جمعتني بهما فعاليات الدورة الأولى لمهرجان جونيه السينمائي الدولي، في وقت يعيشان فيه لحظة مقاربة جداً في مسيرتهما المهنية. أيتن أمين عضو لجنة تحكيم المهرجان وشريف البنداري المشارك بفيلم في المسابقة الرسمية وآخر خارجها. كلاهما خرج لتوّه من تجربة الإخراج التلفزيوني للمرة الأولى. البنداري قدم الجزء الثاني من "الجماعة" في شهر رمضان فأثار جدلاً كبيراً، وأمين شاركت نادين خان وهبة يسري في إخراج "سابع جار" الذي صار فجأة حديث الساعة.
تشابه الخطوة لا ينفي اختلاف يصل للتناقض بين التجربتين. شريف تصدى لمسؤولية إخراج عمل ضخم الميزانية لكاتب عملاق، كل الأعين تنتظره، له جزء أول ناجح صنعه أحد كبار المخرجين، وموضوعه خلافي لاسيما في اللحظة السياسية التي قُدم خلالها. أيتن في المقابل شاركت في عمل أشبه بالتجربة محدودة المخاطر. مسلسل صغير بسيط لا يعرض قضايا ضخمة لا يتوقع حتى صناعه ما حققه من نجاح وانقسامات في الرأي.
تجربتان مختلفتان إذن لو كنا نتحدث عن مخرجيّن متمرسين تلفزيونياً، أما في حالتنا فكل هذا ينزوي وراء حقيقه إنه التعامل الأول لصناع أفلام ينتمون لموجة القرن الجديد، المستقلة أو المغايرة أو الفنية، مع وسيط ربما لم يكن بعضهم يتصور العمل فيه إطلاقاً، وحتى إن تصور فلم يكن شكل الصناعة نفسها ليسمح بهذا الانتقال.
من هنا جائت فكرة إجراء جلسة نقاشية أو حوار مفتوح يجمعني بشريف البنداري وأيتن أمين، موضوعه هو رحلة مخرجي جيل الألفية نحو التلفزيون، ورأيهم في متغيرات الحرفة وآليات الإنتاج التي دعمت هذه الخطوة. في إحدى غرف فندق ريستون جونيه كانت هذه الجلسة التي استمرت ما يزيد عن الساعة.
دخول عالم التلفزيون وجمهوره
أحمد شوقي: في مصر لو سألنا الجمهور وربما صحفيي الفن عنكما الآن، فسيكون التعريف الغالب هو أيتن أمين إحدى مخرجات "سابع جار" وشريف البنداري مخرج "الجماعة 2"، بينما نحن الآن في مهرجان لا يعرف فيه أحد سوى شريف مخرج "علي معزة وابراهيم" وأيتن مخرجة "فيلا 69". ما تعليقكما على هذا الانفصال المفاجئ في مسيرتكما المهنية؟ وهل كنتما تتوقعان إخراج مسلسلات تلفزيونية؟
أيتن أمين: شخصياً لم أكن أتوقع أن أصنع مسلسلاً، لكني لا أعتبر مسيرتي المهنية انقسمت اثنين؛ ببساطة لأن الدراما التلفزيونية تغيرت في مصر والعالم مؤخراً. بعدما كنت لا أشاهد مسلسلات أصبحت أتابع الكثير منها لدرجة أشعرتني بالرغبة في تجربة وسيط الحكي هذا. بالإضافة لأن "سابع جار" تجربة خاصة كنا فيها ثلاث مخرجات مما قلل الحمل الفردي عليّ. شكل التجربة عموماً كان مغايراً وإبداعياً لم أشعر بتعارضه مع أي شيء مما أؤمن به فنياً.
أما لو تحدثنا عن السوق المصري فالمسلسل بالتأكيد أفادني على مستوى الاقتراب من الناس. كان لدي دائماً الشعور بأننا كصناع أفلام مغايرة لا نتواصل مع الجمهور. كان محمد خان يحذرني من هذا ويقول لي أن جيلنا بعيد عن الجمهور بينما جيلهم صنع أفلامه على طريقته دون أن يفقد التواصل مع المشاهد العادي. هذا الوصول تحقق أخيراً من خلال المسلسل.
شريف البنداري: فيما يخص التواصل مع الناس لابد من الإشارة لأمرين. الأول أن أفلام خان وجيله كانت بطولة نجوم صف أول لهم شعبيتهم. هذا وضع تغير لدرجة أنني لا أعتقد في وجود ولو نجم صف أول واحد يوافق على العمل في فيلم مخرج من جيلنا. الأمر الثاني هو أن ذوق الجمهور نفسه قد تغير ـ لن أقول تدنى ـ فلم يعد يكفي أن يحكي الفيلم حدوتة حلوة ليصير فيلماً جيداً وناجحاً، حتى أن أفلام ناجحة لخان وجيله لو كانت قد صنعت الآن لما حققت النجاح نفسه. ما أقوله أن الابتعاد عن الجمهور ليس مسؤوليتنا كصناع أفلام فقط ولكن الظروف كلها تغيرت.
أحمد: لابد أن أشير هنا لصدمتي من مردود "علي معزة وابراهيم" الجماهيري. عندما شاهدت الفيلم كتبت عنه متحمساً أنه الفيلم المناسب لمصالحة الجمهور العادي على السينما المغايرة، لكن الإيرادات الضعيفة جداً أحبط تفاؤلي هذا.
شريف: كان هذا بالضبط مدخلي لصناعة الفيلم، حتى أن داود عبد السيد قال لي أن الفيلم يظهر فيه بوضوح رغبتك في الوصول للناس، لكن يبدو أن حسبتي لم تكن سليمة لأن أحداً لم يقبل على مشاهدته في القاعات. كنت أتوقع أكثر من ذلك بكثير. بالمناسبة لغياب النجوم دور كبير في تلك النتيجة.
النجوم وحسابات الإنتاج
أحمد: هذا رأي الأستاذ داود أيضاً بالنسبة للصناعة. في كتاب محاوراتي معه سألته عن الفارق بين السينما المصرية وقت بدايته في الثمانينيات ووقتنا هذا فقال دون تردد أنهم النجوم. في زمانهم كان النجوم هم نور الشريف وأحمد زكي ومحمود عبد العزيز ويحيى الفخراني. كانوا ـ حسب داود ـ يعلمون أن أفلامه وخان وخيري ليست هي الأعمال التي تحقق إيرادات ضخمة وترفع أجور أبطالها، لكنها الأفلام التي تصنع لهم تاريخاً عبر أدوار حقيقية يفخرون بها؛ لذا كان كل منهم يمثل ثلاثة أفلام تجارية ثم يدعم مشروعاً مغايراً، ووجود النجم تعني تلقائياً وجود المنتج.
شريف: متفق تماما، ومتفق أيضاً مع ما قالته أيتن بأن مسيرتنا لم تنفصل بالإخراج التلفزيوني الذي أصبحت أدواته متطورة وتحتاج لمهارة وحرفة مخرج مثل السينما تماماً. لكن شعوري حتى لحظتنا أنني لن أحارب أبداً لأخرج مسلسلاً أشعر بخروجه من داخلي مثل الأفلام. قد أجد فكرة جيدة وأتحمس لتقديمها ولكن ليس بنفس قدر حماسي للسينما.
أحمد: هل سبب هذا أن عملية صناعة المسلسل لا تسمح للمخرجة بالسيطرة الكاملة على كل تفاصيل العمل مثل الفيلم؟
شريف: أعتقد أن الأمر يتعلق أكثر بوعيك أن طريقة تلقي الجمهور للمسلسلات تختلف. رغم كل شيء لا يزال المشاهد الذي يذهب للسينما ويمنح تركيزه الكامل للشاشة مختلف عن مشاهد المنزل الموضوع في ظروف قد تشتت انتباهه وجعله يفقد بعض المشاهد أو الأحداث. هذا وعي يؤثر على طريقة الحكي بشكل عام فتميل لأن تكون أقل صرامة من السينما.
أيتن: أريد ربط هذا بما ذكرتوه عن النجوم.. "سابع جار" كان خالياً منهم ومع ذلك نجح. صار الناس فجأة يتعرفون علينا ويلتقطون معنا الصور وهو مالم يحدث لي من قبل. اعتقادي أن جزء كبير من هذا النجاح خاصة مع غياب النجوم يعود للعرض التلفزيوني، لكون المسلسل متاحاً أمام الناس الذين شاهدوه وتعلقوا به وبدأوا في البحث عن صناعه. هذا الشكل من النجاح شبه مستحيل في السينما التي تتحكم عوامل أخرى في مشاهدة الناس لفيلمك حتى لو كان جيداً. فيلم بدون نجوم سيختلف كلياً حجم دعايته وشكل توزيعه ومعرفة الناس بوجوده وبالتالي لن يشاهده أحد من الأساس، بالضبط كما حدث مع "علي معزة وابراهيم".
التلفزيون مساحة للتجريب
أحمد: العلاقة تعيدني لقناعتي بأن الوسيط التلفزيوني صار خلال السنوات الأخيرة يحتمل قدر من التجريب أوسع بكثير مما تحتمله السينما. صحيح أن هامش التجريب هذا أخذ في التضاؤل مؤخراً لكن تبقى تجربة إنتاج مسلسل مثل "سابع جار" ممكنة في التلفزيون أكثر بكثير من إمكانية تمويل مشروع مماثل في السينما. رغم غياب النجوم في الحالتين.
شريف: يرتبط هذا بظروف الوسيطين الإنتاجية، وتحديداً في دورة تسويق العمل. البيع للتلفزيون مرتبط بالإعلانات التي تعتمد على عوامل كثيرة منها النجوم والمنتج والمحطة وتوقيت العرض وأمور أخرى، ومعظم الأعمال تنهي هذا من البداية قبل حتى أن يبدأ تصويرها. السينما في المقابل مرتبطة بشباك التذاكر، حتى لو أمن المنتج بيع الفيلم للتلفزيون يظل سعر البيع مرهوناً بنجاح الفيلم تجارياً. حتى أنني اضطررت للعمل خمس سنوات كاملة على تأمين جهات دعم خارجية لحوالي 40 بالمائة من ميزانية "علي معزة وإبراهيم"، لتقليل هامش الخسارة على المنتج محمد حفظي؛ حتى يكون للبيع التلفزيوني ثقل أكبر في تغطية تكلفة الفيلم. كل هذه الحسابات تساهم في خفض سقف التجريب في السينما.
أيتن: أمر آخر هو أن السينما انقسمت بشكل واضح إلى مجموعتين من الأفلام: إما أفلام تجارية بحتة أو أفلام فنية بعيدة تماماً عن الجمهور. المسافة بين النوعين والتي تتضمن صناعة فيلم جيد يمكن للجمهور أن يستمتع به تكاد تكون غائبة. رغم أن هذه الأفلام أساساً هي السينما بمعناها الحقيقي، وهي ما يصنع النجوم والمخرجين الحقيقيين.
شريف: هي ما صنع تاريخ السينما المصرية أصلاً. عندما نتحدث عن الثمانينيات نقصد هذا النوع بالتحديد، نقصد أفلاماً مثل "خرج ولم يعد" وهو فيلم متوسط الإنتاج والنجاح، لكنه جيد فنياً ومتواصل مع المشاهدين. المسافة بين نوعين الأفلام خط مستقيم طويل مكون من عدد لا نهائي من النقاط، كل نقطة منها تصلح أن تكون فيلماً. وكان قراري أن أصنع فيلمي في إحدى هذه النقاط، أن يتضمن عناصر تجارية صالحة لجذب الجمهور العادي، وأن يبقى في الوقت نفسه فيلماً يعبر عني وينتمي لسينما المؤلف. وأعتقد أن هدف أيتن كان مشابهاً عندما صنعت "فيلا 69".
بالمناسبة، فائدة أخرى من العمل بالتلفزيون أضافها لي "الجماعة" الذي أوصلني أكثر للصناعة، وجعل السوق يعرف أكثر عني كمخرج قادر على تحمل مسؤولية مسلسل ضخم حتى لو كان آتياً ـ من وجهة نظرهم ـ من عالم الأفلام الرخيصة المستقلة التي لا يشاهدها أحد. هذا مكان في الصناعة كان للمسلسل الفضل في وضعي به بينما لم أكن من الأساس أطمح لبلوغه.
أحمد: حديث شريف منطبق على حالته، أما في حالة "سابع جار" فقد حاولتي مع نادين خان وهبة يسري نقل كثير من ملامح أفلامكن إلى شاشة التلفزيون.
أيتن: كانوا يطلقون على العمل أثناء تصويره "المسلسل المستقل" حتى من بعض العاملين داخله الذين كانوا يرون طريقة صناعة المسلسل غريبة عما اعتادوا عليه. لكن كما قلت كانت فرصة تقديمه في التلفزيون أسهل بكثير من السينما. الغريب أكثر أن الجمهور أعجب بما شاهده. قرأت ما كتبه شخص على موقع Facebook من أيام بأنه شاهد لقطات مدتها أربعة وخمس دقائق، وهي لقطات عادة ما تسفر عن مشاهد نخبوي لكن ذلك لم يحدث. صحيح أن البعض علق في الأيام الأولى إنه لا يشبه ما اعتادوا مشاهدته في الدراما التلفزيونية. لكن الأكيد أن الجمهور هو من انتصر للمسلسل قبل حتى منتجيه والعاملين فيه الذين كانوا يرونه مسلسل ظريف صغير الحجم، ما جعله عملاً ناجحاً هم الناس، وبدون نجوم. بصورة تفتح الباب لإمكانية قبول الجمهور لأشياء قد نعتقد إنه لن يحبها. المشاهد العادي هو من علق على أن الشخصيات تبدو طبيعية والديكور واقعي وليس المحترفين.
أحمد: أرى هذا أمراً مؤلماً لأن حدوثه مقتصر على التلفزيون. انتظار الألفة بين العمل والمشاهد وتصاعد العلاقة بينهما بناء على الجودة أمر مستحيل في السينما. أقصى ما في الأمر أن يشاهد الجمهور الأفلام في التلفزيون فيعجب بها، بعد أن تكون قد فشلت في الصالات وتم بيعها بثمن بخس للمحطات، مثلما يحدث مع "علي معزة وابراهيم" من استقبال إيجابي في كل عرض أو ندوة أقيمت له بعد انتهاء عرضه التجاري.
أيتن: الدراما كانت إذن متنفساً أخرج فيه بعض ما عندي لحين التمكن من تمويل مشروع سينمائي آخر. متنفس لابد من استغلالها بينما لازلت أملك من الطاقة البدنية والإبداعية ما يكفي، لأنني أشعر دائماً أن الفنان ينضب بعد فترة معينة من عمره. فهل مطلوب أن استغل الفرصة المتاحة أم أبقى في المنزل أنتظر جهات التمويل؟
معضلة المخرج والتمويل
أحمد: بذكر جهات التمويل لكل منكما علاقة ممتدة بصناديق الدعم خاصة شريف. فيلمك دعمته ما يقترب من 15 جهة أجنبية، لا أبالغ لو قلت أن 13 منهم قد لا يعرفون شيئاً عن مسلسل الجماعة. هل تقديم مسلسل ناجح يؤثر سلباً أم إيجاباً على مسيرتك السينمائية؟
شريف: بالفعل لا أعتقد أنهم سمعوا بالمسلسل أو بتقديمي له رغم متابعتهم لمسيرتي السينمائية. صحيح أن "الجماعة" ساعدني في إيجاد وكيل أعمال فرنسي قد يسهل لي بعض الأمور، لكن أن يتحمس منتج أجنبي لتمويل فيلمي المقبل لأنني قدمت مسلسل ناجح في مصر، لا أعتقد أن هذا وارد.
أحمد: ألا يمكن أن يدفعك هذا لأن تنخرط في صناعة المسلسلات وتنسى السينما؟ خاصة وأنها الصناعة السائدة والمربحة في بلدك، والوسيط الذي يجعلك على تواصل أكبر مع الجمهور الذي تسعى كما قلت للوصول إليه؟
شريف: سأستمر في عمل مسلسلات بالتأكيد. الأمر يشبه تقديم مخرجي السينما للإعلانات، مع الفارق بين الوسيطين في أن الإعلان وسيط يحتاج حرفة فقط أما الدراما فتحتاج مع الحرفة قدرة على الحكي. لكن كما قلت سأظل مخلصاً للسينما لأني عندما أقطع جزءً من وعيي ومشاعري وأفكاري، سأفضل بالتأكيد التعبير عنه في فيلم وليس مسلسل.
أحمد: دعني اعترض على هذه النظرة. ألا ترى مثلاً أن هذا الوصف ينطبق على علاقة تامر محسن بمسلسله "هذا المساء"؟ هذا عمل ابن مخرجه ونابع منه وأقرب لعلاقة مخرج سينما المؤلف بأفلامه. كلامك يقطع بعدم إمكانية حدوث هذا بينما الواقع أكد كونه ممكناً.
شريف: بالتأكيد هو ممكن. ربما عندما امتلك من القوة داخل الصناعة ما يسمح لي بالتحرك بمشروعي الخاص وإيجاد نجوم وبالتالي تمويل، وقتها من الممكن أن أقدم عملاً أنسبه لنفسي مثل الأفلام. يرتبط هذا بديناميات الصناعة وليس بي فقط. على سبيل المثال العام الذي قدمت فيه "الجماعة" كان واحداً من بين ثمانية مسلسلات عُرضت عليّ. العام التالي جائتني ثلاثة مسلسلات فقط، لكنها نوعية أخرى من الأعمال. العام الأول كان المطلوب مخرج شاب بإمكانه تقديم مسلسل صغير دون مشاكل، الآن أصبحت أتوقع أعمالاً أكبر بطموحات أعلى. موقعك واختياراتك تتغير مع الوقت، ولكن تبقى السينما مساحة أكثر شخصية لصانعها.
فروق التحضير والتصوير
أحمد: تحدثنا عن الصناعة والتمويل والنظرة على العامة، ماذا عن التفاصيل التقنية والعمل اليومي؟ ماذا أضافه العمل في المسلسل لكل منكما؟
شريف: منذ سنوات أقوم بالتحضير لفيلم "أوضتين وصالة" قبل أن أصور الفيلم أو المسلسل المنجزين. كنت أصمم على تصويره في خمسة أسابيع وأتشاجر مع الإنتاج لضمان ذلك في الميزانية. الآن وبعد تصوير المسلسل قمت من نفسي بتخفيض المطلوب لأربعة أسابيع ونصف، وداخلي أؤمن أنه من الممكن إنهائه في أربعة أسابيع. وقت الشجار على الخمسة لم أكن كاذباً، ووقت الوصول لأربعة لن أتهاون في جودة عملي، لكنه تطور جاء بالخبرة.
أيتن: المسلسلات بالفعل تعلمك إدارة الوقت في العمل داخل موقع التصوير. يصير الأمر وظيفة مستمرة تستيقظ كل يوم وتذهب لأدائها. بالتالي تتوقف عن التعامل معها بشكل عاطفي، وتبدأ تأخذ قرارتك بشكل أكثر منطقية ينطلق من معرفتك لما يمكنك تنفيذه على أرض الواقع.
شريف: في الوقت نفسه عندما تخرج فيلمك الأول (وضعْ تحت الكاف مائة خط) تكون مهووساً بالسيطرة على كل التفاصيل. تعيد اللقطة مرات عديدة من أجل الحصول على أداء بعينه من الممثل. خاصة مع طبيعة الصناعة التي تجعل المخرج متورطاً في أمور كثيرة لا تخص عمله. في مصر المخرج "فواعلي" يقوم طول الوقت بحل مشكلات لا تنتهي تظهر من العدم. العمل في التلفزيون "يجمد قلبك" ناحية كل هذا، يجعلك تتغاضى عن تفاصيل بعد تأكدك أنك وحدك من يلاحظها. وعموماً هذا التطور الطبيعي لأي مخرج في أي سياق وأي صناعة، اكتساب الخبرة يوفر الوقت.
أيتن: من جهتي لابد أن أعترف أن هذا الجزء الاحترافي كان ينقصني، وأنني سعيدة ببدء اكتسابي لها من خلال المسلسل. مهارة الإنتهاء من العمل كانت متوفرة لدى خان وجيله وكنت أطمح لامتلاكها.
شريف: هذا الجيل كان يتحرك سريعاً، ينهي فيلماً ليدخل آخر ويعلم جيداً أن هذا الفيلم ليس نهاية العالم. هذا ما يجعله مخرجاً قدم 24 فيلماً في 36 سنة إخراج، بمعدل فيلم كل سنة ونصف، بل يزيد هذا لدى عاطف الطيب لعمل فيلم كل تسعة أو عشرة أشهر. مع الانخراط في العمل تفهم أن "الحركة بركة". العمل يضعك في مواقف أكثر فيجعلك جاهزاً بالحلول أسرع. هذا التطور الطبيعي الذي اكتسبوه من فيلم لآخر، ونحن نكتسبه بالعمل في التلفزيون.
أيتن: تعلمت أيضاً التعامل مع المسلسل كحرفة. ألا آخذ كل شيء على أعصابي كما كنت أفعل في الفيلم لأنني ببساطة لو فعلت ذلك طوال تصوير مسلسل سأموت في نهايته. داخل التصوير تكتشف أن عليك إيجاد شكل آخر للعمل، شكل يوجهك لما هو أهم وما يقل أهمية. يجعلك حاسماً مع نفسك في أمور من نوعية إن تصوير هذا المشهد يجب أن ينتهي الآن، إن الحسم مع الآخرين ضروري حتى ينتهي العمل في موعده. الآن عندما سأصور فيلماً أوقن أن قراراتي ستكون أسرع.
هدف الوسيطين المختلف
شريف: طرحت على نفسي سؤالاً حول الفارق الذي يجعلني استهلك طاقة ووقت اليوم في تصوير ثلاثة مشاهد من الفيلم بينما الوقت نفسه يسمح بتصوير سبعة مشاهد تلفزيونية. الإجابة لا تقتصر على شكل المشاهدة الذي يتيح تسامحاً أكثر في التفاصيل، ولكن أعتقد أن لها علاقة بفارق آخر بين الوسيطين. السينما تعتمد بالأساس على الإبهار. هذا يجعل كمخرج تستهلك وقتاً أكثر في البحث عن حلول أكثر إبهاراً، أن يحمل مشهدك بعض الإدهاش لمشاهد مطلع على أفلام عالمية وجالس بتركيز كامل أمام شاشة ضخمة تظهر كل التفاصيل. هذا ما يجعل أسلوب إخراجي مبسط مثل ما فعلته أيتن وهبة ونادين في "سابع جار" مناسب أكثر لجمهور التلفزيون. هذا "ستايل" واضح رغم بساطته ومناسب للحكاية، ناهيك عن ارتباطه بالإنتاجية، بعدد الدقائق التي ينجزها المخرج في نهاية كل يوم تصوير. لكن لو افترضنا تطبيقه في فيلم سينمائي، لا أعتقد أنه سيناسب الوسيط أو يحمل أي دهشة، رغم أنه وقتها يمكن تصوير الفيلم كاملاً في سبعة أو ثمانية أيام. الأسلوب هنا مرتبط بالحكي التلفزيوني وملائم له.
أيتن: أؤكد على ما قاله شريف بأن الستايل في "سابع جار" واضح وحاضر وإن لم يظهر للبعض. اختيار تصوير المسلسل كاملاً بعدستين فقط هو اختيار واعٍ وقوي. التنويع ليس أسلوباً ولكن وضع حدود لما تفعله هو ما يخلق الأسلوب، والأسلوب هنا ملائم للموضوع، يساهم على مستوى آخر في حل مشكلات إنتاجية قد تظهر خلال العمل. أن تطوع نفسك لما يتلائم مع المشروع والوسيط، وتحاول تجربة أمور قد لا تجربها في فيلمك، هذا يضيف لحرفتك الإخراجية. أمر كنت أراه ينقصنا مقارنة بالأجيال السابقة، ولا أقصد جيل الثمانينيات وإنما حتى الخمسينيات والستينيات. مخرجون مثل كمال الشيخ وعاطف سالم هم صناع أفلام عظام وأيضاً متطورين على المستوى الحرفي. شخصياً كنت أكتشف الحرفة انطلاقاً من رغبتي في صنع الفيلم، وكان لدي الرغبة في التمكن من صنع أي فيلم حرفياً فقط. المسلسل جعلني أفكر في عملي بهذه الطريقة.
أحمد: لننتقل إلى الفارق بين إخراج المشهد الواحد للسينما والتلفزيون، ما هو الفارق بين صنع المشهدين؟
شريف: أعتقد أن الفارق هو بؤرة الاهتمام. في التلفزيون المستوى الأول للحكاية والحوار والأحداث هو الموضوع الأهم الذي يجب التركيز عليه، بينما يحتمل المشهد السينمائي طبقات أعقد من الأفكار والدلالات، خاصة فيما يتعلق بالمشاعر.
أحمد: ربما لا أتفق مع هذا التعميم لأن بعض المسلسلات الأمريكية الآن تحمل مشاهدها تعقداً مدهشاً للمشاعر. لكن أتفهم الفارق في كون التلفزيون وسيط حواري بالأساس، وبالتالي التعبير عن أي أفكار أو مشاعر عادة ما يمر من خلال الحوار، حتى في حالة المسلسلات الأمريكية الضخمة التي يصنعها كبار المخرجين.
أيتن: هذا بالإضافة لأن الإخراج بالشكل السينمائي للتلفزيون أشبه بمن ترتدي حذاءً بكعب على البحر. هو فعلاً غير مناسب ولن يتلقاه المشاهد بالصورة التي تريدها، بل قد يأتي بنتيجة عكسية ويعيق السرد والتواصل مع المشاهدين. الفيلم ليس هو الكتابة بل المخرج، بينما يدين المسلسل بالولاء للكتابة بقدر أكبر. والإخراج لابد أن يكون أبسط.
شريف: لا أتفق مع ضرورة التبسيط. كنت أتحدث مع تامر محسن في هذا الشأن، ولفت نظري رأيه في أن هناك نوعية لقطات ليس من المنطقي عملها في التلفزيون كان يلوم عليّ عملها. قال لي أنه عندما تجد مخرجاً أضاع ساعتين من يوم التصوير ليصور لقطة من زاوية عليا لأشخاص يجلسون في غرفه. هذه لقطة متعبة ومستهلكة للوقت لن يكون متاح لك في النهاية إلا أن تستخدمها لخمس أو عشر ثوان على الأكثر. هذا رأي له وجاهته لكنه يغفل أن بعض النصوص الدرامية في حاجة لتعامل كهذا، عندما يكون السيناريو مليئ بالمعلومات والمواقف التاريخية مثلاً ليس لديك حل آخر ليكون العمل سلس وسهل المشاهدة وبعيد عن الجفاف. طبيعة المشروع هو ما يحدد الأسلوب.
أيتن: حديثي عن البساطة لا يعني اتفاقي مع رأي تامر. في مسلسلنا استخدمنا التصوير من الزاوية العليا تقريباً في جميع المشاهد التي تحمل مشاعر حميمية أو يجلس فيها شخصين للحديث على السرير. لا أعتقد هنا أنه اختيار مرتبط بالإبهار قدر كونه ستايل إخراجي ثبتناه للعمل، وكانت بعض هذه اللقطات تصل لثلاث دقائق.
أحمد: هذا لا يتعارض مع الرأي لأنه هنا أسلوب مستخدم في المسلسل كله وليست لقطة واحدة غرضها الاستعراض.
شريف: بالضبط، هذا كان مجرد مثال ضربه ليشير للتفكير بطريقة السينما في الإخراج التلفزيوني.
ماذا عن المستقبل؟
أحمد: دعوني أتحفظ على شيء استشعره في حديثكما من البداية، وهو إنه رغم ما حققتماه من نجاح مهني في الدراما التلفزيونية، إلا أن رأيكما لا يزال يميل لاعتبارها مساحة أضيق للإبداع، وممارسة مهنية أكثر من كونها شغف حقيقي مثل السينما. هذا شعور وصلني لا أدري مدى صحته.
أيتن: هي ليست مساحة أضيق ولكنه وسيط طبيعته مختلفه. كما قال شريف عندما صنعت فيلمي كنت أصور ثلاثة مشاهد في اليوم، وعندما صورنا أربعة احتفلنا بالإنجاز، في "سابع جار" بعض الأيام كانت تنتهي بتصوير 20 دقيقة كاملة. في السينما تنخرط في اللقطة الواحدة أكثر بكثير من انخراطك في اللقطة التلفزيونية، هذا ما يصنع الفارق على مستوى اللقطة وهي أصغر وحدة. أما على مستوى المشروع بأكمله يظل الوسيط إبداعياً ويظل المسلسل هو مشروعك واختيارك، لكن انخراطك فيه يكون في الرؤية العامة: قراراتك بخصوص الكتابة والشخصيات والتمثيل والأسلوب هي الرئيسية وليست قرارات كل لقطة بمفردها.
أحمد: لا جدال على ذلك فيما يتعلق بالعمل اليومي، لكن ما أقصده هو ما يوحي بيه حديثكما بأن المخرج يكون نفسه فقط في السينما، ولكنه في التلفزيون نسبة من نفسه، لنقل 70 بالمائة منها.
شريف: أعتقد أن هذه نسبة صحيحة، بإمكانك عمل ما يخصك في الفيلم تماماً، لكن المسلسل يمكنك هذا جزئياً. لن أقول لك سوى أن الفيلم 90 دقيقة والمسلسل 18 ساعة، وفكر في قدر الوقت والجهد والمال المبذول في كل دقيقة سينمائية مقابل نظيرتها التلفزيونية. السينما تستنزف مخزونك الروحي والعقلي ليكون كل كادر منتمٍ لك.
أحمد: أخيراً، من عشر سنوات لم يكن أياً منكما يتوقع إخراج مسلسل، هل لديكما تصور عما يمكن أن تحققاه بعد عشر سنوات من الآن؟
شريف وأيتن: لا يوجد أي تصور، الظروف تتغير ويستحيل توقع ما يحدث بعد عام أو اثنين وليس عشرة.
أحمد: يدهشني دائماً هذا. أننا نتحدث عن فيلموغرافيا المخرجين بعد سنوات وكأنها اختيارات واعية بنوعية وشكل الأفلام والخطوات المهنية، بينما الانخراط في الصناعة يجعلني ألاحظ أن أحداً لا يعرف ماذا سيكون مشروعه المقبل ولا يتمكن من توقع ما سيحدث بعد عام أو اثنين.
شريف: هناك أمر هام هنا. لم أتوقع مسار حياتي المهنية ولم أتخيل صنع "الجماعة" أو حتى أن يكون "علي معزة وابراهيم" هو فيلمي الأول. ولا أعرف ما سيحدث في السنوات المقبلة وهل سأصنع مسلسلات أكثر أم أفلام أكثر. لكن الأكيد هو أن ما سأقدمه سيكون محصلة الاختيارات المتعددة التي اتخدتها على مدار هذه السنوات. سيكون في النهاية المسار يشبهني ويمكن لمن يريد أن يجد القواسم المشتركة فيه أو يقسمه لمراحل أو أي شكل آخر من التعامل النقدي مع الفيلموغرافيا. وبالتأكيد هذا ما سينطبق على أيتن أيضاً، وعلى كل مخرج له أسلوب ورغبة في امتلاك بصمة.