هناك شئ ما يبدو مميزاً فى المخرج الألمانى فيم فيندرز، فهو قادر على الاحتفاظ بمظهره نفسه لوقت طويل، فمظهره عندما كان اسماً مهماً فى موجة السينما الألمانية الجديدة فى السبعينات، يبدو تماماً كمظهره ككهل مغامر فى الأربعين خلال الثمانينات، ما بين صحراء أريزونا الأمريكية و ملائكة برلين. و ها هو مظهره لا يختلف كثيراً على الرغم من سن الستين الذى سيكمله فى أغسطس المقبل.
فيم فيندرز قام بزيارة خاطفة للعاصمة الإسبانية مدريد، و ذلك لعرض فيلمه الأخير land of plenty "أرض النعيم ". فهو مازال يحمل نظارته المستطيلة، شعره يأخذ أشكال غريبة، دون أن يعير اهتماماً كافياً لتمشيطه. يرتدى بذلة صوفية بسيطة غير تقليدية، متداخلة الألوان. كان يبدو كأحد نجوم موسيقى الروك التى قال مرة أنها أنقذت حياته. الإرهاق يلتهم الجزء الأكبر من عينيه بعد يوم حافل المقابلات الصحفية و التلفزيونية، و التنقل فى شوارع العاصمة المزدحمة.
"أرض النعيم" فيلم قليل التكاليف، من عالم الديجتال الذى يعود معه فيندرز إلى عوالمه الأمريكية الخالصة، حيث يطوف المخرج الألمانى القدير أوروبا هذه الأيام، لترويج تلك المرثية الأمريكية الحزينة عن أمريكا ما بعد 11 سبتمبر, و التى فشل فى الوصول إلى صالاتها السينمائية لعدم وجود موزع يمكنه خوض المغامرة ، و هو ما علق عليه ساخراً فى المؤتمر الصحفى الذى عقده قبل عرض الفيلم "كان هذا دليلاً على أن الفيلم مستواه جيد بالفعل"!!
فيندرز يعلم أن فيلمه الجديد الذى كلفه نصف مليون دولار قد لا يروق لللكثيرين من المتعاطفين مع الولايات المتحدة، فهو يقدم نظرة قاتمة عن أمريكا ما بعد 11 سبتمبر. إنها قصة الفتاة الأمريكية لانا التى تعود إلى وطنها بعد عشرين عاماً بحثاً عن عمها بول، و لكها سرعان ما تفاجأ بأنها وجدت شخصاً مهووساً، يغوص فى بارانويا لا تنتهى، يجند حياته بالكامل، سعياً وراء منع "الكارثة القادمة". فرؤيته لشخص يحمل ملامحاً "عربية" تعنى الاقتراب من مصدر تلك الكارثة. لتجعل حادثة قتل شاب مسلم يدعى حسن من بول معادلاً أمريكياً لشخصية دون كيخوتى، و لكن طواحين الهواء الأمريكية هذه المرة من نوع مختلف، حيث تحاشى فيندرز تماماً أن يقدم فيلماً أمريكياً تقليدياً، أو على حد قوله "لم أكن أريد أن أصنع فيلماً عن الحلم الأمريكى، لقد أردت أن أصنع عملاً عن الواقع الأمريكى، و عن كوابيسه".
فيندرز أكد فى حوار خاص أن بول بل أمريكا نفسها كانت دوماً فى حاجة إلى عدو و ذلك بقوله "فى البداية كان الألمان، ثم الخطر الشيوعى، و الآن هى تواجه الإرهاب و هذا الأخير يمثل النوع الأخطر. إنه عدو بلا وجه أو ملامح. فى هذه الحالة فالجميع مشتبه فيهم. العرب جميعاً متهمون، إنها ستكون حلقة مفرغة لا تنتهى. اعتقد أن هذا موقف تراجيدى مأساوى للغاية". و أضاف "المشكلة الحقيقية أن العالم كله سجل تعاطفاً صادقاً مع الأمريكيين عقب أحداث سبتمبر. بما فيهم العرب أنفسهم. كان الطريق ممهداً لصنع نوع من التقارب، و تفهم أسباب ما حدث. لقد كانت لحظة تاريخية رفضت أمريكا استغلالها".
فى "أرض النعيم" لن يعثر المشاهد على أمريكا لامعة، مضيئة، مغرية. لا يوجد فردوس على الأرض فى فيلم فيندرز الأخير، بل أحياء فقيرة بلوس آنجيليس، لا تختلف فى فقرها الشديد عن بعض اللقطات من بغداد المحتلة الآن. لن تجد أمريكيين من نوعية هولييود، بل أمريكيين ممن ظهروا فى فيلم مايكل مور الشهير "فهرنهايت 11\9"، حيث يقول فيندرز عن هذا بقوله "أمريكا التى تشاهدونها فى الأفلام مختلفة تماماً عن الواقع. فإذا خرجتم خارج حدود المدن الكبرى ستجدون مجتمعات منغلقة. البعض منهم لا يمتلك جواز سفر لمغادرة بلدته أو ولايته. كل ما يعلمونه عن العالم الخارجى مصدره وسائل إعلام ذات توجهات محافظة فى أغلبها. و لا أستثنى منذ هذا سوى القليل من المصادر المحترمة، منها النيويورك تايمز على سبيل المثال".
فيندرز لم يبخل على جمهور المؤتمر بتعليقاته التهكمية الطريفة فى أغلبها، حيث قال مازحاً "كنا نريد عرض الفيلم قبل الانتخابات الأمريكية فى محاولة للتأثير على الناخب الأمريكى. و لكن للأسف لم ننجح فى هذا. لذا سنبقى أربعة سنوات أخرى مع بوش بسبب هذا الخطأ". و لكنه عاد و ذكر رد فعل قطاع من الأمريكيين الذين شاهدوا الفيلم من قبل بقوله "الجمهور الأكثر ليبرالية أعجب كثيراً بالعمل. أما القطاع المحافظ من لك الجمهور فقد أكمل الفيلم حتى النهاية. ولكنى أستطيع القول بأنهم أزعجهم كثيراً".
مشوار فيندرز السينمائى منذ نهاية الستينات و حتى الآن العديد حافل بالعديد من المغامرات الشجاعة، الإخفاقات العابرة، الجوائز القيمة، و أفلام لا تنسى مثل "آليس فى المدن" (1975)، "ملوك الطريق" (1976)، "الصديق الأمريكى" (1977)"، "باريس تكساس" (1984) ، "أجنحة الرغبة"