أشياء كثيرة يمكن قولها حول "حكايات آل مايروفيتز The Meyerowitz Stories"، فيلم المخرج الأمريكي نواه بامباك المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي السبعين، والمدجج بمجموعة من النجوم في أدوار البطولة يتصدرهم المخضرم داستن هوفمان، مع نجمي الكوميديا بين ستيلر وآدم ساندلر، في دورين قد يفجر أحدهما مفاجئة ويهدي جائزة التمثيل في المهرجان لممثل يعتبره غالبية الجمهور في عداد المهرجين مثل آدم ساندلر.
هذا هو المدخل الأول للحديث عن الفيلم. الاختيار الجيد لفريق تمثيل كل فرد منه تقريباً يظهر في صورة لم نعتد أن نشاهده عليها. وهو نجاح من المخرج الموهوب بامباك الذي قال إنه استمتع كثيراً خلال اختيار أبطال الفيلم لأنهم يلعبون أفراد أسرة واحدة، وعادة ما يكون أفراد الأسرة هم تنويعات لنفس الشخصية. بامباك يرى هوفمان وستيلر وساندلر تنويعات لشخصية واحدة وهذا رأي يستحق التفكير.
عن أزمة نتفليكس وودي آلان
مدخل آخر يمكن طرحه هو علاقة الفيلم بأزمة "كان ـ نتفليكس" التي شغلت الجميع خلال الأيام الأولى للمهرجان. صحيح أن "أوكجا" أخذ الاهتمام الأكبر بسبب عرضه في بداية المهرجان وما صاحب عرضه من اعتراض ومشكلة تقنية، لكن "حكايات آل مايروفيتز" هو الطرف الآخر للأزمة، وهو يستحق أن ننظر إلى علاقته بالأمر من زاوية أخرى.
"أوكجا" فيلم يستحيل أن نتخيل أن يقتصر عرضه بعد كان على الشاشات الصغيرة. فيلم ضخم الإنتاج فيه مستوى مبهر من المؤثرات البصرية والكائنات المخلقة رقمياً، بصورة تجعل قرار نتفلكس برفض توزيعه في الصالات خطأ لا يقبل النقاش. "حكايات آل مايروفيتز" على النقيض تماماً، فهو النموذج المثالي لدراما الشاشة الصغيرة التي عندما تبلغ درجة معينة من الجودة، يمكنها أيضاً أن تُعرض في منصة مثل مهرجان كان.
دراما كلاسيكية لا مجال فيها لأي إبهار بصري، فقط شخصيات مرسومة ببراعة وصراع يتصاعد بينهم وممثلين كبار يؤدون هذه الشخصيات. عناصر صالحة لصناعة مسلسل تلفزيوني بنفس صلاحيتها لصناعة فيلم كهذا، وهي بذلك تتفق تماماً مع أدوات الوسيط الذي صُنعت له بالأساس، مع تشريح طريف وعميق للشخصيات يبرع فيه نواه بامباك من أفلامه السابقة. هذا فيلم يمكن لنتفليكس أن تدافع عن إنتاجه للشاشات المنزلية، عكس "أوكجا" تماماً.
يمكن أيضاً مناقشة علاقة الفيلم بأعمال المخرج الكبير وودي آلان. التشبيه الذي ذكرته معظم المقالات الغربية التي تناولت الفيلم. والتشابه لدى النقاد الغربيين تأثر وتحية وشيء إيجابي، وليس على طريقة النقد العربي الذي يسفه الفكرة ويتهم صاحبها إما بالسرقة أو بعد الأصالة، وكأن كل صانع أفلام عليه أن يخترع العجلة كي يصير ناجحاً.
بامباك متأثر بوودي آلان بالتأكيد في فيلمه، على الأقل في بناء الشخصيات وعلى رأسها شخصية الأب (هوفمان)، النحات طفولي المزاج الساخر من كل شيء، والذي يتحرك ويتحدث بطريقة تشبه شخصية آلان نفسه، وهي الشخصية الرئيسية في معظم أفلامه حتى لو لعبها غيره كما يعلم جميع المتابعين.
عن أزمة آل مايروفيتز
كل ما سبق مداخل مناسبة للحديث عن الفيلم، لكن يبقى الأهم هو الحديث عن الفيلم نفسه. هذه الدراما التي تجمع بين خفة الظل والفحص العميق لعلاقة أسرية تبدو غرائبية لكنها بشكل ما موجود في نسبة لا بأس بها من البيوت حول العالم.
يقولون أنه من الصعب أن ينشأ طفل ووالده فنان شهير، فما بالك لو كان والده نحات متوسط الشهرة، شبه مغمور، فاشل في زيجاته، يؤمن بأنه عبقري مظلوم لم يعطه العالم حقه، وينحاز بين أبنائه فيحب ابنه الأصغر ماتيو (ستيلر) ويعتبره مثالاً للنجاح، بينما يعامل الأخ الأكبر داني (ساندلر) بجفاء وسخرية طوال الوقت، في بيت يتجاهل فيه الجميع وجود أخت ثالثة (إليزابيث مارفل) تصرخ وتسألهم في لحظة مواجهة: هل تعملون ما يعنيه أن تكون فتاة في هذه العائلة؟
متوالية من الإحباطات العاطفية والمهنية
الأب يعتبر نجاح ماتيو تعويضاَ لعدم تحققه المهني، فيذكره في كل مرة يقابله داني بحب ودفء يقابله بجفاء. ماتيو في المقابل يعاني من كون هذا الحب لا ينعكس في صورة اهتمام بما يفعله حقاً، هو مجرد تعويض لا انشغال حقيقي، وبالتالي يعامل والده ببرودة تحمل في داخلها عدالة شعرية. يكن إعجاباً خافتاً بداني الذي أجبرته التفرقة على أن يكره أخيه نصف الشقيق.
الأمر معقد قليلاً؟ هذا منطقي لأنه إنساني، ومشاعر البشر في الواقع معقدة. لا حب مطلق أو كراهية أكيدة لاسيما عندما نتحدث عن أفراد أسرة واحدة. هذا التعقيد يأخذه بامباك للشاشة، ويخلطه بطريقته لينتج فيلماً يبدو خفيفاً لكنه يحمل داخله أفكاراً كبيرة.
تصاعد نحو المصالحة
بين التعليقات الساخرة من شخصيات لا تتوان عن التعبير عن رأيها بصراحة جارحة، والمواقف المحرجة التي يتسبب كل منهم لذويه فيها، يتصاعد تعلقنا بالنحات اليهودي المغمور هارولد مايروفيتز وزوجته الرابعة التي لا تفيق من الخمر وأبنائه الثلاثة الذين تضعهم الظروف أمام فرصة أخيرة للاحتفاظ بوصف الأسرة: عليهم رعاية والدهم بعد وعكة صحية عنيفة يتعرض لها.
إحراج تلو الآخر، وتصرفات صبيانية من رجال على حافة الكهولة، ومشاجرة بالأيدي بين أخين في ساحة مستشفى يُعالج فيها والدهما، كلها طريق مدجج بالصعاب الطريفة كان على آل مايروفيتز عبوره نحو المصالحة. ورغم أن عنوان الفيلم يوحي بكونها "حكايات" للعائلة، فإنها في حقيقة الأمر حكاية واحدة طويلة ممتدة، حكاية بطول أعمارهم رواها لنا نواه بامباك بطريقته الخاصة مع نزعة وودي ـ آلانية.
اقرأ أيضا
رسالة كان (6): الفيلم الجزائري "طبيعة الحال".. إحباط كبير من موهبة واعدة
رسالة كان (5): سباق السعفة الذهبية.. هانيكه لانثيموس وشخصية جودار يتنافسون
رسالة كان (4): الفيلم التونسي "على كف عفريت".. نجاح ولكن
خاص- رسالة كان (3): سباق السعفة الذهبية.. فيلم سويدي يتسيد ربع الطريق
خاص - رسالة كان (2): تصريح ألمودوفار يثير الجدل.. وافتتاح مقبول لنظرة ما
خاص- رسالة كان: "أشباح اسماعيل".. افتتاح محبط لدورة احتفالية