بدت أنغام وكأنها روح محلقة منذ لحظة اعتلائها خشبة المسرح، وكأن جسدها الرقيق الذي يحتل مربعا صغيرا وهميا لا تفارقه كثيرا هو الأصل والجوهر ونقطة انطلاق أشعة من البهجة تلمس كل ما كان ومن كان في انتظارها بالمسرح الكبير في دار الأوبرا هناك وقتها.
تنحني نصف انحناءة بها من ثقة وتقدير للنفس أكثر ما بها من تواضع، أنيقة في إشارتها بالامتنان للجمهور الذي ظل يصفق لها كثيرا، قبل أن تحاول توجيه قدر من الانتباه إلى الفرقة الموسيقية وقائدها هاني فرحات.
لم يقطع هذه اللحظة سوى سخافة أصوات التقاط الصور أي shutter sound (تسك .. تسك .. تسك) وأضواء الفلاش التي انهمرت من كل جانب في المسرح. قرر أغلب الحضور ولو بشكل غير مقصود – تجاهل معايشة هذه الطلة الغنية بالتفاصيل من اجل توثيق لحظة في الأغلب لن يحاولوا استعادتها من جديد، أو ربما لنشرها سريعا على فيسبوك أو تويتر.
يبدو أن ختم "كنت هناك" أهم من أن تكون هناك بالفعل.
--
بدأت أنغام بأغنية ما للوطن، الأغاني الوطنية أصبحت متناثرة هنا وهناك، بسبب أو بدون، وصرت أجد صعوبات كبيرة في التفاعل معها، ولكنها اختيارات أنغام (تسك .. تسك) وربما تكون أغنية ذات معنى فعلا (تسك .. تسك) .. لعنة الله عليكم يا أصحاب أجهزة الموبايل والكاميرات! لا أستطيع التركيز.
ما زاد الأمر صعوبة هو أن شابا مهذبا كان يجلس بجواري كان متفاعلا جدا مع الأغنية، فبدأ بنقر خفيف بقدمه على الأرض، ثم ارتفع التفاعل إلى نقر على الأرض + تربيت عالي الصوت على بيده على ساقه، وصاحب ذلك في النهاية "خبطات" متالية بظهره على ظهر المقعد .. أشعر بدوار الآن!
أول كلمات أنغام جاءت بعد الأغنية الأولى، أُحب أنغام في الحفلات الحية لأنها تغني أكثر ما تتكلم، ولم تخيب ظني في هذا الحفل أيضا، كلماتها رغم أنها تبدو مرتجلة وغير معدة ولكنها مقتضبة وفي محلها. تشكر الجمهور والأوبرا وفرقتها الموسيقية.
شكر أنغام للموسيقيين يتجلى فيما هو أكثر من الكلمات: انسحاب كامل أثناء أداء المقاطع المنفردة solo من قبل العازفين حتى لا تهضم حقهم في الأضواء، إشارة هنا لعازف bass guitar بعد حلية لطيفة، ابتسامة هناك لعازف البيانو الذي صاغ معظم المطالع الموسيقية للأغنيات بمهارة كبيرة.
أه بمناسبة المطالع الموسيقية، بدا أيضا أن أغلب الحاضرين في تحد لسرعة التصفيق مبكرا للأغنية منذ المطلع الموسيقي، فهو ختم أخر يعني "أنا معجب حقيقي" لأنني أعرف الأغاني قبل أن تبدأ هي في الغناء، وهو ما يثير الضحك أحيانا لأنهم صفقوا لمطلع أغنية "ماجابش سيرتي" على الرغم من أن أنغام أعلنت أنها ستؤدي هذه الأغنية تحديدا قبل بداية العزف!
شاهد: أنغام تبهر الحضور بأداء مميز في حفل "الموسيقى العربية"
--
"ما جابش سيرتي" هي بطاقة هوية لأنغام، فهي تغني وتمثل وتتحدث لك وتستمع إليك في آن، تمد وترا من قلبها إلى قلبك يحمل مشاعر متناقضة متضطربة مشحونة في كل حرف من هذه الأغنية، لا أريد الحديث عن "إحساس" أنغام لأن هذه الكلمة باتت كليشيه مبتذل بسبب حكام برامج المسابقات الذين يقولونها لموهبة من كل ثلاث مواهب يقيمونها.
درس أخر يمكن ان يتعلمه من يكتبون بالعامية من أنغام وهي تفتح لنا خزائن صوتها في "ما جابش سيرتي": حرف "الهاء" في نهاية الكلمات يكتب وينطق أيضا، الهاء في نهاية الكلام ستسمعها واضحة وهي تغني:
- سأل عليّ .. سأل عليّ بإيه (صوت الهاء)
- سأل عليّ بكلامه (صوت الهاء) ولا عينيه؟ (صوت الهاء)
- بس اوعوا تكونوا قلتوا له .. سألت عليه (صوت الهاء)
ربما إذا استمع كتاب العامية لهذا المقطع سيتوقفون عن كتابة "كلامو" و"في إيه" وهم في الحقيقة يقصدون "كلامه" و"فيه إيه" .. ربما.
--
مع أداء أغنيات أسرع إيقاعا، كان الشاب صاحب السكسوكة المنمقة بجانبي يزداد تفاعلا، نقرات الساقين أصبحت أقوى وأسرع تلاحقا خلال "وحدانية"، تربيتات الكف على الساقين باتت أعلى مع "مهزومة" يصاحبها دندنة خافتة، ولكنني قررت أخيرا في أغنية "سيدي وصالك" أن أنبهه بهدوء وابتسامة إلى أنني لم أعد أتحمل هذا الاهتزاز المتواصل.
المفاجأة إنني حين التفت إليه وجدته ثابتا، أدركت حينها أنني بدأت أنا الأخر في أداء طقوس التفاعل الاهتزازية من دون أن أدري، أدركت أيضا أنني لم أعد أسمع أصوات الكاميرات أو ألحظ الفلاش، روح أنغام المحلقة سيطرت تماما على الوضع، ولم يعد هناك سوى صوتها الممدود وعشرات المشاعر التي يحملها هذا الصوت.
لا يوجد الآن سوى مزيد من أنغام، وقليل جدا من أجهزة الموبايل، وكل شئ أخر.