لا أدّعي علمًا بحال عن المعترك السياسي الدولي العالمي أو حتى الإقليمي وما ينفث من دخان حريق للسياسة وخابريها هنا او هناك بل إمعانا في الاعتراف بجهلي فأنا من اولئك الذين يعرفون بالكاد حقيقة ما يدور على ارض أوطانهم ذاتها ! لكنني أستطيعُ الادعاء بأن السينما كانت دائمًا لغة الكون التي لا تخص قبيلة أو فئة .. اللغة التي اجيد تلقيها وفهمها وادراك رسائلها بشتى صنوفها وقراءة ما بين سطورها حتى لو عصى عليّ فهمه في واقع الحياة .حدوتة لبشر عاديين مثلنا كمثلهم فيها من الألم والشجن أو الفرح والتحقق ما في حكايانا جميعا تستطيع ان تؤهلني لادراك الظرف السياسي والاجتماعي الدائر هناك في بقعة اصحاب الحدوتة في اطار ساحر من الفن السابع الذي لا يحتاج لاجادة او دراية بمعطيات السياسة ودهاليزها حتى نفهم ونحس!
توهة
وقت انفصال لسودان الشقيقة في 2011 كنت كمواطنة مصرية ادور في غياهب ثورة يناير التي لم أكن وقتها قادرة على استيعاب حتى ما يدور في بلدي وعلى ارضي وفي الشارع الذي أسكن فيه ؛ سحابات كبرى من التشويش والضبابية لفت الأيام وغيّبت رؤياي ومعي الملايين ، وكانت أخبار استفتاء الانفصال تنناثر على استحياء في وسائل الاعلام المصرية والعربية ولم يكن لدينا دراية بكواليس ذلك الانفصال ودوافعه ومدى الحاح تحقيقه إلا اني اذكر شعورنا الجمعي – كمصريين- بكسرة الخاطر لم آل اليه الحال بنتيجة الاستفتاء بالتصديق على وجوب انفصال وطن عاش واحدًا الى نصفين.
هل يحيي أمل السودان فنانوها؟
بعد أكثر من عشر سنوات يعيد واعد السينمائيين السودانيين المشهد المظلم الى الحياة مرة اخرى من خلال الفيلم السوداني " وداعًا جوليا" من تأليف واخراج محمد كردفاني وبطولة مجموعة من فناني السودان رفيعي الموهبة وشديدي الجاذبية والحضور ؛ إيمان يوسف ، سيران إيراك ونزار جمعة.
الفيلم مشحون بموجات كثيفة شديدة العمق من المشاعر والتي يطفو فوق سطحها ويسودها الغضب والغبن ومحاولات فك شيفرة العنصرية.
العنصرية التي عانى منها أصحاب البشرات الملونة على مر التاريخ وكان من دواعي الدعم والتعاطف دائما ان يحكي احدهم تعرضه للتنمر او الاضطهاد من ذوي البشرات الفاتحة لعلّة لا يعلمها الا الله متمثلة في توزيع نسبة الميلانين في اجسادهم! لكن في "جوليا" تأتي اولى الصدمات الانسانية للمشاهد من خارج المجتمع السوداني لنكتشف ان هناك عنصرية اخرى مضادة وهي عنصرية اصحاب البشرة السمراء انفسهم ضد انفسهم ! ما قد يفسر أصلا نشوء والدفع بفكرة الانفصال إلى حيز التنفيذ. ففي احدى جمل الحوار البديع الذي حفل به الفيلم تقول احدى الشخصيات ما معناه ان "سواد" بشرة شخصية اخرى مختلف ما يظهر بأنه جنوبي!
وهكذا فالفيلم على المستوى الأول \ السطحي يحكي معاناة الفقر والتهجير والقمع الزوجي وقتل الشغف من خلال قصتين متوازيتين لأسرة من الجنوب واخرى من الشمال تتقاطع مصائرهم بشكل دال ورامز في اسقاط واضح عل حال أهل السودان جميعا ابان الانفصال القاسي.
أنا لا اكذب ولكني أتألم!
من خلال قصة الزوجة الشمالية الفنانة التي اجبرت على ترك الفن والتخلي ع شغفها وكيف أرقها حادث سيارة تسببت به في مقتل زوج واب جنوبي شاب وادى ذلك الاحساس بالذنب الى انقاذها أسرته المكلومة من الفقر والحاجة وبناء علاقة حميمية شاعرية بين الشمال متمثلا فيها والجنوب متمثلا في " جوليا" الجنوبية المسيحية أرملة المغدور . لكن هذا فقط هو أول الغيث السينمائي في السيناريو البديع الذي كتبه كردفاني والذي حمل مجموعة ثقيلة من الالام والجراح المفتوحة مالقضايا الشائكة والنكبات الإنسانية المسكوت عنها.
في هذا الإطار قدمت الممثلة السودانية " ايمان يوسف" التي أدت شخصية "منى" الزوجة الشمالية دورا شديد الحساسية مع كل تلك القدرة على ابراز الهدوء واللامبالاة فوق سطح يكمن خلفه بركانا من الغضب والحزن والصراعات الكبرى. رأيناها تلجأ للكذب في كل مرة تتحدث فيها الى زوجها ؛ كذب كان يبدو ظاهريا انه بسبب وبلا سبب الا انه مع التفاعل والاتحاد مع تلك الشخصية المنكسرة الحزينة استشعرنا ان الكذب هو ملجأها الوحيد للهروب ، لإخفاء ألامها والزود عن روحها ان تتحمل المزيد من الآلام.
جماليات
للسينما السودانية وانا هنا اذ اشير الى " وداعًا جوليا " فاحب أن ينسحب حديثي الى السينما السودانية الواعدة اذا ما اضيف الى الحديث فيلم المنتج والمخرج أمجد أبو العلا السابق – منتج وداعا جوليا - " ستموت في العشرين " فأستطيع أن احتفي لسينما شباب السودانيين واشير الى الجمال المرئي الذي برعوا في نثره بسلاسة ورسوخ في مشاهد افلامهم حتى تلك المشاهد الثقيلة على القلب التي اعتصر معها فؤاد مشاهديها مثل مشهد صلاة الموتى الجماعية في الكنيسة واللقطة فائقة التعبير التي اختارها صناع الفيلم لتكون " الافيش" او البوستر الرسمي للفيلم حيث تتكيء منى على " حجر" جوليا متكورة متكومة مستسلمة طالبة العون والاطمئنان فنرى التحام الشمال والجنوب الانساني مجسدا في السيدتين اللتان لا حول لأحدهما ولا قوة وسط قرارات الذكور وقسوتها.
نهاية حزينة كأصحابها
بعد الارتباط الكبير الذي تأسس بسلاسة وتلقائية وتصاعد طوال احداث الفيلم كان لابد للنهاية أن تجرج قلوب محبي النهايات السعيدة من أمثالي حتى ولو لم ينبء أي من معطيات الأحداث بها فتسير السفينة التي تحمل جوليا ومواطنيها الى الوطن " المستقل " الجديد لتختفي تدريجيا في عباب البحر وتسكن اصوات الحياة الصاخبة لينتهي كل شيء بتحقيق ارادة من أرادوا ونودع جميعا الى مصير غير معلوم .. جوليا!
اقرأ أيضا:
هل غنت إليسا "أجمل إحساس" لهذا الفنان؟
عمرو أديب يقطع صورة نتنياهو على الهواء: ألقي به إلى مزبلة التاريخ (فيديو)
حسن الرداد يكشف كيف أقنع إيمي سمير غانم للعودة بعد غياب من خلال موسم الرياض
مفيدة شيحة تهاجم منتقدي ظهور نجوى إبراهيم على الشاشة: منتهى قلة الأدب
لا يفوتك: الفنان ومدرب التمثيل نصر زينهم يحكي عن ذكرياته مع مدرسة المشاغبين
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5