أوقن تمامًا بأن عنوان المقال كافٍ لأن تنصب مئات اللعنات على رأس الكاتب، الحاقد عدو النجاح كما سيراه جمهور الرواية والفيلم، الذين تحولوا - كما هي العادة في هذا النوع من الأعمال - إلى ألتراس يرفضون التعامل مع عملهم المفضل بأي شكل نقدي منضبط.
اكتشفي شخصيتك
لعبة في الفن- من أنتِ بين الشخصيات النسائية في "هيبتا- المحاضرة الأخيرة"
لكن لأن دور الناقد هو تفكيك الأفلام وتحليلها، ومحاولة تقييم أسباب نجاح وفشل المهم منها، فقد كان من المستحيل أن نتجاهل فيلمًا يجمع كل ليلة عرض ما يزيد عن المليون جنيه، فيلم تحول بين عشية وضحاها إلى ظاهرة توجّب علينا التعرض لها.
"هيبتا" هو فيلم المخرج هادي الباجوري، المأخوذ عن رواية بنفس العنوان للكاتب محمد صادق، حوّلها للشاشة وائل حمدي، وأنتجها كل من هاني أسامة وهادي الباجوري ومحمد حفظي وأمجد صبري، مستعينين بطاقم تمثيل من نجوم الصف الأول في جميع الأدوار الرئيسية والداعمة، في رهان أثبت النجاح الذي يعيشه الفيلم حاليًا توفيقه.
وإذا كانت العلاقة بين الأدب والسينما أزلية متشابكة بها الكثير من الشد والجذب والنجاح والفشل، فإن الفيلم ينجح في أن يكون ـ على عيوبه ـ أعلى قيمة على مستوى الوسيط السينمائي من قيمة الرواية بالنسبة للوسيط الأدبي، وهذا قدر من النجاح نحاول تفكيكه في هذا المقال.
عن فنون المراهقين
عادلة تقييم أي عمل فني مهما اختلف نوعه تعتمد على تلك العلاقة الدائمة بين الشكل والمضمون، الشكل هو الحرفة والبناء، إتقان الفنان أولًا استخدام أدوات الفن الذي يمارسه، واستخدام هذه الأدوات ثانيًا في صياغة بناء فني خلّاق وملائم لعمله، أما المضمون فهو محتوى هذا العمل أو طرحه، رؤيته أو رسالته أو أي كلمة أخرى نصف بها المحتوى الفكري للعمل الفني، أي باختصار تقييم أي عمل فني يعتمد على الإجابة عن سؤالي: ما الذي يريد أن يعبر عنه الفنان؟ وكيف يقوم بالتعبير عنه؟
في روايته يحاول محمد صادق التعبير عن الحب من وجهة نظر مراهقة، ووصف المراهقة هنا ليس ذمًّا لكنه توضيح للفارق بين رؤية الإنسان للأشياء في فترة الصبا، ورؤيته لنفس المعاني مع تقدمه في العمر وتسلحه بالمزيد من التجارب الحياتية، والإنسان في سن المراهقة -حسب معظم الدراسات النفسية- تصارعه قوى البلوغ والانجذاب الجنسي والرغبة في التحقق والتميز من جهة، وعدم اكتمال نمو اتزانه النفسي فيما يتعلق بأمور مثل المسؤولية وموضوعية معايير التقييم، لتكون النتيجة هي مشاعر سريعة الاشتعال والخفوت، ترتبط عادة بأفكار ذات طابع خيالي أشبه بالحكايات منها للواقع.
الحب من النظرة الأولى، الشاب الذي يقابل فتاة جريئة تجعلها يحضنها دون سبب، المرأة التي تقابل شاب يأسرها في ليلة ويخرجها من خطبة مملة، كلها أمور يدرك جيدًا كل من خبر العلاقات حقًا بمعناها العاطفي والاجتماعي والجسدي أنها مجرد تصورات حالمة عن واقع بالغ التعقد، واقع تقوم فيه العلاقات على عشرات التفاصيل والخبرات، وتستمر أو تنقطع بناء على تفاصيل أخرى، لكن هذا الفهم السطحي للحب يظل فعالًا في حياة المراهقين، وهو ما أفرز بطبيعة الحال آداب وفنون المراهقين.
روايات عبير وزهور ومختلف تنويعاتها وصولًا لهيبتا، معظم الأفلام الرومانسية بما فيها عناوين فائقة الشهرة والنجاح مثل "Titanic" و"Twilight" وكل روايات نيكولاس سباركس والأفلام المأخوذة عنها، كلها أمثلة لآداب وفنون المراهقين، التي لا يشترط بالطبع أن يكون أبطالها مراهقين، بل هم في الأغلب بالغين، لكنهم يخوضون مغامرات وعلاقات عاطفية مروية من وجهة النظر الملائمة لفهم المراهقين للحب، وبالتالي تكون شعبية هذه الأعمال آتية بالأساس من جمهور الشريحة العمرية المذكورة.
لماذا رواية ساذجة؟
حظ هنا أمرين: الأول أن ما سبق مجرد تصنيف لا يعني الجودة أو الردائة، فصحيح أن أعمال المراهقين تعتبر بشكل عام فن منخفض القيمة low art، لكنها تظل محتوية على أعمال جيدة الصنع وأخرى سيئة، أما الأمر الثاني فهو أن صناع الفيلم حاولوا قدر الإمكان الاحتفاظ بمضمون الرواية وتفسيرها للحب، ربما كنوع من الالتزام الأدبي أو لرغبة في نيل رضا جمهور الرواية الضخم، لكن المحصلة هي أن الإجابة عن سؤال "ماذا؟" واحدة في العملين، ويبقى الفارق في سؤال "كيف؟" الذي جعلنا نصف الرواية بالساذجة والفيلم بالمقبول.
"كيف؟" كما قلنا هي الشكل، الحرفة والبناء، والأداة في حالة الرواية هي اللغة والسرد، وكلاهما يعاني من ضعف واضح في الرواية. اللغة جوفاء آتية من عالم التواصل الاجتماعي (ومستهدفة إياه)، لا تحمل الكلمة فيها أكثر من معناها المجرد، لتسرد بشكل تقريري الحدث الذي اتفقنا على كونه سطحيًا مناسبًا للمراهقين، مدعومًا بمجموعة من العبارات المتحذلقة التي تتظاهر بفهم وتحليل أمر يدرك كل ذي عقل أنه عصيّ على التحليل حتى لمن يفوقون الكاتب خبرة وحكمة وموهبة.
البناء يعاني من صورة أخرى لأزمات السرد الساذج: السيمترية Symmetry، الخطوط الدرامية الأربعة تسير بتوازٍ صارم، تنتقل من خط لآخر وفق ترتيب لا يتغير حتى لو كانت إحدى الحكايات في حاجة لاستطراد أو تحليل أوسع، ليساهم بشكل البناء في ترسيخ سطحية المضمون. فإذا كان من السذاجة بمكان أن يعتقد أحدهم قدرته على وضع القواعد الجامعة المانعة الصالحة لوصف أي علاقة حب في العالم، فالطين يزداد بلّة عندما تتحول هذه القواعد إلى بناء جامد يفتقد حرية الحب وحيويته، ويأسر الأدب في فخ القصدية، والقصدية خصم دائم للإبداع، إلا لدى مبدعين استثنائيين الكاتب بالتأكيد ليس أحدهم.
مشكلة الرواية إذن هي ضعفها على كل الأصعدة شكلًا ومضمونًا، استخدام لغة ركيكة وسرد بدائي من أجل التعبير عن فهم ينقصه النضوج لكنه مُغلف بإدعاء فلسفة حياتية بل وقدرة على تصنيف الجميع وعلاقاتهم.
لماذا الفيلم مقبول؟
المخرج هادي الباجوري والمؤلف وائل حمدي احتفظا كما أوضحنا بمضمون الرواية، وهو خيار لا يمكن أن نصفه بالخطأ لأن الهدف هو جماهيرية لن تتهاون مع تغيير عملها المفضل، وإلا كان بالأحرى أن يتم اختيار رواية أخرى أكثر جودة. صحيح أن دور صانع الفيلم عند التعامل مع الأدب هو "افتراس الرواية وهضمها وتمثيلها غذائيًا لتنتج عملًا جديدًا هو الفيلم" كما قال المخرج الكبير داود عبد السيد، لكن هذا ينطبق على مخرج ومؤلف بقيمة عبد السيد ونص مثل "مالك الحزين"، لكن في حالتنا هذه سيكون من التكلف محاكمة التجربة بنفس المعايير، البعيدة بالأساس عن أهداف صنع الفيلم.
الفارق يبقى إذن في الشكل، هو عامل الاختلاف الرئيسي الذي جعلنا نمنح الفيلم درجة أعلى في التقييم. والشكل في السينما ليس مجردًا مثل الأدب، فبدلًا من كاتب وأوراق وأداة وحيدة هي اللغة، لدى المخرج فريق عمل وممثلين محبوبين يراهم المشاهد على الشاشة من لحم ودم حتى لو أدوا شخصيات مسطحة، لديه صورة وتكوين وموسيقى، وشكل تعرض قد يكون أكثر شعبية من القراءة، لكنه ملائم جدًا في حال ما كان العمل بالأساس عملًا شعبيًا يهدف للتأثير في المراهقين ولا يصمد في وجه أي تحليل جاد.
طالع مراجعات أخرى لـ أحمد شوقي
"حرام الجسد".. دراما جنسية بلا بوصلة
٥ أفلام "لم تنته بعد" يجب أن تشاهدها في ٢٠١٦
"كدبة كل يوم".. نجاح متكرر وعيب مزمن
"قدرات غير عادية".. خاتمة لابد منها
"نوارة".. أول فيلم مصري عن الثورة لا صورتها الذهنية
"قبل زحمة الصيف".. تجربة نادرة في سينما محمد خان
على مستوى صنعته أدى الباجوي المطلوب بنجاح: صاغ عمل ملائم بصريًا لمخاطبة المراهقين، بصورة تنتمي لجماليات الإعلان البرّاقة التي تميز سينما المخرج عمومًا، وممثلين محبوبين معظمهم ظهر في حالة جيدة على الشاشة (أنوّه بشكل خاص بالقدير أحمد بدير، الممثل الذي قد تختلف مع الكثير من تصريحاته وآراءه في الحياة لكن من المستحيل أن تنفي كونه ممثلًا من طراز رفيع قادر دائمًا على النجاح مهما كانت مساحة الدور).
قد يعيب خيارات الباجوري توتر نبرة المونتاج الذي يتغير إيقاعه من طول مفرط وإسهاب في سرد المراحل الثلاثة الأولى من الحب وفقًا لتصنيف الرواية، إلى تسرع لدرجة عدم الإشباع في المراحل الأخيرة، لكنها إجمالًا عيوب يمكن تجاوزها، بالقياس مجددًا نوع الفيلم وجمهوره المستهدف.
الكاتب وائل حمدي كذلك تعامل مع النص بنفس روحه، محاولًا منح نفسه بعض الحرية في عدم التقيّد بسيمترية الانتقال بين الخطوط، أعاد وضع خط الطفل في الحجم الملائم لبساطته، وعدل النهاية بما يجعلها أكثر منطقية وقابلية للتصديق، لكنه في سياق حفاظه على روح النص وقع في مأزق هو القيمة الدرامية المرتفعة لكل مشاهد الفيلم، بمعنى أنه فيلم مكون من سلسلة من المشاهد الملحمية master scenes التي يفترض أن يحتوي أي فيلم على بعضها في أهم لحظاته فقط، وقد يبدو الأمر لمن لا يعرف ميزة وليس عيبًا، فما المشكلة أن تكون كل مشاهد الفيلم مؤثرة؟ لكن الحقيقة أن السينما تحتاج للحظات من الارتكاز، ثوان للهدوء والتقاط الأنفاس وهضم شكل العلاقات الحالي وحتى محاولة فهم العبارات التي يقولها المحاضر (ماجد الكدواني) أو تُكتب على الشاشة.
كل هذا لا يحدث بالطبع، ليصير الفيلم عبارة عن موجة انقباضية مدتها ساعتين، لا تنبسط أو تعطي شعورًا بالراحة الدرامية relief إلا في مشهد النهاية، وهو أمر قد يكون جيد فنيًا في سياق مختلف لكنه هنا يصير أحد العيوب التي لم يتمكن حمدي من تلافيها، لاسيما مع قدر التنظير والتفلسف الذي توجّب أن يحافظ عليه إرضاءً لجمهور الرواية.
وفي النهاية
كل هذه العيوب بعد عنوان يشير لأن الفيلم أفضل من الرواية؟ لا تنس أنني استخدمت وصف "مقبول" لا أكثر، لأنه بالنسبة للأدب "هيبتا" محمد صادق رواية ساذجة شكلًا ومضمونًا، لا يتردد الناقد في نعتها بالرداءة حتى بالنسبة للروايات الشعبية وأدب المراهقين، أما بالنسبة للسينما فيمكن القول بأن "هيبتا" هادي الباجوري هو فيلم مراهقين جيد الصنع، يستخدم أدوات الوسيط بشكل معقول لصياغة عمل صلاحيته للمشاهدة تفوق بكثير صلاحية الرواية للقراءة.
بالطبع الفيلم لا يحمل أي جديد، ولا يحتمل مبالغات الجودة التي يبدو أننا سنظل فترة نقرأها يوميًا، لكنه في نفس الوقت يظل مثالًا لفيلم المراهقين الجيد، يمكن أن نعتبره مثلًا "A Walk to Remember" أو "The Notebook" مصري، فهو مثلهما فن منخفض القيمة low art، لكنه جيد تقنيًا وملائم لجمهوره المستهدف، ناهيك بالطبع عن حاجة الصناعة في مصر لعمل يدر إيرادات ضخمة دون أن يكون فيلمًا كوميديًا أو خلطة من خلطات الأعياد.