قبل عامين قدم المخرج طارق العريان مع المؤلف صلاح الجهيني والممثل أحمد عز فيلم "ولاد رزق"، ليكون واحداً من أهم الأفلام المصرية التجارية التي صُنعت خلال الأعوام الأخيرة، بنصّه المتماسك الذي يرسم حكاية مثيرة أبطالها أبناء رزق الأربعة، وعالمه الفيلمي الذي أجاد المخرج صياغته ليأخذ المشاهدين إلى عالمٍ موازٍ، شبه واقعي، هدفه المُعلن هو الإمتاع.
ما سبق رفع تلقائياً من سقف التوقعات قبل مشاهدة فيلم "الخلية"، الحامل لأسماء الصناع الثلاثة الرئيسيين، بل وأسماء مدير التصوير والمونتير ومصمم الديكور والملابس أنفسهم. صحيح أنه يأتي دون النسبة الأكبر من نجوم الفيلم السابق، لكنه يبقى من المناسب تماماً وصفه ـ على طريقة الأفلام الأمريكية التي يقدرها العريان ـ بأنه فيلم يأتي من صُنّاع "ولاد رزق". ليظهر السؤال تلقائياً: هل "الخلية" خطوة للأمام أم للخلف؟
أسباب النجاح أو التعثر
للبحث عن إجابة التساؤل السابق لابد وأن نستعيد ما ذكرنها في مقال "ولاد رزق" عن السمات الرئيسية لسينما طارق العريان على مدار أفلامه الستة السابقة، وهي قيمة السيناريو، الإتقان البصري، والجوّ العام ( راجع مقال "ولاد رزق".. قيمة الحرفة وسحر الجوّ العام).
السيناريو هو البطل الدائم في أفلام العريان مهما كان نوعها. هو دائماً سيناريو مغلق، كلاسيكي حتى لو تلاعب قليلاً بزمن السرد. أبطاله شخصيات فاعلة صاحبة قرار، وحكايته يُمكن أن تروى فتصل كاملة غير منقوصة، أي لا تترك مساحات يملؤها المشاهد بهواجسه وتخيلاته كمعظم مدارس السرد الحداثية. ليأتي بعد ذلك دور العنصر الثاني، وهو تمكن المخرج من صنعته الإخراجية، وتقديم نفس الحكاية المغلقة بصورة تضيف إليها إمتاعاً نابعاً من إحكامها بصرياً، لا مجال للأخطاء أو الاستسهال، فكل شيء مصنوع بدقة فائقة، حتى لو تحولت هذه الدقة أحيانا إلى شكلانية تفقد الفيلم روحه.
السمة الثالثة في سينما طارق العريان، هي قدرته على رسم جوّ عام "أتموسفير" خاص، عالم فيلمي كامل يدخله المشاهد ولا يخرج منه إلا بنهاية العمل. وكل من يذكر حالة التأثر الشديد بعالم وكالات الإعلان وتفاصيله لدى كل من شاهد "السلم والثعبان" ثم ما كرره لاحقاً مع عالم "ولاد رزق" الصاخب، يمكنه أن يضع يده على قدرة المخرج ـ في حالة توافر سيناريو جيد ـ على رسم هذا الأتموسفير الخاص. هنا يمكنناً أن نحدد بنسبة كبيرة ما نجح "الخلية" فيه، وما كان من أسباب تعثره.
الشكل في مقابل المحتوى
لا غُبار على صنعة طارق العريان الإخراجية، وبالتحديد فيما يتعلق بتنفيذ مشاهد الحركة والمطاردات بإتقان شديد ذكرنا إنه أحد السمات الرئيسية لأفلامه. لكن ما يجب أن ننتبه له هو أن هذا الإتقان لا يُفترض أن يعني أي شيء بصورته المجردة لمن يأخذ السينما على محمل الجد، بمعنى أن تنفيذ مطاردة مبهرة بالسيارات أو مشهد قتالي عنيف يخوضه البطل هو مجرد "شكل" لا يعني أي شيء في حالة فراغه من
"المحتوى"، إلا إذا كان صانع الفيلم يرغب في تقليد مئات أفلام الحركة الأمريكية ذات التيمات المكررة التي تعرضها الفضائيات يومياً، وهي رغبة تقول فيلموغرافيا العريان أن طموحه أكبر منها بالتأكيد.
لا نعني بالمحتوى هنا أي رسالة أخلاقية أو وعظية، أو حتى طرح فكري لم يكن أبداً من أغراض صانع الفيلم، وإنما نقصد محتوى الحكاية من فرادة على مستوى الشخصيات والأحداث، تجعلها طازجة وجاذبة ومؤثرة في مشاعر المشاهدين. الأمر الذي توافر بوضوح في "ولاد رزق" على مستوى بناء الشخصيات ورسم العلاقات بينها، وتصعيد الصراع بصورة قلنا وقتها أننا نشاهدها للمرة الأولى في السينما المصرية التي استهلكت تيمات الصداقة والجريمة بعشرات الاحتمالات الممكنة.
هنا تكمن المشكلة الأبرز في "الخلية" وهو افتقار السيناريو، في غالبية زمنه ونقاط التحوّل فيه، لأي قدرة على الإدهاش أو مخالفة التوقعات. هذا نص ملتزم كلياً بتاريخ تيمة الانتقام التي قُتلت هي الأخرى بحثاً. وإذا كنا قد ربطنا بين جودة السيناريو وقدرة العريان على مدار أفلامه كلها أن يخلق جواً فيلمياً خاصاً، فكان من الطبيعي أن يكون الفيلم ـ مع التأكيد على إحكامه الإخراجي وبذخه الإنتاجي ـ صورة قياسية لمفهوم "الكيتش".
الباهظ.. الممتع.. والمبتذل
الكيتش Kitsch هو مصطلح فني شائع، نشأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بأسواق الفنون الألمانية لوصف اللوحات الشعبية الرخيصة التي تلقى قبولاً من المشترين، وتطور مع الوقت ليصير مرادفاً للفنون التي تلقى قبولاً من العامة لكونها مبهرجة وشديدة العاطفية، لينقسم الناس حولها بين من يحللها فيجدها ضعيفة منعدمة الأسلوب تميل للقبح، ومن يغرمون بها فيرونها مضحكة ومؤثرة عاطفياً.
النمساوي هرمان بروخ، أحد أهم الكتاب الحداثيين، وصف الكيتش بكلمات موجزه بأنه "يحاكي سلفه المباشر دون مراعاة، يحاول نسخ الجميل وليس الجيد". أما الفيلسوف الألماني والتر بنجامين فقال أقرب تعريف لما نريد قوله عندما وصف آلية عمل الكيتش بأنه "يقدم إشباعاً عاطفياً لحظياً، دون جهد فكري، دون شرط المسافة بين العمل الفني ومن يراقبه"، تماماً مثل اللوحات المحفوظة التي يميل البعض لتعليقها على جدران الصالونات: مناظر طبيعية وطفل باك وفتاة تقبل ثعباناً، لا يزال هناك من يرونها فناً جديراً بصدارة منازلهم!
حسناً، هذه ليست مساحة لمراجعة التعريفات النقدية، لكنه توضيح ضروري للوصول إلى عبثية فكرة الإنفاق السخي والتنفيذ المتقن في إعادة إنتاج حكايات شاهدناها سلفاً مرات عديدة. ويكفي أنه مع الظهور الأول لشخصية "الضابط عمرو" التي يلعبها أحمد صفوت وحديثه عن الأسرة والزواج، ارتفع صوت أحد المشاهدين الشباب في قاعة العرض يقول لزملائه "طبعاً ده هيموت بعد شوية"، فلا تمر دقائق إلا ونشاهد تتابعاً محكم التنفيذ لاقتحام أحد أوكار الإرهاب ينتهي بمصرعه.
لا نقوم هنا بحرق أي أحداث، فمن يشاهد الدقائق الأولى من الفيلم سيفهم ما نعنيه بأن هذه شخصية وُضعت في الفيلم فقط كي تموت وتصير محركاً للانتقام، شخصية ملتزمة "بمحاكاة السلف المباشر" بكونها رب أسرة ملتزم سعيد يُمثل طرف النقيض للبطل البوهيمي الرافض للزواج "سيف" (أحمد عز)، ولا بأس من جعله راغب في الابتعاد عن العمل الميداني لكنه يستمر فيه تلبية لصديقه "سيف"، لإضافة المزيد من أسباب الشعور بالذنب لدى البطل بما يوفر "الإشباع العاطفي اللحظي" لمشاهد صار من الطبيعي أن يتفهم غضب "سيف" ورغبته في الانتقام، حتى لو كان هذا المسار معروفاً ومتوقعاً من اللحظات الأولى، فالغرض هو التأثير الآني فحسب، ولا يهم ماذا سيستمر مع الجمهور خارج قاعة العرض.
بطل بلا جذور ولا رحلة
هل مطلوب من الفيلم أن يبقى مع المشاهد خارج القاعة؟ ألا تكفي متعة المشاهدة فحسب؟ الإجابة تأتي من رحم التجربة، وإذا كنا وصفنا فيلم "هروب اضطراري" خلال موسم عيد الفطر بأنه خطوة أولى ناجحة لمخرجه ومؤلفه رغم كونه مجرد حكاية شكلانية لا تتعمق في نفسيات شخوصها ( راجع مقال "هروب اضطراري".. تعاقد جماهيري ناجح لمرة واحدة فقط)، فإن التساهل نفسه غير جائز مع مخرج خبير ومؤلف موهوب أثبتا من قبل قدرتهما على الجمع بين الجماهيرية والقيمة.
تكرار العودة إلى "ولاد رزق" أمر بديهي لأنه كان فيلماً نموذجياً في تحقيق الحد الأقصى من الإشباع الجماهيري بحكاية محبوكة وشخصيات متمايزة وعالم فيلمي طارج، مع الكثير مما يبقى معك بعد مشاهدة الفيلم للتفكير فيه حول علاقة الأخوة الفريدة وفكرة قوة الاتحاد بين الأشقاء حتى لو كان لسرقة. الأخوة رزق لم يكن من الممكن أن يعيشوا في مكان سوى منزلهم ذو التصميم الخاص، أما الضابط سيف فيفتقر للكثير من ذلك.
من هو سيف؟ ما الذي نعرفه عنه في بداية الفيلم كإنسان، بخلاف المعلومات الخارجية بكونه ضابط عمليات خاصة يمارس "الكيك بوكسنيج" ويمتلك كلباً ضخماً؟ ما هي طبقته وجذوره الاجتماعية؟ نراه يعيش في منزل فاره حديث الطراز يُطل على ميدان مصطفى كامل، ويمتلك سيارة فاخرة ثمنها أكبر من الراتب السنوي لرئيس جهاز الأمن المركزي، ولا نعرف عن ماضيه سوى أنه يتيم الأبوين.
ديكور محمد عطية متميز في الفيلمين بشكل مجرد، وتفاصيل الملابس والسيارة والإكسسوارات ثرية في العملين، لكن في الفيلم القديم هي أمور دالة على الشخصيات ومفسرة لها، وفي "الخلية" هي أمور شكلية، لا تُفسر شيئاً بل تزيدنا اغتراباً عن البطل الذي نظل حتى النهاية لا نعرف جذوره ولا نفهم وضعه المادي أو الاجتماعي (بما يتناقض مع زميليه على سبيل المثال، فأحدهما يعيش حياة متوسطة مناسبة لضابط في منتصف العمر، والآخر تكشف جملة حوار عن أنه يعيش حياة رغدة بسبب ثراء والد زوجته).
المعلومات التي توضح الجذور غائبة، فماذا عن الحكاية التي تكشف جوهر الشخصية ورحلتها؟ ما الذي وصل إليه سيف بعد أن خاض مغامرته المبهرة المليئة بالرصاص والمطاردات والضرب المبرح؟ والمنطلقة ـ نظرياً ـ من سؤال العدالة الفردية أم العمل النظامي: أنتقم لصديقي الشهيد بيدي أم أنتظر أن يأتي القانون ورجال الداخلية بحقه؟
لن نخوض طويلاً في تأويل نهاية الفيلم لأن ذلك سيوصلنا إلى نتيجة بالغة الخطورة لا أظن أن صناع الفيلم أرادوا بلوغها، فتقديري أنهم أرادوا فقط مواصلة الحكاية بما يضمن الحد الأقصى من الانعطافات الدرامية من أجل التأثير في الجمهور والحفاظ على فرص صناعة المزيد من مشاهد الحركة المتتالية، الجيدة التنفيذ كما أسلفنا. لكن النتيجة المحبطة درامياً هي أننا أمام بطلٍ خالٍ من المعنى الإنساني، جميل المظهر خفيف الظل يؤدي مشاهد مبهرة، لكننا ندخل ونخرج من الفيلم دون أن نعرفه أو نقترب منه إلا في الحد الذي يسمح به الكيتش "إشباع لحظي، دون جهد فكري، غير مناسب لأي مسافة بين الفيلم والمشاهد يُفكر خلالها فيما رآه".
بين نهاية ونهاية
آخر مقارنة يمكن عقدها بين "الخلية" و"ولاد رزق" هي مقارنة تتابعات النهاية، التي تسببت في كثير من الاتهامات بالسرقة للفيلم القديم باعتباره تأثر بنهاية "مشتبهون معتادون" الشهيرة، بالانقلاب المفاجئ الذي نكتشف فيه أن المشتبه فيه المتلعثم هو أخطر المجرمين. وقتها قلنا أن الدفاع عن الفيلم يأتي من داخله، من قدرته على إثارة الدهشة وتحقيق المتعة حتى لو قام مخرجه بحذف تتابع النهاية بأكمله.
"الخلية" على النقيض يمتلك فصلاً أخيراً هو أفضل ما فيه، وبالتحديد بداية من التكليف الذي يقبله البطل تحت ضغط من خصمه الإرهابي (سامر المصري) وما يترتب عليه من مواجهة متصاعدة. الفصل الأخير يمتاز عما سبقه بأن الأكثر مخالفة للتوقعات، ففيه فقط تجلس على حافة المقعد منتظراً ماذا سيحدث دون أن تتوقعه مسبقاً. لكن هذا يقودنا للسؤال ذاته الذي دافع عن الفيلم السابق: إذا ما حُذف تتابع النهاية أو صار أكثر بساطة، ماذا سيبقى لنا من الفيلم؟ والإجابة ستكون في الأغلب لا شيء، مجموعة من المطاردات والنكات لا أكثر.
بالطبع لا يمكن التعامل مع الفيلم بالقطعة، ولا يجوز الحديث عن فصل أجزاء من العمل عن بعضها، لكنها محاولة لتوضيح الفارق بين عمل أجزائه تتكامل عضوياً فترتفع قيمة الفيلم ككل مقارنة بأي جزء منه مهما كانت جاذبيته، وآخر اعتماد بنائه على معادلات مكررة لدرجة الابتذال جعل أحد فصوله يتمايز بشكل واضح عما يحيط به.
على كل الأحوال، ولحسن الحظ، للكيتش ميزاته أيضاً، فهو فن شعبوي جماهيري، يُقبل عليه الجمهور لاسيما في موسم كالعيد يمكن للمشاهد فيه أن يكتفي بالانطباع والتأثر اللحظي. الأمر الذي يتضح من إقبال المشاهدين على الفيلم وصدراته لشباك التذاكر. لكن على المستوى الفني لا يمكن إلا أن نعتبر "الخلية" خطوة كبيرة للخلف في مسيرة صنّاعه. وإذا كان نجاح الفيلم يجعلنا نتوقع فيلماً ثالثاً يجمع طارق العريان بصلاح الجهيني، فلنأمل أن يستعيد الثنائي الموهوب لياقتهما الدرامية التي أثبتاها بقوة في عملهما السابق.