عندما قمنا في بداية مهرجان لوكارنو السينمائي التاسع والستين (3-13 أغسطس) بعمل حصر للأفلام العربية المشاركة كان العدد هو خمسة أفلام لا غير: "الماء والخضرة والوجه الحسن" ليسري نصر الله في المسابقة الدولية، "أخضر يابس" لمحمد حماد في مسابقة صناع سينما الحاضر، "بحبال الهوا" للبنانية مانون نمّور في مسابقة فهود الغد للأفلام القصيرة، "زينب تكره الثلج" للتونسية كوثر بن هنية اختيار رسمي خارج المسابقة، و"300 ميل" للسوري عروة المقداد في قسم علامات الحياة.
كان هذا الرقم المبدئي، أو هو الرقم وفقاً لحسابات دولة الإنتاج وجنسية المخرج. أما بعد المشاركة في المهرجان ومتابعة عروضه، اكتشفنا وجود ثلاثة أفلام أوروبية الإنتاج والإخراج، لكنها ترتبط بشكل مباشر بالثقافات العربية بل يكاد يكون العدد الأكبر من شخصياتها من العرب. نكتشف معاً هذه الأفلام الثلاثة.
صيد الجثث (سويسرا)
قضية الهجرة غير الشرعية واللاجئين هي عنوان العام في أوروبا بلا منازع، كانت السمة الغالبة لمهرجان برلين مطلع العام ليتوج الإيطالي جيافرانكو روزي بالدب الذهبي عن "فوكومارا"، وقتها كان التعاطف على أشده، أما الآن وبعد تكرار الحوادث الإرهابية لم يعد الأمر بنفس الصورة الوردية.
المخرج السويسري ميشيل بينيتا يتنافس في مسابقة صناع سينما الحاضر بفيلم عنوانه "صيد الجثث Fishing Bodies"، تم تصويره كالعادة في السواحل الإيطالية، بصورة تجعله تلقائياً نسخة أقل أصالة من عمل روزي، لكن ما يشغلنا هنا هو أحد الخطوط الدرامية الثلاثة للعمل وبطلها فلاح مصري يدعي أحمد.
بينما نرى في الخطين الآخرين رجال الإنقاذ والصيادين الذين يخرجون في شباكهم بقايا الجثث جوار الأسماك، فإن أحمد الذي لا نعرف الكثير عن تاريخه يبدو شخصية أسطورية: قروي يتحدث بلهجة ثقيلة يعيش في قارب قديم على ساحل إيطالي، ويكسب رزقه بالقفز في حطام المراكب الغارقة ليبحث عن مبلغ مالي أو شيء قيّم نسيه بنو وطنه أثناء محاولتهم الفرار من الموت.
من تترات النهاية نقلت أسماء ثلاثة مصريين يظهرون في الفيلم: أحمد قديم وكريم عرفات والشرقاوي، أولهم هو البطل بالطبع الذي يمسك الفيلم بيأسه وشعوره بالعيش على البرزخ بين الحياة والموت حرفياً، فمن الواضح أنه مهاجر غير شرعي هو الآخر لذا فهو حبيس هذا المكان والعمل التعيس، يحلم بالعودة ولا يتوقف على الاتصال بأهله لكن من الواضح أنه حلم غير قابل للتحقيق.
خطأ واحد يقع فيه المخرج يفقد الخط شاعريته بالنسبة للمشاهد العربي هو رغبه المخرج في دفع الأمر ليبدو وكأن هذا الشاب الذي لا يعرف المشاهد الغربي جنسيته مواطن سوري تماشياً مع الموضة، وذلك بتركيب رسالة صوتية عند محاولته الاتصال بأهله تقول ما معناه "سوريا تل.. الخط غير متاح". وبالرغم من أننا نسمع أحمد ونسمع أهله لاحقاً ولا مجال للشك في كونه مصرياً، إلا أن المخرج يفسد باستشراقه الموّجه أفضل ما لديه في الفيلم.
التحدي (إيطاليا)
خرية مبطنة يحملها الفيلم الإيطالي "التحدي The Challange" للمخرج يوري أنكاراني من نمط الحياة في الخليج العربي وتحديداً في دولة قطر، التي يقوم المخرج برصد الهوايات الغريبة وباهظة التكلفة التي يمارسها مواطنوها. الفيلم يتنقل بين مربيّ الصقور الذين يشترون الصقر بآلاف الدولارات من أجل الاشتراك به في مسابقات الصيد، محبي السيارات وسافاري الرمال الذين يغامرون بسياراتهم لدرجة أن تنقلب بهم أحياناً، ملاك السيارات الفاخرة والدراجات النارية من أفخر الأنواع، وحتى من يتعامل مع الفهد المتوحش باعتباره حيواناً أليفاً يربيه ويصطحبه معه أثناء التنزه بسيارته ماركة لامبورجيني!
الفيلم لا يحمل أي تعليق صوتي بخلاف صوت اللقطات الحية التي نزعم أنها ترى الخليج العربي من زاوية لم تصور من قبل بمثل هذا الوضوح، زاوية البذخ المفرط في الإنفاق على أمور تبدو أقرب للنزوة أو للتحدي في امتلاك الأكثر والأغلى كما يشير عنوان الفيلم. أمر لا يشير للحقيقة كاملة بالطبع ويكرس لصورة نمطية عن المواطن الخليجي هناك بالطبع ما يخالفها على أرض الواقع، لكن تبقى لقطات "التحدي" حقيقية وصارخة لدرجة الإيلام أحياناً، لاسيما وأن أحد أبطال الفيلم جاء ليحضر مهرجان لوكارنو وشاهد الفيلم وتحدث بعده بسعادة عن ظهوره فيه، وهو رد فعل طبيعي في ظل أن الفيلم لم يقل كلمة ليدين هذه التصرفات بشكل مباشر، لكنه يقول كل شيء بشكل مبطن سيفهمه الجميع باستثناء من تمثل هذه الهوايات نمط حياتهم الطبيعي.
بيزناس كالعادة (هولندا)
لفيلم الوحيد المتعلق بالثقافة العربية ضمن السبعة أفلام المشاركة في أسبوع النقاد هو فيلم "بيزناس كالعادة Bezness as Usual" للمخرج الهولندي أليكس بيتسترا، وهو الاسم الذي اختاره المخرج لنفسه بدلاً من اسمه بالميلاد كريم ألكسندر بن حسن تبعاً لوالده التونسي، الذي كان أحد أبناء أول جيل من مدينة سوسة يبتدع وظيفة "البيزناس"، وهم الشباب الذي يتعرف على السائحين ويساعدهم ويتقرب منهم لكسب المال، والذي يتطور عمله بطبيعة الحال ليتحول لخدمات جنسية وأحياناً إلى زواج مثل والد المخرج الذي تزوج من والدته الهولندية أنجب منها كريم الذي صار أليكس، ثم تركها ليتزوج من أخرى سويسرية ولدت له أخت المخرج، قبل أن يعود ليستقر في تونس ويطلق لحيته ويتحوّل مسلماً ملتزماً يريد جمع شمل ابناءه.
الفيلم يمتلك مادة خام ممتازة لصناعة فيلم تسجيلي مؤثر: هوية المخرج المنقسمة وشخصية والده المليئة بالتناقضات والتصرفات الغريبة وموقف الأم المعادي له، بالإضافة إلى عالم البيزناس وعلاقاته المثيرة للعجب. مشكلة الفيلم هي أن المخرج بدلاً من أن يتعامل مع الفيلم باعتباره وسيلة للاكتشاف أو للتطهر، قرر استخدامه ليكون أداة لتصفية الحساب مع الأب.
صحيح أن الأب ليس شخصية مثالية بل هو في الواقع يستحق الكثير من السخط على كل ما فعله لأبنائه، لكن الفيلم لا يحاول أن يتفهم موقف الرجل، بل يسخر منه على طول الخط وخاصة في الجزء الأخير الذي يتضح منه ـ كما وصل لكاتب هذه السطور ـ قدر الاحتقار الذي يكنه أليكس بيتسترا ليس فقط لوالده، بل لتونس وثقافتها وأهلها بشكل عام، باعتبار أن أفضل من فيهم مغرض يرى الأوروبي مجرد مصدر محتمل للكسب المادي.
شخصياً لا أرى من المجدي أن يصنع مخرج فيلماً عن شخصية ومكان يكرههم لهذا الحد، لأن هذا بالتأكيد ليس فيلماً تصالحياً، بل هو تصفية حساب واضحة حتى لو حملت بعض الألم النابع من كونها قصة حقيقية تبدو أحداثها أقرب للكوميديا منها للواقع، وحتى لو قابل الجمهور السويسري ـ المشحون حالياً بطبيعة الحال ضد العرب ـ باحتفاء كبير.
اقرأ أيضا
خاص في الفن.. رسالة لوكارنو السينمائي (1).. المهرجان ينطلق بمشاركة مصرية مميزة اليوم
رسالة لوكارنو السينمائي (2)- ثلاثة مهرجانات في واحد.. وافتتاح مبهر للمسابقة