منذ بداية السينما الناطقة في مصر، كان للغناء والمطربين مكانتهم في جنبات وأشرطة الفن السابع، ففي يوم ١٤ أبريل ١٩٣٢، عُرض للمرة الأولى فيلم "أنشودة الفؤاد"، وهو الفيلم المصري الناطق الثاني، وأول فيلم غنائي مصري، وقامت ببطولته المطربة ذائعة الصيت وقتها والملقبة بأميرة الطرب نادرة، ومن يومها وأصبح للمطربين صولات وجولات في عالم السينما، فنادرا جدا أن تجد مطربا لم يشارك في فيلم سينمائي.
وهناك من أضافوا للسينما، بل جعلونا كثيرا ننسى أنهم مطربين من الأساس مثل شادية، وهناك من أضافت السينما إلى نجوميته في عالم الطرب، مثل عبد الحليم حافظ في بداياته، ومحرم فؤاد، وماهر العطار وغيرهم، ولكننا هنا نرصد تجربة بعينها دامت لأربعة أفلام سينمائية فقط، قبل أن يقرر نجمنا أن ينهيها ويركز مجهوده الفني في الغناء، فماذا أضاف عمرو دياب للسينما وماذا أضافت له في المقابل؟
ظهور أول باهت
بداية عمرو دياب في السينما كانت في فيلم "السجينتان" من إنتاج ١٩٨٨، وهو من تأليف رجاء يوسف، ومن إخراج أحمد النحاس، ومن بطولة يوسف شعبان، وسماح أنور، وإلهام شاهين، وكان عمرو دياب وقتها قطع شوطا مقبولا في مسار النجومية، إذ كان قد أنتج ثلاثة ألبومات غنائية، وهي "يا طريق"، و"غني من قلبك"، و"هلا هلا"، وكان بالفعل بدأ في تحقيق شهرة دفعت المخرج أحمد النحاس للاستعانة به.
وبعيدا عن مستوى الفيلم ككل، ربما كان الحكم على أولى تجارب عمرو دياب السينمائية في دور "علي" باهتا ظالما للغاية، إذا أخذنا في الاعتبار أن الفيلم ككل مكتظ بالمشكلات الفنية، بداية من ثغرات في السيناريو، مرورا بأداء تمثيلي سيء، إلى مخرج لم يمتلك أدواته الإخراجية، فخرج "السجينتان" باهتا ضعيفا، وربما كان من الجيد أنه من الأفلام المنسية التي نادرا ما يتذكرها أحد.
حينما مثّل عمرو دياب نفسه
وإذا كانت التجربة الأولى لم تتح الفرصة للحكم على "الممثل" عمرو دياب بالشكل الكافي، بسبب مشاكل حلّت بأغلب عناصر فيلمه الأول، فلابد أن تكون تجربته الثانية فرصة للحكم على أدائه، خصوصا وإن كانت مع مخرج له باع طويل مثل حسام الدين مصطفى، وبمشاركة واحدة من ألمع نجمات السينما وقتها وأكثرهن خبرة وذات قدرات تمثيلية جيدة مثل مديحة كامل.
ولكن جاء فيلم "العفاريت" مخيبا للآمال مرة أخرى في تقييم قدرة "الهضبة" كممثل، نعم فهو أثبت أنه يمتلك حضورا مميزا لا شك فيه، والقدرة على التعامل مع الكاميرا، والتحكم نوعا ما في انفعالاته، ولكن كل ذلك لا يجعل منه ممثل بارع.
أزمة دياب في "العفاريت" أنه قدم شخصية عمرو دياب، فلم تكن هناك شخصية ليقدمها، فيمكن القول إنه قدم افتراضية أنه كعمرو صادف يوما ما طفلة من أطفال الشوارع وتعاطف معها وتبنّى قصتها وأحبها، وحاول انتشالها من الجحيم الذي تعانيه، مجرد افتراض، ولكن ليست شخصية بالمعنى المفهوم، ولكن على جانب آخر فإن الفيلم نجح على المستوى الجماهيري وقتها، ولاقى قبول عند إعادة عرضه على شاشة التلفزيون، وربما كان هذا عائدا للقصة التي تجعلك تتعاطف إنسانيا مع الطفلة "بلية" وباقي زملائها في وكر "الكاتعة" والأم البائسة التي تحاول أن تستعيد طفلتها التي فقدتها منذ زمن، إضافة إلى وجود عامل جذب هام وهم الأطفال، خصوصا إذا كان كثيرا منهم موهوب بالفطرة، وقادر على التعامل مع الكاميرا بحميمية، فخلقوا على الرغم من مأساوية القصة حالة من البهجة لا تخطئ طريقها لقلوب المشاهدين.
"آيس كريم في جليم".. "التالتة تابتة"
يقولون في المثل الشعبي الدارج "التالتة تابتة"، ولكن الثالثة في مسيرة "الهضبة" السينمائية مميزة بحق، فهي مع مخرج كبير وهو خيري بشارة، وسيناريست وشاعر قدير هو مدحت العدل، وروائي خارق للعادة هو محمد المنسي قنديل، إضافة إلى "توليفة" من الممثلين من أصحاب الموهبة الكبيرة والحضور المتميز، على رأسهم أشرف عبدالباقي، والراحل على حسنين، والراحل حسين الإمام، وعزت أبو عوف في أول ظهور سينمائي له، وسيمون، وعدد من الموسيقيين كيحيى غنام، وحسام حسني، وغيرهم، ليقدم هذا الجمع توليفة سينمائية خاصة عُرضت في سنة ١٩٩٢ تحت اسم "آيس كريم في جليم".
والفيلم الذي يعد من "الأيقونات" السينمائية لأبناء جيلي، والذي حمل من البساطة والعمق والجمال السينمائي ما يكفي ويفيض، فاجأنا فيه عمرو دياب بممثل على وشك الظهور، فعلى الرغم من قوة وجودة الفيلم الفنية فإن عمرو دياب حل متأخرا في ترتيب المتميزين بالفيلم، فيسبقه على حسنين، وحسن الإمام، وأشرف عبد الباقي، وسيمون، وأيضا عزت أبو عوف، وربما لم يأت خلف دياب سوى جيهان فاضل.
وربما كانت الأزمة هنا أيضا أن عمرو دياب يقدم "ثيمة" معتادة ومكررة في الأفلام التي يقوم ببطولتها مطرب، وهو حلم الوصول إلى هدفه في أن يكون مطربا مشهورا، ولكن الفيلم أبرز نقطة غاية في الأهمية، فعندما يكون أمامنا سيناريو وحوار جيدين، ومخرج يعي ما يفعله ويمتلك أدواته ويجيد تحريك ممثليه، فإن شكل عمرو دياب على شاشة السينما يختلف، وربما كان دياب بحاجة إلى فرصة في البداية كالتي حصل عليها محمد منير في بدايته، عندما وقف أمام كاميرا الأستاذ يوسف شاهين، ربما كان "الهضبة" بحاجة إلى مخرج مختلف منذ البداية.
وانتهى "الضحك واللعب وبقي الحب والجد"
في سنة 1993 أُسدل "الهضبة" الستار على مشوار عمرو دياب السينمائي القصير جدا بفيلمه الأخير "ضحك ولعب وجد وحب"، وبالمصادفة فإن هذا الفيلم هو التجربة الإخراجية الأولى والأخيرة لمدير التصوير المتميز طارق التلمساني، كما أنه شارك في كتابته مع المخرج مجدي أحمد على، واستطاع التلمساني من خلاله أن يحشد عددا كبيرا من النجوم، وعلى رأسهم "العالمي" عمر الشريف، ويسرا، وأحمد آدم، وعلاء ولي الدين، وحسين الشربيني، وعمرو عبدالجليل، وصلاح عبد الله، وغيرهم الكثيرين.
ولكن عمرو دياب الذي قرر أخيرا أن يقدم نفسه في هذا الفيلم كممثل وليس كمطرب اختار أن يقدم دور "أدهم لبش" من منطقة هي أقرب لـ "الأفورة" خلقت هناك مساحة شاسعة بين أداء كل الممثلين في الفيلم وأداء عمرو دياب، فتفوق الجميع عليه بلا استثناء، بداية من النجوم أصحاب الخبرة، ووصولا لـ "الثلاثي" الشاب وقتها هشام المليجي ومحمد التهامي وهادي الباجوري، والذين قدموا مفاجأة متميزة بأداء غلب عليه الاتزان والبساطة، على عكس عمرو دياب الذي بالغ في الأداء حتى كسر الحاجز ووقع في فخ الافتعال، لتنتهي تجربة عمرو دياب في السينما نهاية لم تكن متوقعة، خصوصا مع المستوى المقبول الذي قدمه كممثل في فيلم "آيس كريم في جليم".
والخلاصة أنه يمكننا القول أن السينما أعطت لـ "الهضبة" المزيد من البريق والنجومية التي يستحقها كمطرب فقط، ولكنها أيضا حكمت على مشروعه التمثيلي سريعا بالانتهاء، أما "الهضبة" فلم يضف للسينما سوى عدد من المشاهد الجيدة في فيلمه الأفضل "آيس كريم في جليم" على مستوى التمثيل، ولكنه في نفس الفيلم أعطى السينما عددا من الأغنيات المتميزة، ويمكنني القول إنها أفضل ما قُدم للسينما من أغانِ خلال النصف الأول من التسعينيات، ومن علامات مشوار عمرو دياب في الموسيقى.
من ينسى أغانِ مثل "أنا حر"، و"ها تمرد ع الوضع الحالي"، و"آيس كريم في جليم"، و"رصيف نمرة خمسة"، و"بس إنت تغني"، وغيرها من أغنيات الفيلم التي كانت ومازالت علامات هامة في مسيرة "الهضبة" الغنائية.