أسوأ ما يمكن أن يتعرض له فيلم جيد هو أن تثار حوله ضجة غير سينمائية الطابع. حيلة تستخدمها الأفلام الضعيفة أحيانا، لتحريك جدل سياسي أو ديني أو رقابي، أو أي شيء آخر يختفي العمل نفسه وراءه، فيصير الفيلم موضوعاً للساعة، يتحدث الجميع "حوله" دون أن يتورطوا في الحديث "عنه". أما الأفلام الجيدة فتحتاج لمحللين أكثر من حاجتها لمناصرين، تحتاج لمن يدرس عناصرها لا إلى من يدافع عن أصالتها وحقها في التواجد، وهذا بالضبط ما يدور حاليا حول "ولاد رزق".
موضوعات كثيرة سوّدت حول فيلم طارق العريان السادس، ومساحات جدل على مواقع التواصل الاجتماعي، منها حملة مقاطعة معلنة ضد ما حوار الفيلم المبتذل طبقا لرأي المقاطعين، ودفاع مضاد يرى أن العمل حاصل على تصريح بالعرض "تحت رقابة أسرية"؛ ليكون لصنّاعه حرية اختيار الحوار المناسب للشخصيات. من الجدل أيضا حديث أصبح سلاحا مشهرا في وجه كل عمل جديد: الاقتباس أو السرقة، ومحاولة البحث عن تفصيلة تجمع الفيلم بعمل أمريكي شهير، ليؤكد الكاتب بخبرة الحكيم أن العمل مسروق، ويكمل حياته معتبرا نفسه قد أدى رسالته على النحو الأكمل، دون أن يقرُب العمل نفسه من قريب أو بعيد!
حسنا، لن ننخرط في كل الأحاديث المذكورة، لن نبخس فيلما جيدا حقه، وسنتحدث عن "ولاد رزق" نفسه، كواحد من أهم الأفلام المعروضة حاليا في القاعات المصرية والعربية.
عالم العريان الخاص
إعجاب المخرج طارق العريان بالسينما الأمريكية وتأثره بها أمر يعلمه القاصي والداني. فالمخرج الذي درس في الولايات المتحدة تعمّد منذ اللحظة الأولى تقديم سينما أمريكية الطابع، تتراوح بين التمصير المعلن في حالة فيلمه الأول "الامبراطور"، إلى استلهام الأنواع ومعادلاتها في أفلام مثل "تيتو" و"السلم والثعبان" و"أسوار القمر". الأمر الذي يجعل من لا يعلم يتهم المخرج بالافتقاد للعالم الخاص أو البصمة الإخراجية، لكن الواقع هو العكس تماما. طارق العريان يمتلك عالما خاصا بالتأكيد، يمكن تلمس سماته في أفلامه الستة باختلاف أنواعها ومستواها الفني. عالم سماته الثلاثة هي قيمة السيناريو، الإتقان البصري، والجوّ العام.
السيناريو هو البطل دائما في أفلام العريان مهما كان نوعها. دائما هو سيناريو مغلق، كلاسيكي حتى لو تلاعب قليلاً بزمن السرد كحالة الفيلم الجديد. أبطاله شخصيات فاعلة صاحبة قرار، وحكايته يُمكن أن تروى فتصل كاملة غير منقوصة، أي لا تترك مساحات يملؤها المشاهد بهواجسه وتخيلاته كمعظم مدارس السرد الحداثية. ليأتي بعد ذلك دور العنصر الثاني، وهو تمكن المخرج من صنعته الإخراجية، وتقديم نفس الحكاية المغلقة بصورة تضيف إليها إمتاعا نابعا من إحكامها بصريا، لا مجال للأخطاء أو الاستسهال، فكل شيء مصنوع بدقة فائقة، حتى لو تحولت هذه الدقة أحيانا إلى شكلانية تفقد الفيلم روحه. لكن هذا لم يحدث في "ولاد رزق" لحسن الحظ.
السمة الثالثة في سينما طارق العريان، وهي بطلة فيلمه الجديد بلا منازع هي قدرته على رسم جوّ عام "أتموسفير" خاص، عالم فيلمي كامل يدخله المشاهد ولا يخرج منه إلا بنهاية العمل. وكل من يذكر حالة التأثر الشديد بعالم وكالات الإعلان وتفاصيله لدى كل من شاهد "السلم والثعبان"، يمكنه أن يضع يده على قدرة المخرج ـ في حالة توافر سيناريو جيد ـ على رسم هذا الأتموسفير الخاص. العريان فعلها مع محمد حفظي وصاغا عالم الإعلانات والعلاقات العاطفية في الفيلم المذكور، وعاد مع صلاح الجهيني ليكرر النجاح في عالم مختلف تماما هو عالم الأشقاء الأربعة أولاد رزق.
صياغة الجوّ العام وقيمته
الأمر ليس بسيطا بالمناسبة، لا يتعلق فقط باختيار مواقع تصوير مناسبة للحكاية، والتعامل مع مهندس ديكور متميز ـ محمد عطية يتفوق هنا على نفسه خاصة في ديكور مخزن السيارات ـ أو مصممة ملابس قادرة على وضع هوية بصرية مميزة لكل شخصية كريهام عاصم. لكنه مزيج من كل هذا وغيره، انطلاقا من فهم لطبيعة عالم السيناريو. هذا فيلم أكشن وجريمة تدور معظم أحداثه في حي شعبي، لا يتضمن أحداثا خيالية أو يجافي منطق القوى فيظهر الأشقاء الأربعة كأبطال خارقين قادرين على فعل المستحيل. لكنه في الوقت نفسه ليس فيلماً واقعياً على الإطلاق. هي حكاية تمتلك واقعها الخاص، الذي يعلي قيمة قوة خارقة ـ إن جاز لنا التعبير ـ تُدعى تماسك الأشقاء: قوتهم في إتحادهم وإن كان للسرقة، وضعفهم في تفرقهم ولو كان للخير.
هذا الفهم لأبعاد الحكاية يستلزم منطقياً عدة أمور، فعلى الأشقاء أن يكونوا مختلفين في كل شيء، في الشكل والشخصية وطريقة الملبس والحديث ووجهة النظر في الحياة. لكن يجب أن يكون اختلافهم غير متنافر، بحيث يوحي تواجدهم معاً ـ درامياً وبصرياً ـ بهارمونية لا توحي بالنشاز. ينبغي أن يكون عالمهم مماثل لواقع الحي الشعبي في مظهره وقسوته وعنفه، لكن في نفس الوقت لا يصير واقعيا بالكامل، بل يحتفظ باختلافه النابع من فرادة أبطاله، التي تجعلهم شخصيات صالحة للعب بطولة فيلم سينمائي مشوّق، فيلم لا مجال فيه لشخصيات باللونين الأبيض والأسود، فلا أخيار وأشرار هنا، فقط أشرار وآخرين أقل شراً، يدور بينهم صراع مرتبط مجددا بالأتموسفير، غريب وذكي وصاخب.
قدرة مخرج ومؤلف "ولاد رزق" على صياغة الجو العام الملائم هي الرد العملي الوحيد على اتهامات السرقة. لا داع للإفراط في شرح الفارق بين التأثير والاقتباس والاستيلاء، ولا لتوضيح حقائق من نوعية تشابه طبيعة التيمات الدرامية، بل والانقلابات المفاجئة Plot twists كذلك. يكفي أن نقول أن جمهور الفيلم هو نفس جمهور الفيلم الأمريكي تقريبا، وأنه ـ الجمهور ـ قد استمتع في الحالتين، والمتعة لا تأت أبدا إلا بامتلاك قدر من الأصالة منبعه هنا هو الأتموسفير. المشاهد لا يكتشف أن الفيلم ممتع وجذاب عند لحظة المفاجأة الدرامية، بل يتورط في الحكاية الشيقة حتى لو لم تمتلك نهاية ذكية وصادمة.
موسيقى من عالم آخر
كلمة السر إذن كانت الجو العام، والذي لم يكتمل إى بإسهام المؤلف الموسيقي الأهم في مصر حالياً. لا جديد في الإشادة بهشام نزيه الذي أصبح الجميع على علم بالدور الذي يلعبه في كل عمل يقوم بوضع موسيقاه. لكن الجديد هو ما يفعله نزيه نفسه بالعمل على تنويع المصادر، والعثور على هوية موسيقية جديدة تماماً في كل فيلم أو مسلسل. والمقارنة بين الموسيقى ذات الطابع الأنجلوساكسوني ـ اسكوتلاندي غالبا ـ التي وظفها بذكاء في "ولاد رزق"، والموسيقى المستوحاة من التراث القبطي في مسلسل "العهد - الكلام المباح" الذي عرض في رمضان المُنقضي، وما فعله قبلها في "الفيل الأزرق" و"السبع وصايا"، وهي أعمال صُنعت خلال سنتين فقط، ستكشف لنا عن سر اختلاف نزيه عن كل مؤلفي الموسيقى التصويرية المعاصرين.
عمر خيرت وياسر عبد الرحمن وتامر كروان وعمرو اسماعيل وغيرهم، موسيقيون موهوبون حقا ولكل منهم قائمة من الأعمال الممتازة. لكن كل منهم يمتلك هوية واضحة يمكن تلمسها في أي عمل يضع موسيقاه، والتعرف على صاحبها بمجرد الاستماع إليها. قد تكون هوية رائعة فعلاً، لكن التقارب بين موسيقى أعمال يفترض فيها اختلاف العوالم، يفقد الأمر كثيراً من لذة المفاجأة، من انتظار جديد المؤلف الذي يضع في كل مرة موسيقى آتية من منبع مختلف تماما. موسيقى قد يكون شعورك عندما تستمع إليها منفردة أنه من المستحيل أن تتماشى مع هذا الفيلم أو ذلك المسلسل، لكنها ـ للعجب ـ لا تتناسب معه فقط، بل ثريه وتضيف إليه.
حصيلة ما سبق
قد لا يكون طارق العريان صاحب مشروع فني وفكري متكامل الأركان، لكنه في المقابل واحد من أكثر مخرجي السينما المصرية امتلاكا لعالم سينمائي خاص. عالم عنوانه هو العثور على سيناريو جذاب، وتنفيذه بأكثر الصور احترافية وإحكاما. وهو ما حدث بالفعل في "ولاد رزق"، ليتحول سيناريو صلاح الجهيني الذي يخوض لعبة فيلم الجريمة بكارت قوة الجماعة في مواجهة ضعف الفرد، في عالم لا أحكام فيه ولا تصنيفات بالخير والشر، إلى حياة كاملة يفرض المخرج تواجدها على الشاشة، ويأخذ المشاهد فيها ليستمتع بمنتج سينمائي عال الجودة، ذكي ومشوق وممتع، وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم.
طالع أيضا
"شد أجزاء" لمحمد رمضان.. لماذا تجازف وفي إمكانك اللعب على المضمون؟
"ولاد رزق".. فيلم غابت عنه لافتة "للكبار فقط"
"سكر مر" وثلاث خطوات للأمام بعد "سهر الليالي"
"نوم التلات".. كوميديا نفسية افتقدت للحبكة الذكية
حياتي مبهدلة.. فانتازيا في سبوبة