يتعامل بعض المطربين مع الموضوعات الدينية الغنائية، كأداء واجب، أو كمرغمين على غنائها من أجل التواجد فقط، وربما كان ذلك سبب اتجاه أغلبهم إلى إطلاق أغنيات وأدعية دينية في كل موسم رمضاني، وفي فترة زمنية قصيرة سواء في حجم الأغنية أو في فترة إنجازها، لذلك يظل الجمهور إلى الآن لا ينتبه إلى هذه الأغنيات، بقدر احتفاظه بعدد محدود من الأغنيات القديمة حتى وقتنا هذا.
الموضوعات الغنائية جميعها تعاني من التقليدية الشديدة، خاصة تلك المواضيع خارج العاطفية، مثل الموضوعات الاجتماعية والوطنية والدينية، وأول أسباب فشلها هو عدم معرفة المطرب دوافعه لتقديم موضوعه، وعدم توافر عدة عناصر مهمة لنجاح المنتج، مثل الصدق، الجمهور المستهدف وثقافته وميوله، وأخيرا العنصر الموسيقي.
الموزع الموسيقي الشاب كريم حسام، تساءل على صفحته في Facebook، عن سبب تصدير معظم الأغنيات الدينية للمشاعر الحزينة، والتي ربما تكون سببًا من أسباب فشل هذه الأغنيات، فيقول عنها كريم إن الأمر كله نسبي، أو حسب توظيف الكلمة والمعنى، ولكن ثلاثة أرباع الأغنيات الدينية حزينة، وهو أمر غير مبرر، حتى مع استخدام المقامات الموسيقية التي من المفترض أن تكون حزينة، ولكنها توظف بطريقه أخرى يغير من إحساس الأغنية.
ويقول حسام إن هناك فرق بين الأغنية الدينية والابتهالات، رغم أن هناك نماذج قدمت الابتهالات بطريقه أكثر تطريبا، بجانب الغناء الصوفي الذي به مساحة أكبر للبهجة والرقص والإيقاع، بالإضافة إلى الترانيم التي بها من النموذجين.
الفروق بين النشيد والموشح والابتهال والأغنية الدينية، بدأت في التلاشي بسبب عدة تغيرات موسيقية، واقتحام عدد من المطربين العرب والأجانب لمجال الاغنية الدينية، وأصبحوا جميعا يندرجوا تحت بند "الأغنية" والتي لها مكونات وعناصر مختلفة تماما عن القوالب الأخرى.
فقر موسيقي
تحريم الموسيقى هو أول اسباب إخفاق الأغنيات الدينية، فبداية كانت تعتمد فقط على الأصوات البشرية، وحرم صوت النساء ووجود خلافات فقهية إلى الآن في ذلك، حتى وصل إلى تحريم أصوات "الآهات والهمهمات" لتشبهها بالآلات الموسيقية، واستخدمت الاناشيد آلات موسيقية على استحياء، وصاحب ذلك تخوف من استخدام مقامات موسيقية مختلفة أو ألحان مبتكرة، لضمان عدم تشابهها بـ"الأغنيات المحرمة".
نجاح وفشل هذه الأغنيات كان بسبب الموسيقى، وبالنظر إلى الأغنيات الرائجة تجد أنها الأكثر جرأة في الاستعانة بالموسيقى، ما عدا تلك الابتهالات الشهيرة التي لاقت رواجا لأسباب أخرى، مثل أعمال نصر الدين طوبار والنقشبندي وطه الفشني وغيرهم.
في العصر الحديث، تعتبر تجربة محمد منير في ألبوم "الأرض والسلام"، من الأكثر جرأة وتفوقا وتأثيرا، باعتماده على الموسيقار والموزع الألماني رومان بونكا في وضع رؤيته الموسيقية على كل أغنيات الألبوم، والدليل على ذلك هو إخفاق أدعية وأغنيات منير الجديدة، والتي لم يسمع بها بعض فئات جمهوره، لتقليديتها، بجانب تفوقه موسيقيا على تجربة مماثله "حضرة المحبوب" لوائل جسار، الغارق ايضا في الحزن والشجن، مقابل تحرر وبهجة منير والتي جعلت من بعض أغنياته تنتشر في الأفراح، وأحيانا يُرقص عليها رغم موضوعها الديني.
ألبوم "الأرض والسلام"
بعدها ظهر جيل آخر قاده المطرب البريطاني سامي يوسف، الذي لاقت أغنياته انتشارا وشعبية رغم لغتها الإنجليزية، والتي ربما كانت سببا في شعبيته لما لها من دلالة على دخوله الإسلام، وهذه النماذج تلقى تعاطفا استثنائيا من المسلمين العرب، والسبب الآخر والأهم هو الموسيقى وعدم وقوعه في فخ الحزن في بداياته وخاصة في أغنية "حسبي ربي".
حسبي ربي
ظهرت بعد يوسف عدة نماذج مشابهه مثل مسعود كرتس وماهر زين وغيرهم، ورغم تجديدهم إلا أنهم اتجهوا إلى طرق أخرى للنجاح مثل توظيف التنمية البشرية في الأغنيات، مع الحفاظ على مشاعر الحزن، التي يعتقد معظمهم أنها وسيلة للحفاظ على وقار الأغنية وهيبة الطرح.
تراجع الأناشيد
في ظل اتجاه معظم القوالب إلى الاندماج في قالب الأغنية، رغم عدم تحررهم الكاف من قيود الابتهالات والأناشيد، حتى بعد تجارب نجوم البوب في المواضيع الدينية، إلا أن فكرة تقديم أناشيد بشكلها التقليدي أصبح صعبا، فيعتبر آخر التجارب التي لاقت طلبًا جماهيريا هي تجربة مشاري راشد، فبجانب فقرها الموسيقي وقلة محبيها، إلا أنها أصبحت أحيانا مثيرة للسخرية أو مرتبطة بالفكر المتشدد والمتطرفين، خاصة بعد استخدام تنظيم "داعش" لأناشيده كخلفية لفيديوهاته، والتي ربما تقضي تماما على إنتاج الأناشيد الدينية.
رمضان مناسبة دينية أم اجتماعية؟
الغناء لرمضان مثله مثل الأغنيات الدينية، يعاني من الفقر في اختيار الكلمة والموسيقى، بالإضافة إلى تجاهل قيمة رمضان الاجتماعية، خاصة للمصريين، والذي يختلف فيه عن بقية الشعوب، ومع ذلك تتغير عادات رمضان في مصر، بمعدل يفوق تطور الغناء له، ولعل الاستخدام الدائم لأغنيات شهيرة مثل "رمضان جانا" و"هاتو الفوانيس يا ولاد" وغيرها، في هذه المناسبة يعكس عدم قدرة الأغنيات الرمضانية الحديثة التواجد أو التأثير مثل نظيراتها القديمة.
امتد تأثير تلك الأغنيات إلى معظم التجارب الحديثة، سواء في أسلوب التناول كالترحيب برمضان وعاداته، إلى استخدام نفس الجمل والكلمات وكذلك التيمة الموسيقية، حتى وصل الامر إلى تحويلها كمهرجانات، وإضافة بعض التعديلات على كلماتها.
مهرجان "هاتو الفوانيس"
طريقة وظروف العرض، وتفرد اللحن والكلمة والصوت، أهم أسباب نجاح واستمرار الأغنيات القديمة، ولكن بالمقارنة بين القديم والجديد، تظهر أسباب الفشل وهي نظرة القدماء إلى رمضان باعتباره مناسبة اجتماعية سعيدة، والجدد يحصرونه في فريضة دينية، وما نتج عن ذلك من استمرار الحزن الدال على الخشوع والوقار، بجانب سذاجة الكلمات ومحاولات إعادة صياغة جمل "رمضان جانا.. هل هلاله.. شهر الصوم"، إلى جانب غياب التوزيع الموسيقي، وحصره كخلفية موسيقية وغالبا ما لا تخرج عن آلات ثلاث "القانون – الدف – الناي".
رمضان لجنات
تجربة المطربة المغربية جنات في الغناء لرمضان كمناسبة دينية واجتماعية، بجانب تحررها من عقدة الحزن والفقر الموسيقي، جعل أغنيتها من أنجح التجارب الحديثة التي لا زالت أسيرة "الحزن والتقليدية" مقارنة بما أنتج في الفترة الاخيرة مثل أغنية تامر حسني "تيجي نصوم شهر رمضان"، ومجموعة أغنيات إيهاب توفيق، وآخرهم ألبوم شركة "مزيكا" الذي ضم عدة أغنيات دينية لأصوات شابة، وتكاملت فيه كل أسباب الفشل من المشاعر الحزينة إلى سذاجة الكلمة وفقر اللحن ورداءة الأصوات والتصوير.
أغنيات "مزيكا" وإيهاب توفيق