الممنوع مرغوب دائما، قاعدة أثبتت صحتها أكثر من مرة، وفي تاريخ السينما المصرية العديد من الأفلام التي صاحبتها جمله " ممنوع من العرض"، ومهما اختلفت الأسباب كان قرار المنع من العرض موجودا، فهناك الممنوع من العرض بسبب عدد من المشاهد الجريئة، أو أن الفيلم يمس معتقدات دينية، أو يصطدم بالسلطة بشكل أو بآخر، ولكن هل كل الأفلام الممنوعة من العرض أفلام ذات قيمة وجودة فنية عالية؟
بالفيديو- أشهر الأفلام الممنوعة من العرض في تاريخ السينما المصرية
"المذنبون".. عندما ذبحت السلطة سعيد مرزوق
ربما كان الدافع وراء كتابة هذا المقال أنه منذ أيام قلائل مرت ذكرى ميلاد مخرج مُنع له فيلمان من العرض، بل وتعرّض أحدهما لظلم كبير وتشوية متعمّد، وهو المخرج سعيد مرزوق صاحب فيلم "المذنبون"، والذي أشيع حوله أنه تم منعه لأسباب أخلاقية بسبب جرأة مشاهده، ولكن في الحقيقة فإن قرار منع الفيلم من العرض كان بسبب جرأة الفيلم في تناول فساد استشرى وطغى في المجتمع فسادا، بدأته السياسة ليفسد المجتمع بأثره.
فسعيد مرزوق في فيلم "المذنبون" لم يقدم فيلم "إباحي"، وإنما استغل فقط الجنس كوسيلة لتعرية نظام ومجتمع أوشك على التهاوي، عن طريق سيدة من صاحبات العلاقات المتعددة، والتي يتم اكتشاف جثتها في غرفة نومها، لتبدأ التحقيقات التي تكشف عن كم مرعب من قضايا الفساد.
الفيلم والذي اعتبره ويعتبره الكثيرون واحد من التحف السينمائية تعرّض لحملة تشوية متعمدة وغير متعمدة، فبدلا من أن يعرض سبب المنع الحقيقي، صاحبت مقاطع من الفيلم المنتشرة على You Tube والمنتديات جُمل مثل "سهير رمزي ساخنة في المذنبون"، أو "الفيلم المثير المذنبون".. إلخ من تلك العبارات التي تجذب الباحثين وراء كتف عاري أو قُبلة، دون النظر والاهتمام وراء مضمون الفيلم، وموقع تلك القُبلة فيه وسببها.
ولكن هل يمكن أن نطبق حالة فيلم "المذنبون" على باقي الأفلام الممنوعة من العرض؟ الإجابة القاطعة هي "لا"، فمثلا فيلم "حمام الملاطيلي" والذي مُنع من العرض في القنوات، وظلت أجيال تتداوله على شرائط الفيديو بسرية وكتمان حتى اختراع الإنترنت، وبعدها سار متاحا للجميع، يعد من وجهة نظري الشخصية أضعف أفلام المخرج صلاح أبو سيف وأكثرها مباشرة ووضوح وفقر فني، ولكن مرة أخرى لم يكن هناك سببا حقيقيا للمنع، فمشاهده وإن كانت جريئة إلا أنها في سياق الفيلم ولا تخرج عنه، ولم تصل إلى حد الفجاجة السينمائية، وربما جاء المنع لمحاولة أبو سيف مناقشة ما آل إليه المجتمع من تحلل عقب هزيمة يونيو 1967.
"العصفور" و"زائر الفجر".. ضحايا الإجهاض
الغريب أن عدد كبير من الأفلام التي تم منعها من العرض، أو تمت محاولة ذلك، كانت أفلاما ذات قيمه فنية كبيرة؛ فمثلا تأجيل عرض فيلم "العصفور" للمخرج الراحل يوسف شاهين 4 سنوات وما يزيد ليُعرض في 1974 عقب انتصار أكتوبر 1973 لأنه فقط كان يرمز إلى عدد من شخصيات العصر الناصري، ويتناول فكرة الهزيمة التي هزمناها لأنفسنا قبل أن يهزمنا العدو.
أو فيلم "زائر الفجر" للمخرج ممدوح شكري، والذي مُنع من العرض لأنه كان به إسقاط كبير على السياسات الناصرية أو هكذا قيل، ومات مخرجه دون أن يشاهده في السينما، بينما عُرض في 1975 بعد إنتاجه بسنوات، أو فيلم "ما وراء الشمس"، والذي وإن تم اعتباره أقل فنيا مقارنة بأفلام أخرى قدمها مخرجه محمد راضي، إلا أنه مُنع هو الآخر لأنه تطاول على مقدسات سياسية تخص عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وفيلم "الكرنك" للمخرج علي بدرخان، والذي أصرت الرقابة على تصوير مشهد بيان السجن الحربي في نهايته للتدليل على أن ما حدث لن يعود، وأن عصرا جديدا بدأ لن تتكرر فيه أخطاء الماضي، وهي نفس الأزمة التي عانى منها فيلم "احنا بتوع الأتوبيس"، الذي مُنع عرضه لسنوات بسبب تجرأه على النظام الناصري، و"البريء" أيضا تعرّض لعملية إجهاض فنية كبيرة، والتي وصلت إلى حذف نهايته الأصلية، والاكتفاء بمشهد عقيم مبتسر حتى تفرج السلطات عن الفيلم، ويُمنع الفيلم من العرض التلفزيوني لسنوات طوال.
الغريب أن أغلب الأفلام التي مُنعت من العرض لأسباب سياسية كانت أفلاما ذات قيمة فنية جيدة وهامة، بينما قليلا ما تجد في مصر تحديدا فيلم يُمنع لجرأة مشاهده، فهناك حلول أخرى غير المنع أن تقلل تلك المشاهد قليلا أو يُحذف بعضها أو أجزاء منها، أو أن توضع عبارة "للكبار فقط" تلك التي تجعل أغلب جمهور الفيلم من المراهقين.
وربما كان أخطر ما في المنع من وجهة نظري هو فكرة الإجهاض الفني التي تقوم بها الأنظمة لعدد من المخرجين، فلنحاول أن تخيّل مصير فيلم المخرج حسين كمال الشهير "شيء من الخوف" إذا تم منعه بالفعل كما كان مخطط، أو كان عبدالناصر نفسه أمر بمنعه عندما شاهده لأكثر من مرة، لربما اختلفت تجربة حسين كمال السينمائية، فلن يكون ذلك المخرج الذي يقدم صرخات جريئة في أفلامه، وربما آثر الاحتفاظ بمورد رزقه، فقدم أفلاما جيدة من الناحية الفنية بعيدا عن أي عمق فكري أو سياسي، واكتفي بأفلام اجتماعية بحتة.
في حين أن دعاة الفضيلة والأخلاق أغمضوا أعينهم في فترة السبعينيات، لتفلت في السينما أكبر عدد ممكن من المشاهد الجريئة وفقا لمفهومهم ونظرتهم للأشياء، فأصبحت سُمعة فترة السبعينيات السينمائية عند شريحة كبيرة من المشاهدين أنها "سينما البيكيني والميكرو جيب والمشاهد المثيرة الساخنة"، في حين غضوا الطرف عن تجارب عديدة في تلك الفترة ذات قيمة فنية، في حالة من أكبر وأبشع عمليات الإجهاض الفني الممنهجة التي مورست بشكل متعمد وغير متعمد لفترة كان من المنتظر أن تكون محورية وفاصلة في تاريخ السينما المصرية، لتتأجل لعقد كامل وتبدأ في الثمانينيات، وبدلا من الصعود مباشرة اصطدمت بمعارك كثيرة تتمحور حول النجاح الجماهيري والإيرادات والقيمة الفنية.