بعد قليل من التفكير بدا أنه طريق وعرة الكتابة عن فنان بعد مائة من رحيله، ربما لاستحالة إيجاد جديد حول تصوراته عن العالم، إلقاء الضوء على أكثر ما قدمه شهرة أو العمل الأسوأ حظًا الذي مر عابرًا وسط زخم إنتاجه، لذلك تصبح تلك المهمة بمثابة ورطة أكثر من كونها وسيلة للتعبير عن مدى استثنائية فن أدبي أو سينمائي صمد عشرات السنوات، لذلك تبدو معضلتنا الأكبر هي ما الذي علينا قوله هنا والآن أثناء الحديث عن فرانز كافكا؟ سواء من خلال كتابته أو من الفيلم الأخير "مجد الحياة" عن سيرته الذاتية الذي أخرجه جوديث كوفمان وجورج ماث.
تابعوا قناة FilFan.com على الواتساب لمعرفة أحدث أخبار النجوم وجديدهم في السينما والتليفزيون اضغط هنا
في الدورة الجديدة التي تبدأ هذا الأسبوع من مهرجان القاهرة السينمائي، وُضع الفيلم الأحدث عن السيرة الذاتية للأديب الراحل فرانز كافكا. كتبت هذه التدوينة في التفكير حول مشروع الرجل الذي خُلّد رغم رغبته في الاختفاء.
لسخرية القدر أنه في حالة كافكا والظرف التاريخي الآني تتحول المعضلة الأكثر خطورة إلى مساحة مريحة لإعادة تذكّره. ففي لحظة مضطربة سياسيًا على مستويات مختلفة من العالم تجعلنا أكثر رحابة أمام أفكار أخرى عن الرجل الذي باتت أغلب شهرته مرتبطة برواية واحدة اقتبستها السينما عشرات المرات وصل فيها تشاؤمه إلى مداه الأقصى. تحوّل فيها الإنسان/ بطله الأثير غريغور سامسا إلى حشرة وعبّر عن هشاشة الوجود العام. لكن اللحظة اليوم مختلفة، تمامًا مثل كيفية استدعاؤه فيها. وبدلًا من أي شيء شهير للرجل يمكن أن نتمشّى قليلًا لنصل إلى إحدى رواياته غير المكتملة والأكثر روعة بالنسبة لي: رواية أمريكا.
تجمع رواية أمريكا أغلب ما يمكن الحديث عنه في سياق كافكا اليوم؛ غير مكتملة أساسًا كان قد هرب بها صديقه ماكس برود، من تشيكوسلوفاكيا التي كانت واقعة تحت الاحتلال النازي، إلى فلسطين مع الروايات الأخرى. في سياق رغبته التخلص منها أو من كتاباته عمومًا. تلتصق فيها الخيالات بالوقائع لتعيد سرديات مختلفة باختلاف قارئها وموقعه من العالم والأحداث. سياسية أكثر من غيرها نوعًا ما تتنبأ بالريادة الأمريكية وتنشدها كنقطة مفصلية لتصوراته السياسية التي تقزم وجودها لاحقًا. وانحصر وجوده السياسي فيما بعد بين منشأه الألماني وانتقاله لإسرائيل وما أنتجه ذلك. وجميعها أشياء فيها من الخاص الكافكاوي والعام العالمي ما يتقاطع مع الفيلم.
يقابل كافكا/ سابين تامبري في "مجد الحياة" فتاة أحلامه/ هينريت كونفريس، كما يجد صديق العمر الذي يتنقّل معه في كل مكان دون ملل، ودون رغبة من الجميع يسقط كافكا أسيرًا للمرض المميت. يبدو الشاب متشبث بحياة تلفظه، يظهر ذلك بصريًا بشكل جيد في صورة غائمة حتى في أسعد اللحظات ومونتاج متقلب بين القطع الحاد والخفيف. تمامًا كما تسير الرواية. تحكي الرواية قصة المهاجر الشاب كارل روسمان، الذي يجد نفسه مُرسلًا إلى أميركا بعد مغامرة جنسية محرجة، كعقاب أبوي. وبينما كان من المتوقع أن ينقذ نفسه في هذه الأرض السحرية المليئة بالفرص، انجرف كارل الشاب في دوامة من التقلبات المذهلة والمغامرات الغريبة. خلق أمريكا من رأسه كأرض ميعاد فيها حلم الحياة للآخرين بينما لا يمكنه التمتّع فيها. تبدو الأمور خارجة عن سيطرة البطل في أرض واسعة مليئة بالأحلام تمامًا كما يحدث في الفيلم.
"مجد الحياة" يجده كافكا في اللحظة التي يعطّله فيها ما يتجاوز الحياة ذاتها. يحاول في الفيلم إعادة بناء حياة جديدة مع الفتاة التي أحبّها ولا يمكّنه المرض والفقر من ذلك. يحمل البطل ملامح كافية للتورط معه وتخيل وضع كافكا ذاته؛ وجه منحوت شاحب وعين قلقة وشبح ابتسامة لا تظهر رغمًا عن صاحبها، تخلق تلك المفارقة لدى كافكا كتابات سواء في "أمريكا" أو غيرها أو حتى في اقتباسات سيرته في الفيلم لتعبّر في أشكالها المختلفة عن الضياع البشري غير المحدود. يقر كافكا على عكس كثيرين بمجد الحياة وجمالها في نفس لحظة سقوطه الذاتي.
لم يستطع كافكا تسيير حياته ماديًا من الكتابة بمفردها. دفعه ذلك للعمل في شركة تأمين من الصباح حتى الظهيرة. وبعد العمل اعتاد الترفيه عن نفسه بممارسة الأشياء التي تمنحه السعادة: ركوب الدراجة النارية، وارتياد دور السينما وبيوت الدعارة. أحب الكتابة ولم يجده الناس فيها. أي جحيم يمكن أن ينتج عن ذلك! يبدو هنا مساحة تأمل واسعة. فالضياع عادة ما يحدث نتيجة عدم الوجود لكن وجود الأشياء واستحالة التمتّع بها بدا أكثر جنونًا وروعة للإنتاج الأدبي والحياتي لديه. رجل يريد أن يترك عمله وبلده وحياته كلها لا ترضيه. كان يجد الأمل أبعد من كل تلك البلاد التي تعد بالاضطراب مثل بطله الخياله ولم يجد مساحة لتحقق ذلك. مساحات يأس وأمل أهّلت الإيقاع القائم على خلق ضياع حميمي لكل قاري أو مشاهد لحياته.
المرض مقابل الحياة الواسعة والحروب مقابل الحب الداخلي الذي حاول الحفاظ عليه، أنتج رجل يدرك فعلًا "مجد الحياة" لكنه لا يستطع أبدًا الوصول إليه. كانت أكثر النظرات التشاؤمية منطقًا أن يترك كافكا كتابات تسيء الظن في العالم الخادع الذي وجده. تبدأ فيها رواياته مثلما نجد بطله في رواية أمريكا أو كما وجدناه شخصيًا في الفيلم: رجل يطمح في كل جديد من الحياة، يحتاج أن يعيشها فعلًا ولا يجد متسع لذلك، لأسباب خارجة عن إرادة الجميع، متجاوزة للحياة والموت، يفنى سريعًا ويبقى في الذاكرة لأكثر من مائة عام. تخلق كتابته الجدل الذي تمنّاه دائمًا.
فيلم "مجد الحياة" يبدأ من لقطات واسعة للبحر فيها الفتاة الحسناء التي سيحبها الشاب النبيه حاد الذكاء. تمامًا كما ينتهي من اللقطة ذاتها. تجسيدًا للمجد الحياتي الحقيقي الذي لا يوجد إلّا في الحب. بين المشهدين الرئيسيين نجد رحلة قصيرة للفتى، في حياة ناطح فيها على مستويات مختلفة لإدراك المجتمع والسياسة والفن. عاش على الهامش من كل شيء. مات سريعًا قبل أن يكمل الأشياء. حرق المراحل جميعها وطلب بحرق بعدم نشر تجربته ظنًا أنها مبتسرة، فكانت السخرية أن وجدت روعتها في اعتبارها غير مكتملة نسبيًا تحمل تأويلات صالحة لكل زمن، وذكرى حميمة للاحتفال بسوء الظن في الحياة، الجميلة على كل حال.
اقرأ أيضا:
شيكو ومحمد محمود عبد العزيز وتامر عاشور من بينهم … النجوم يحتفلون بعيد ميلاد محمد حماقي
#شرطة_الموضة- أيتن عامر بفستان قصير وحقيبة سعرها يتجاوز 190 ألف جنيه في جلسة تصوير جديدة
محمد هنيدي يعود إلى شاشة رمضان بـ"شهادة معاملة أطفال" بعد غياب 6 سنوات
لا يفوتك: في الفن يكشف حقيقة وليد فواز مبدع أدوار الشر
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5