"المركب اللي مفهاش غلابة بتغرق"، الجملة جاءت على لسان نسر المجذوب (صبري فواز) خلال أحداث فيلم "الليلة الكبيرة" والذي عرض مساء أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، وهو فيلم جديد يقدمه لنا الثنائي المؤلف أحمد عبدالله والمخرج سامح عبدالعزيز.
الفيلم يقوم بمحاولة لتشريح المجتمع، فيلم جديد لا يطرح إجابات حاسمة حول القضايا التي تبناها ولكنه يعرضها وفق رؤية أصحابها، فيلم أخر يتحدث عن الغلابة.
خطوط متعددة وأسئلة بلا إجابات
في فيلمي "كبارية" و"الفرح" قدم لنا أحمد عبدالله وسامح عبدالعزيز هذا النوع من السينما، سينما البطولة الجماعية والعلاقات المتعددة والخطوط الدرامية العديدة والتي تدور في حيز زمني ضيق لا يتجاوز اليوم الواحد وفي مكان واحد، ولكن هذه المرة كانت التجربة أكثر صعوبة؛ قليلا ما يمكن للخيوط أن تتقاطع فكل خط يسير في إتجاه داخل حيز مكاني واحد لذلك كان أحمد عبدالله موفقا للغاية في كتابة السيناريو، فاستخدم المشاهد القصيرة المكثفة، مشاهد جاء بعضها أقرب للومضات منها للمشاهد إضافة إلى الاعتماد بشكل أساسي على التزامن لاستعراض أكبر قدر ممكن من الشخصيات وتطوراتها طوال أحداث الفيلم، ولكنه لم يدرك أنه بهذه التقنية فهو يزيد من صعوبة العبء الواقع على المخرج وعلى مدير التصوير جلال الزكي، لنقل هذه المشاهد من المكتوب للمرئي.
الفيلم الذي يفتح العديد من القضايا - ربما كان كشفها الآن قد يضر بالفيلم والمنتظر عرضه جماهيريا قريبا- جاءت القضية التي كان من المفترض أن تكون الرئيسية باهتة خلف قضايا وتساؤلات أخرى أكثر إنسانية من المراد تقديمها بشكل مباشر في الفيلم وربما كان هذا السبب للجوء لنهاية غير معتادة على الثنائي أحمد عبدالله وسامح عبدالعزيز، فالخطوط الدرامية لم تنفجر جميعها في النهاية كما حدث في "الفرح" أو "كبارية" أو ربما يمكننا القول أن الانفجار هذه المرة جاء مختلفا للغاية عن التجربتين السابقتين.
ولكن رغم الحرفية الشديدة في كتابة السيناريو خصوصا في التنقل بين خط وأخر طوال الأحداث؛ كان الحوار يعاني من المباشرة والتي وصلت في بعض الجمل الحوارية إلى حد الإفصاح المخل، وربما تركزت تلك الجمل في الخط الدرامي لشمس (أيتن عامر) و منصور (وائل نور) والخط الخاص بعلاء مرسي ومحمود الجندي حيث محاولة خلق مناظرة أو استعراض للأراء بين السلفية والصوفية حول فكرة الأضرحة والتبرك بها.
شاهد- الإعلان التشويقي لفيلم "الليلة الكبيرة" (٢٠١٥)
دراما الضوء والقفز بالكاميرا
وعلى جانب أخر كان جلال الزكي موفقا في إضاءته للصورة وأيضا التعامل الدرامي بالضوء مع الشخصيات في الجانب المصور في داخل الاستديوهات بينما جاء إختلاف الألوان بين هذا الجانب والجانب التسجيلي شاذا على تناغم الصورة مما خلق فجوة بين الصورتين، وربما كانت أكثر المشاهد التي تجلت فيها قدرة الزكي على صنع ما يمكن تسميته بالدراما الضوئية في مشاهد الضريح ومشاهد التزامن والمشهد الختامي لمديحة (زينة) مع زوجها إسماعيل (أحمد وفيق).
بينما سقط سامح عبدالعزيز في حالة من الحيرة في التعامل مع المشاهد التنقل بين الخطوط الدرامية، ففي مشاهد كان يتجول بالكاميرا من خط إلى أخر وهو في رأيي الشخصي أفضل طريقة أوجدها سامح عبدالعزيز للتعامل مع تلك المشاهد ولكن كانت تلك المشاهد قليلة في أحداث الفيلم بل وكان أغلبها في الثلث الأول، فعرض الشخصيات واستعراض المكان والعلاقات بينما جاء ثلثي الفيلم يتنقل من خلال قفزات بالكاميرا بين خط وأخر لتظهر الصورة النهاية كأننا أمام مجموعة من الاسكتشات الدرامية والمقدمة في سياق واحد في شكل أقرب لأسلوب مسرحي كأن يضيء على بؤرة ثم يتركها إلى أخرى وهكذا حتى يستعرض كل الخطوط بشكل متوازى او هكذا حاول.
وربما لم يوفق المخرج في إختيار الإسلوب والتقنية المناسبة للتعامل مع الحالة العامة للفيلم، كما لو يوفق أحمد عبدالله في إدارة حوار فيلمه رغم أن اعماله السابقة تشيد بقدرته على كتابة حوار جيد للغاية بعيدا عن المباشرة أو السطحية، ولكن على جانب أخر كان هناك الكثير من العلامات المضيئة فبخلاف جلال الزكي مدير التصوير والموسيقى التصويرية لخالد داغر والديكور لعماد الخضري، كان هناك فريق كامل من الممثلين قدموا أدوارهم بشكل جيد.
المجذوب يعرف أكثر.. بين نسر ووهدان
وكانت المفاجأة بالنسبة لي هي أداء الفنان أحمد رزق في شخصية وهدان، وإن كان في رأيي واحدا من أقوى الخطوط الدرامية في الفيلم بشكل عام، أحمد رزق قدم شخصية جديدة عليه للغاية فهو مجذوب من نوع مختلف ومغاير عن المتعارف عليه في السينما فهو ليس كما يطلق عليه العامة "بتاع ربنا" ولكنه يعاني من عقدة تكونت في الطفولة فأثرت عليه، فكأنما كان يعيد بشكل لا إرادي تمثيل ما مر به وهدان صغيرا على الشاشة لتصبح علاقته بأمه (صفية العمري) أكثر العلاقات إرباكا في الفيلم بل وزاد من هذا الإرتباك المفيد لدراما هذا الخط ظهور شخصية وفية (نسرين أمين)، أما صفية العمري والتي قدمت دور (أم وهدان) بشكل مميز للغاية ليكمل هذا الثلاثي تألق هذا الخط الدرامي.
وأيضا الفنانة الشابة ياسمين رحمي والتي تشير تجربتها السينمائية الثانية، أننا أمام ممثلة سوف يكون لها باع كبير في المستقبل القريب إذا اكتسبت الخبرة وطورت أدواتها، بينما جاء ظهور باقي الفنانين بين الجيد والمتوسط والعادي أو المعتاد من فنانين أصحاب المواهب الكبيرة.
وجرت العادة في الأفلام ذات الخطوط المتعددة أن يكون هناك رابط بينها وربما هذا كان متحققا بالربط المكان حيث تدور كل الأحداث في مكان واحد ولكن كان هناك رابط أخر، رابط لا يقل أهمية عن المكان نفسه وربما هو المكان في صورة حية هذا الرابط كان شخصية (نسر) المجذوب و التي أداها صبري فواز ببراعة يحسد عليها، فنسر المجذوب يعرف أكثر دائما، يتحرك بحرية في المكان يتعامل مع كل الأبطال ينصح ويحذر ولكن دائما دون توضيح؛ ضمير متكلم للفيلم، أو خشب الضريح إذا تحدث، وكان أفضل ما في الشخصية تعامل صبري فواز معها فهو لم يقع في كلاشيهات المجذوبين حيث الشعر الكثيف و المبخرة وغيرها من الأدوات التي تخدم الشكل الذي أنطبع لدينا عن المجذوب.
صبري فواز قدم شخصية المجذوب بشكل مختلف، خصوصا ردود فعله ونظراته التي كان يلقيها بطلاقة وحرص في الوقت نفسه، وكل ما سبق وما قدمه فواز طيلة مشواره الفني، يؤكد مرة أخرى على موهبته الكبيرة و التي ظلت لسنوات وسنوات حبيسة أدوار أصغر منها بمراحل استطاع من خلالها أن يخلق له طاقة ومنفذة.
صبري مازال يرتقي سلم التألق بخطوات ثابتة ومضيئة، وظهوره أمامنا في السنوات الأخيرة يجعلنا نتسأل عقب كل دور يقدمه: أين كان هذا الفنان طيلة تلك السنوات؟