من الأفلام التي تتعرض لملامح الحياة في مصر، وخاصة الطبقات التي لا تصل إليها الشمس، وهو ما كان واضحًا في الحرص على اختيار المشاهد الداخلية أو المظلمة في الكثير من الأحيان، لنرى مصر بعد غروب الشمس.
اقرأ أيضا
سباق الدب الذهبي (1): ويس أندرسون وكرستيان بيتزولد في صدارة المنافسة.. ومفاجأة التمثيل من باراجواي