في السنوات العشر الأخيرة، انتشرت في هوليوود حمى الـRemake والـ Reboot، الأولى تتعلق بإعادة تقديم أفلام قديمة ناجحة برؤية جديدة، إذ امتد الأمر من أفلام الرعب مثل The Hills Have Eyes (الهضاب تمتلك عيونًا) وحتى الأفلام التاريخية مثل الفيلم الخالد Ben-Hur، وفي حالات قليلة فقط نجحت أفلام الـ Remake في تحقيق نجاحٍ حقيقي سواء على مستوى الجمهور أو النقاد.
في حين ارتبط اتجاه الـ Reboot بفكرة أصل العمل، لإعادة إحياء بعض السلاسل أو الشخصيات السينمائية وتقديم فيلم يمثل بداية جديدة لهذه الشخصيات، الأمر الذي حدث بالأكثر مع شخصيات الكومِكس، مثل سبايدر مان وبات مان، وبعيدًا عن الكومِكس شخصية جيمس بوند بفيلم Casino Royal.
أفلام قليلة اختارت متابعة العمل الأصلي، وعمل جزء جديد Sequel، وهكذا كان لدينا فيلم Mad Max: Fury Road (ماكس المجنون: طريق الغضب)، الذي تابع فيه مخرجه جورج ميلر مسيرة سلسته المتوقفة منذ عام 1985، وأخيرًا جاء Blade Runner 2049، ليتابع أحداث فيلم الخيال العلمي المميز Blade Runner الذي ظهر عام 1982.
هكذا لدينا قاعدة قوية هي الفيلم الأول، وامتداد لهذه القاعدة يتمثل في مؤلف الفيلم الأول والثاني هامبتون فانشر، ولدينا قيادة جديدة تتمثل في المخرج ديني فيلينوف الذي عليه أن يبني على ما أسسه المخرج الكبير ريدلي سكوت.
من 2019 إلى 2049
تدور أحداث الجزء الأول في عام 2019، إذ يسعى الشرطي السابق ديكارد (هاريسون فورد) إلى قتل عدد من الآليين الذين يُطلَق عليهم ريبليكانت ويشبهون البشر تمامًا، وذلك لقيامهم بالتمرد وقتل البشر، لكنه أثناء المهمة يقع في حب الريبليكانت ريتشل (شون يونج)، ويُطلَق على رجال الشرطة المسؤولين عن إيقاف الريبليكانت لقب Blade Runner.
تبدأ أحداث الفيلم الجديد في 2049، إذ يشتري رجل الأعمال والاس (جاريد ليتو) الشركة المنتجة للريبليكانت ويبدأ في إنتاج فصيلة جديدة تتميز بالطاعة ليتلافى عيوب الفئة القديمة.
يتبقى عدد من الريبليكانت من فئة قديمة خرجت عن طوع البشر، ويعمل K (ريان جوسلنج) الـ Blade Runner على إيقاف هؤلاء. وأثناء أداء مهمته يكتشف عددًا من الأسرار الخاصة بتطور الريبليكانت والتي تسعى أكثر من جهة للحصول عليها وتسعى جهة أخرى لإبقائها سرًا، وفي سبيله لكشف هذه الأسرار يلتقي بالضابط ديكارد الذي يمثل مفتاحًا رئيسيًا لحل اللغز.
تمتد مدة الفيلم إلى ساعتين وأربع وأربعين دقيقة، أي أننا أمام فيلم طويل، وهكذا على السيناريو أن يسير بشكل سريع، وأن يكون في كل مشهد ما يقدمه حتى تمر هذه المدة دون أن يشعر المشاهد بالملل.
اعتمد السيناريو على بناء الفيلم كقطع من البازل، إذ يكشف كل مشهد عن جزء من الصورة، جزء له أهميته في الصورة النهائية، وفي الوقت نفسه يُبقي المشاهد متشوقًا بانتظار القطعة التالية التي ستنكشف، وهكذا يصعب عدم الاستمتاع بالفيلم حتى نهايته.
بينما يبقى المشهد الافتتاحي للفيلم من أقوى عناصره، إذ أسس سريعًا للشخصية الرئيسية دون أن ينسى الجزء الأول، فبينما يبدأ الجزء الأول بحدقة عين تنعكس عليها النيران المشتعلة، يبدو الجليد هو ما يسطير على حدقة عين الريبليكانت الجديد K، شعلة التمرد انطفأت وحل محل محلها السمع والطاعة. في المشهد الأول أيضًا تظهر سريعًا أولى الخيوط التي قادت إلى اللغز الرئيسي داخل الفيلم.
وفي الوقت نفسه، أسس المشهد للأجواء العامة لزمان ومكان الفيلم، واللذان يبدو فيهما الارتكاز الواضح على الجزء الأول.
الوقوف على أرضية صعبة
إعادة إنتاج الأفلام برؤية مختلفة عادة ما تكون لعدة أسباب، منها عدم التقيد برؤية مخرج العمل الأول خاصة إذا كان بنى عالمًا كاملًا للشخصية، على سبيل المثال، من شاهدوا الفيلمين الأولين لبات مان من إخراج تيم برتون سيشاهدون الشكل السوداوي الذي صوّر به مدينة جوثام، وهو ما لم يهتم به كثيرًا المخرجين التالين وقدموا رؤيتهم الخاصة، هكذا نجد أن الخيار بتقديم جزء ثانٍ، يعتمد في بنائه على الفيلم الأول لم يكن أمرًا سهلًا بالنسبة لصناع Blade Runner 2049.
أهم ما ميز الفيلم الأول ليس فقط الشخصيات والحبكة أو حتى القراءة الفلسفية، لكن أيضًا تفاصيل الشكل المختلف للعالم في عام 2019 الذي قدمه ريدلي سكوت، ومعه مدير التصوير جوردان كرونينوِز بالإضافة لفريق الخدع والديكورات.
لم يقدم الفيلم المخلوقات الفضائية لتحيا في الأرض، كما لم يدر في مجرة بعيدة بعيدة كما في أفلام حرب النجوم، حتى الملابس لم تكن شديدة الاختلاف بل كأنها تطور طبيعي للملابس العصرية. لكنه في المقابل اهتم بإبراز دور الآلات والتكنولوجيا بشكل واضح، هكذا جاءت السيارات الطائرة ولوحات الإعلانات الأكثر حيوية مما كانت عليه آنذاك، والأهم من هذا كله، السواد، طوال الفيلم نعيش في أجواء مظلمة ومقبضة، لا نهار.
كل هذه التفاصيل لم تكن شكلية فقط، ولكن كان لها دور في إتمام الرؤية السوداء للمستقبل القريب أو ما يُعرف بـDistopia.
كان هذا هو التحدي الأول أمام المخرج ديني فيلينوف، فالإبقاء على هذه الأجواء هو قيد قبل كل شيء، كما أن التكنولوجيا المحدودة في العام 1982 كانت تسمح بالكثير من الخيال في ما يتعلق بتطور الآلات واستخداماتها، في حين أن التكنولوجيا التي وصل البشر إليها الآن أصبحت أسرع مما يمكن تخيله فعليًا، وبالتالي فمحاولة إضافة اختراعات جديدة مبتكرة لعالم Blade Runner في عام 2049 هو قيد آخر.
من 1982 إلى 2017
مخرج العمل فيلينوف، وكأنه استمتع بميراث الجزء الأول، هكذا نشاهد المدينة شديدة الشبه بتلك الخاصة بالجزء الأول، وإن كانت أكثر جفاءً، المباني جميعها متشابهة وبلا روح، وإن كان حافظ على واحدة من أهم تفاصيل الجزء الأول، وهي الإعلانات التي تمتلئ بها الشوارع.
الإعلانات كان لها غرض فني، إذ أضفت جمالًا وإضاءة من نوع خاص للمدنية في المشاهد الليلية، كما أن استمرار هذه الإعلانات، وكأنه يؤكد جزءًا من فكرة النمط الاستهلاكي الذي أصبحت عليه البشرية، كل شيء تغير تقريبًا، وبقي الاستهلاك.
كانت أهم الإضافات هي شخصية الآلية جوي التي لعبت دورها بشكل مميز آنا دي أرما، جوي عبارة عن مساعد شخصي أو رفيقة شخصية في صورة هولوجرام أو طيف يتحرك ويتحدث ويتفاعل ويخزن الذكريات، لكن الأمر ليس محض خيال لإضافة المزيد من الشخصيات.
في أحدث مؤتمرات جوجل أعلنت عن مساعد شخصي منزلي يستطيع القيام بمعظم المهام الروتينية اليومية من خلال الذكاء الاصطناعي، ومنذ أول ظهور لصوت جوي قبل أن نراها، نشعر أن K يتحدث مع مساعد جوجل، نفس الصوت تقريبًا، ونفس الأداء الذي يستخدم دومًا نبرة متفائلة. لكن الأمر يتطور لأن يكون هناك علاقة عاطفية قوية بينه وبين هذا الطيف، هذه التفصيلة وتفاصيل أخرى، منحت الفيلم طابعه الخاص، إذ أن كابوسيته مستمدة من الواقع.
اعتادت الكثير من أفلام الخيال العلمي تصوير كارثة مستقبلية نتيجة تمرد الآلات ومحاولتها السيطرة على البشر أو حتى نتيجة الاعتماد المفرط على التكنولوجيا على حساب العامل البشري مثلما جاء في فيلم “I, Robot”.
Blade Runner 2049 يقدم الريبليكانت في صورة ضحايا لذوي السلطة، الذين ينقسمون لفريقين، الأول يريد القضاء على أي ريبليكانت يريد أن يحيا في سلام بعيدًا عن العبودية، والفريق الآخر يريد أن يسيطر عليها لفرض سطلته على الأرض.
يمكن إعادة قراءة الفقرة السابقة بعد استبدال الريبليكانت بالإنسان، لرؤية المعنى الرمزي وراء الفيلم، هكذا يمكن تقبل أن يكون الآليين هم ضحايا، إذ يقدم الفيلم أن الأنظمة المتحكمة في الأرض وتحديدًا والاس صاحب شركة إنتاج الريبليكانت هم المشكلة الحقيقية.
ديني فيلينوف
على الرغم من القيود المفروضة على الفيلم التي ذكرناها سابقًا، يُبدع فيلينوف في تقديم فيلم ممتع بكل تفاصيله، ليقدم لنا عملًا يحتوي على الكثير مما يبحث عنه أي مشاهد.
فمن يبحث عن التشويق سيجده حاضرًا طوال مشاهد الفيلم، ومن يبحث عن الرؤية الفنية المتميزة سيجدها أيضًا منذ أول مشهد، بخلاف الجزء الأول، توجد العديد من المشاهد النهارية لكن المخرج استخدمها بشكل مختلف، إذ جاء معظمها ضبابيًا أو قاتمًا، ليستخدم النور أيضًا في استكمال لوحته السوداوية، ويعاونه في هذا مدير التصوير المميز روجر ديكنز.
أضاف إلى لوحته التميز في صناعة الديكورات، إذ يظهر أكثر من مكان مختلف في أحداث الفيلم وكل منها له تصميم خاص مناسب للمشهد، ولا يتخلى عن اللمسة المتسقبلية المختلفة. أفضل هذه الديكورات كان لمقر والاس الذي كان تصميمه وألوانه مناسبين للهالة المحيطة بالشخصية. كذلك استخدم الجرافيك بالقدر المطلوب دون إفراط، ليركز على تيمة التشويق بشكل أساسي.
لكن اهتمامه بالتفاصيل التقنية لم يمتد إلى الممثلين بشكل واضح، إذ قدم كل ممثل ما هو مطلوب منه دون تألق استثنائي أو لافت من أيهم، خاصة ريان جوسلنج.
على الرغم من التميز الواضح في معظم عناصر الفيلم، إلا أن تتابعات النهاية كانت أضعف ما فيه، إذ جاءت بشكل سريع، وتركت العديد من الأسئلة المطروحة دون الإجابة عنها، وإن كان هذا لم يقلل من متعة الفيلم.
Blade Runner 2049 هو واحد من أفضل أفلام الأجزاء في السنوات الأخيرة في ما يتعلق بالإخلاص للسلسلة الرئيسية، بشكل ربما لم نشاهده إلا في Star Wars: The Force Awakens (حرب النجوم: يقظة القوة)، وعلى الرغم من مدته إلا أنه يظل تجربة ممتعة خاصة على المستوى البصري وعلى مستوى أفلام الديستوبيا عمومًا، وبه يحافظ مخرجه ديني فيلينوف على مستواه الفني المميز.
اقرأ أيضا
تعرف على أسباب إخفاق فيلم Blade Runner 2049 تجاريا.. استغلال خاطيء لـهاريسون فورد
انتقادات حادة لـ Sony بعد حذف مشاهد التعري في النسخة التركية من Blade Runner 2049