لأول مرة منذ عدة سنوات تأتي جوائز مهرجان كان متطابقة إلى حد بعيد مع توقعات النقاد، صحيح أن حصول "تشريح سقوط" للفرنسية جوستين ترييه لم يكن متوقعًا كم أوضحنا في مقال سابق، لكن حضوره ضمن الفائزين كان شيئًا بديهيًا نظرًا لمستواه، أما باقي الأفلام التي توقع المتابعون تتويجها، فقد ظهر أغلبها في اختيارات لجنة السويدي روبن أوستلوند، والتي نتعرض لها ببعض التحليل في هذا المقال.
نرشح لك: فيلم السعفة الذهبية: "تشريح سقوط".. عن الذنب والأسئلة الشائكة وفن إفساد اللحظة
الجائزة الكبرى: منطقة الاهتمام The Zone of Interest
ربما كان فيلم المخرج البريطاني جوناثان جليزر هو مرشح النقاد الأكبر للسعفة الذهبية، لكن اللجنة منحته الجائزة الكبرى (Grand Prix)، ثاني جوائز المهرجان أهمية بعد السعفة. جائزة تُمثل تصالحًا بين جليزر والجوائز، بعد أعوام اعتُبر فيها مخرجًا من نوع خاص، يقدره محبو السينما ويقدسون أفلامه مثل "تحت الجلد Under the Skin" و"ميلاد Birth"، دون أن يكون لها نصيب من التتويجات الكبرى.
في "منطقة اهتمام" يدخل جليزر مساحة شائكة من التاريخ، بطريقة مغايرة على عادته. الزمان هو منتصف الحرب العالمية الثانية، المكان هو المنطقة المتاخمة لمعسكر اعتقال أوشفيتز الكابوسي، أشهر مواقع الهولوكوست على الإطلاق، والحدث: أسرة نازية تعيش حياتها بهدوء وسلام، يمارسون الرياضة ويزرعون الأرض، ويحاول الزوج الضابط أن يحمي وظيفته ويمارس مهام عمله اليومية، حتى لو كانت تلك المهام تتمثل في حرق المئات يوميًا في أفران الغاز!
مدخل جليزر للحكاية ذهني بامتياز، ينطلق من فرضية يمكن الجدال حولها، مفادها أن البشر يميلون عمومًا للاعتياد على ممارسات حياتهم ويتصالحون معها مهما احتوت على فظائع، والعمل اليومي يتحول إلى فعل ميكانيكي لا يختلط بمشاعر الشخص، بل ويمتد الأمر إلى تهميش الحواس.
فالبطلة (الألمانية ساندرا هولر مجددًا في دورها الثاني الذي استحقت عليه جائزة التمثيل كما في "تشريح سقوط" لكنها فقدت الفرصتين لصالح تتويج الفيلمين بالجائزين الأكبر) ربة منزل مثالية، تنتبه لشؤون منزلها الفاخر وأولادها، وتحيّد تمامًا الأصوات الآتية من المنطقة المجاورة (صراخ/ رصاصات/ إلخ)، والتي يجيد شريط الفيلم استخدامها لخلق مفارقة دائمة بين الصوت والصورة، بين حياة أسرية هادئة وجرائم تاريخية تحدث على بعد أمتار.
الفيلم مأخوذ عن رواية للكاتب البريطاني مارتن أميس، والذي توفي يوم 19 مايو بعد يوم واحد من عرض الفيلم في كان. لكن قدرة جوناثان جليزر على استخدام الأدوات المتنوعة للوسيط السينمائي، تلك القدرة التي صنعت شعبيته رغم أفلامه المعدودة، تظهر هنا بوضوح في كل اختيارات الصورة والصوت في الفيلم الذي يراكم داخل المشاهد أثرًا ليس من السهل وصفه بالكلمات.
جائزة لجنة التحكيم: أوراق متساقطة Fallen Leaves
بخلاف فيلم جلازر لا يرتبط فيلم الفنلندي المخضرم آكي كوارسيماكي بأي أحداث ضخمة في تاريخ البشر، بل إنه يتعلق بالنقيض، بمن يعيشون على هامش الحياة، يسقطون من دفاترها أو يتعامل معهم المجتمع باعتبارهم أرقامًا في كشوف العمّال، لكنهم لا ينالون أبدًا فرصة لممارسة إنسانيتهم.
قصة حب بالغة الرقة بين عامل يدوي مدمن للخمر وموظفة في سوبر ماركت، وجهان مرشحان بقوة ألا ينتبه أحد لما يريدانه على الإطلاق. لم يختارا شيئًا طوال حياتهما بما في ذلك أقرب الأصدقاء، يعيشان اليوم بيومه ويمارسان كل شيء بآلية خانقة، حتى الأشياء التي يُفترض أن تكون مصدرًا للسلوى والبهجة المؤقتة.
يملأ كوارسيماكي الفيلم بتعليقاته الساخرة المعتادة عن نمط الحياة في المجتمع الفنلندي، والذي بينما تصنفه التقارير باعتباره من مجتمعات الرفاه، يُظهره المخرج الكبير هنا على طريقته: مسرح مفتوح للتعاسة. الفيلم عمومًا يحمل بصمة آكي كواريسماكي المميزة، بصورة صارخة أحيانًا. فيلم لمخرج صار خبيرًا فيما يحبه الناس في أسلوبه من عبثية، فلا يتردد في استخدامه بأريحية تامة.
صدفة تجمع البطل والبطلة وتجعلهما يشعران أن شيئًا خاصًا يمكنه أن ينبع من تلك العلاقة، التي تتنفس للمرة الأولى في أحضان السينما (يقدم المخرج تحية حارة للتاريخ السينمائي تمتد بامتداد الفيلم). لكن ولأنه قدر أمثالهما، عندما يحاول بطلانا التصرف كأبطال السينما لخلق إثارة في العلاقة، تتدخل الميلودراما الكلاسيكية بأقصى صورها فتفرق بينهما مرة وأكثر.
يروي كواريسماكي بخفة ظل واضحة حكايةً مأساويةً في جوهرها، خالقًا كوميديا رومانسية خافتة الصوت، عميقة الأثر، تنتصر للبسطاء والمجهولين الذين تنتهي حياتهم في صمت كالأوراق المتساقطة.
أحسن إخراج: بوت أو فو The Pot-au-feu
أكثر اختيارات لجنة التحكيم جرأة كان منح جائزة الإخراج للفرنسي فيتنامي الأصل تران أنه هونج، الذي قدم فيلمًا شديد الخصوصية، يصعب الوقوف على مسافة متوسطة منه، فإما أن تكرهه وتراه مضيعة للوقت، وإما أن تسقط في شباكه فتقضي ساعتين وربع في حكاية تداعب حواسًا غير معتادة في الأفلام.
يبدأ الفيلم بمشهد يتجاوز الثلث ساعة، عبارة عن مراحل إعداد وليمة شهية كاملة، تتابع الكاميرا أيدي النجمة جوليت بينوش ومعاونيها وهي تتلقى تعليمات من الطاه دودان بوفان (بينوا ماجيمل) فتُكمل مرحلة تلو الأخرى وتنهي طبقًا بعد الآخر. يحاول المخرج تحقيق المستحيل بتجاوز حاستي السمع والبصر، بجعلنا بطريقة ما نشم الطعام ونتذوقه، والغريب إنه ينجح في ذلك، أو على الأقل يثير شهيتنا ويجعلنا مقبلين على متابعة قصة الحب بين الطاه والذواقة الشهير، وبين مساعدته الأثيرة التي قضت عمرها جواره.
ينتمي الفيلم لزمن وثقافة مختلفين، حينما كان الأثرياء ينفقون مبالغ طائلة من أجل إعداد وجبة يتباهون بها أمام الآخرين، وجبة كانت تستمر عدة ساعات تتوالى فيها الأطباق، يصمم ترتيبها ويصيغ أصنافها فنانون أفذاذ، مثل بوفان الذي يمكنه بمجرد التذوق تحديد عشرة أصناف امتزجت لصنع خلطة ما، والذي يتعامل مع كل وجبة يُشرف عليها باعتبارها عملًا فنيًا لا يمكن أن يخرج للنور (أو يدخل أفواه الضيوف) إلا في أكمل صورة.
وكما تُصنع الأطباق رويدًا رويدًا، بإضافة عنصر وخلطه والانتظار حتى يظهر تأثيره، تنمو العلاقة المركبة بين الرجل ومساعدته، التي تسمح له بزيارة سريرها أحيانًا، لكن ليس في كل ليلة، وترفض كل عروضه للزواج منها، مطبقة فلسفتها التي اكتسبتها من الطهي على علاقتهما، حتى أن اللحظة الأكثر تأثيرًا (والتي استعارها المخرج عندما شكر زوجته بعد الفوز بالجائزة)، هي عندما تسأل البطلة أستاذها: هل أنا امرأتك أم طاهيتك؟ فيفكر مليًا قبل أن يختار الثانية، لتتسع ابتسامتها لإجابته الصحيحة.
أحسن سيناريو: وحش Monster
منذ أن نال السعفة الذهبية عام 2018 عن فيلمه الأشهر "سارقو المتاجر Shoplifters" استمر الياباني هوريكازو كوري-إيدا في محاولات لإيجاد صياغة يتجاوز بها تلك الذروة، فصنع فيلمًا في فرنسا وآخر في كوريا الجنوبية، حتى عاد أخيرًا إلى اليابان ليصنع هذا الفيلم الذي نال السيناريو الخاص به إعجاب لجنة التحكيم.
السيناريو الذي كتبه ساكاموتو يوجي مصمم بعناية وحرفة واضحتين، تمزج بقدر كبير من النجاح عنصرا أي سيناريو متميز: البناء الدرامي والشخصيات. البناء يتمثل في اختيار سرد القصة في ثلاثة فصول يعرض كل منها وجهة نظر مختلفة، فنبدأ من وجهة نظر أم عزباء تلاحظ تغييرات غير مفهومة تطرأ على ابنها المراهق ترتبط بسلوك تنمري من أحمد مُعلمي مدرسته، ثم ننتقل إلى وجهة نظر المُعلم لنشاهد زاوية أخرى مما حدث للابن، ثم يتبني السرد وجهة نظر الابن في الجزء الثالث ليُكمل جوانب اللوحة.
أما على مستوى الشخصيات، فيعد أفضل ما في السيناريو هو عدم انجرافه نحو الإغراء المعتاد لتعدد وجهات النظر، والذي يدفع كُتاب السيناريو عادة للانشغال بما يخفونه ويعرضونه من معلومات حتى تكون الحبكة أكثر جاذبية. المؤلف ساكاموتو يوجي ينحاز لاستخدام وجهات النظر في تعميق الشخصيات وفهم أزماتها أكثر من دورها في خدمة الحبكة، بل إن من ينظر بعناية للفيلم قد يرصد هفوة هنا أو هناك في تصميم الحكاية وتراتب أحداثها، مقارنة بالتراكم الدقيق بالغ الرهافة للمعلومات التي تُشكل فهمنا للشخصيات وما يمرون به من متاعب.
أحسن ممثل: كوجي ياكوشو عن أيام مثالية Perfect Days
الجائزة الوحيدة التي اتفقت فيها لجنة التحكيم كليًا مع آراء النقاد والمتابعين، الذين أجمعوا على استحقاق الممثل الياباني للجائزة عن دوره في الفيلم الذي يعود به المخرج الألماني الكبير فيم فيندرز لصناعة أفلام روائية متميزة، بعدما كانت كل إنجازاته الملموسة في القرن الحالي من الوثائقيات، بينما انخفض مستوى إنتاجه الروائي كثيرًا.
الطريف أن "أيام مثالية" بدأ بعرض تلقاه فيندرز لعمل فيلم قصير عن شبكة الحمامات العامة في العاصمة اليابانية طوكيو، والتي تمتلك طيفًا مدهشًا من التصميمات المعمارية، لكن المخرج الكبير تمكن من تطوير الفكرة إلى فيلم روائي طويل ذي حس فلسفي، ومذاق إنساني خاص جانب كبير منه ينبع من أداء كوجي ياكوشو لشخصية بطل الحكاية.
عامل تنظيف حمامات عامة خمسيني، يعيش وحيدًا حياة بسيطة بشكل متعمد، صموت لا يكاد ينطق كلمة إلا إذا اضطر لذلك، متفان في عمله يمارسه بدأب ونشاط وكأنه يُحدث فارقًا في مسار البشرية، وقبل ذلك يحمل داخله روح فنان حالم وفيلسوف متأمل، يحمل كاميرا عتيقة الطراز ليصور صورًا فوتوغرافية لنفس الأشجار يوميًا، يقرأ الشعر والرواية، يستمع لأغنيات من مكتبته الموسيقية الحافلة، لكنه لا يعرف ما هو "سبوتفاي" ويعتقد أنه متجر ما لبيع شرائط الكاسيت!
تجتمع في الشخصيات تناقضات عدة، فهو لا يحب مخالطة الآخرين لكنه يمتلك قدرة استثنائية للتقارب مع البشر، يستمتع بروتين حياته المتقشفة لكننا نشعر أنه موقف قصدي يهرب به من ماضٍ نتصور بعض سماته عندما تظهر ابنة شقيقته لتزوره بشكل غير متوقع، فتغير قليلًا من نمط حياته وتجعلنا نفهم المزيد عن تكوين شخصيته.
لا تملك إلا أن تقع في حب هذا الرجل، وتتمنى أن تمتلك من القدرة على الاستغناء بما يجعلك تعيش حياتك مثله، ليس بالضبط في تنظيف الحمامات (وإن كانت حمامات طوكيو تحف معمارية تستحق فيلمًا لإبرازها بالفعل)، ولكن في تجريد الحياة المعاصرة من زحامها، والاكتفاء بما يُمتع ويُشبع الحواس ويريح الأعصاب.
أحسن ممثلة: ميرفي ديزدار عن فيلم عن العشب الجاف About Dry Grass
الجائزة كانت من حق ساندرا هولر كما أوضحنا عن دورين رئيسيين مؤثرين، لكن بما أن الفيلمين فازا بالسعفة الذهبية والجائزة الكبرى، فقد منعت اللائحة فوزها لتذهب الجائزة إلى اختيار منطقي وإن كان غير متوقع، في ظل كون الشخصية التي لعبتها الممثلة التركية الشابة في فيلم المخرج نوري بيلج جيلان ليست بطلة الفيلم، وإن كانت الشخصية النسائية الرئيسية فيه.
بطل "عن العشب الجاف" هو الرجل متوسط العمر، المعلم بمدرسة في قرية جبلية منعزلة، والذي تتهمه إحدى الفتيات بالتجاوز في التعامل بحميمية زائدة معها، مما يزيد من سخطه على القرية وأهلها وعلى الحياة كلها، وهو بالأساس شخصية أقرب لأن تكون كريهة منها للتعاطف، في اختيار درامي يواصل فيه بيلج جيلان تبنيه للشخصيات والمآزق التشيكوفية (نسبة إلى تشيكوف).
جانب من تعقد شخصية البطل يكمن في تلك الفتاة المعاقة، التي فقدت ساقها في حادث تسبب في وضع حاجز بينها وبين العالم، والتي تجمها صداقة ثلاثية بالبطل وصديق عمره ورفيقه في السكن، وعندما تُبدي إعجابها بالصديق، يُحفز ذلك موقفًا معاديًا من البطل الذي يقرر في تلك اللحظة أنه يريدها لنفسه، مجسدًا تركيبًا ذكوريًا بامتياز، فكل الرجال تقريبًا يجمعون هذا التناقض بين استعذاب العزلة وحب جذب الاهتمام.
البطلة الذكية تفهم تفاعلات الرجال حولها، لا تخجل من إبداء رأيها ورغباتها، وبالرغم من تحفظها على ما يحدث، تستمتع بحقيقة كونها المرة الأولى منذ تعرضت للحادث أن يدور حولها صراع كهذا، منبعه الإعجاب والانجذاب الجنسي لا التعاطف، وهو ما يظهر في مشهدي الحوار الطويل بينها وبين البطل (زمنه يقترب من نصف ساعة)، ثم مواجهتها للصديقين معًا، وهما بالتأكيد المشهدين اللذين ساهما في قرار لجنة التحكيم بمنح ميرفي ديزدار جائزة أحسن ممثلة.
اقرأ أيضا للكاتب:
فيلم "بنات ألفة".. وثنائية الشخصية والممثل على الشاشة
مهرجان كان يراهن ضد الصوابية بفيلم الافتتاح "جان دو باري"
برليناله 73: "بلاك بيري".. رحلة صعود وسقوط أول هاتف ذكي في العالم
أفلام كان 75: "عنكبوت مقدس".. قاتل يطارد العاهرات ويكشف المجتمع
لا يفوتك: تحليل النغمات مع عمك البات: تقييم أغنية "بعلنها" لهيثم سعيد
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5