لا يمكن لأي مهتم بالسينما العربية إلا أن يتابع بكثير من التأثر ما يحدث في السينما السعودية، التي لا يمكن أن يقتصر وصفها على الحراك الإداري المتمثل في تأسيس الهيئات والأطر القانونية، أو على دعم المواهب بما يتاح من برامج تمويل لصناع الأفلام الشباب والكبار، أو على الجانب التنظيمي بإطلاق المهرجانات وأسابيع الأفلام والأحداث الخاصة، وإنما يقترن الشق الأهم من الوصف بالأفلام نفسها، بهذا العدد الكبير من الأعمال متباينة القيمة التي صارت تأتينا كل عام من صناع وصانعات السينما السعوديين، والتي بات مهرجان البحر الأحمر السينمائي نقطة سنوية مثالية لاجتماع أغلبها وتقديمها لحضور المهرجان الكبير.
ومن بين عديد الأفلام القصيرة التي عرضها المهرجان في دورته الثانية (1-10 ديسمبر 2022) داخل وخارج المسابقات، كانت السمة الواضحة والمثيرة للدهشة، لاسيما لمن احتك بصناع الأفلام وتعرف عليهم على الصعيد الشخصي، هو ذلك التشابه الجليّ بين الأفلام وصنّاعها، فالأعمال لا تمثل فقط طيفًا واسعًا من الأشكال والصياغات السردية والبصرية، وإنما يقترن كل منها بشخصية صانعه، بهواجسه وذائقته الخاصة التي تتجسد على الشاشة، والتي نحاول في هذا المقال أن نضع يدنا على مجموعة من أبرز صورها، مع التأكيد أن هذه المجموعة المختارة لا تضم كل الأفضل في المهرجان، وإنما يجمعها بالأساس هذا التوافق بين الفيلم وصانعه.
رقم هاتف قديم
نموذج واضح على الاتساق بين الفيلم وصانعه، فإذا كان فيلم المخرج علي سعيد مأخوذًا عن قصيدة بنفس العنوان للشاعر العراقي الشهير مظفر النواب، متناولًا إياها من زاوية المرور بمرحلة منتصف العمر، والتمزق بين الذكريات والمستقبل، بين غواية الدنيا وسراب التوبة، فإن علي سعيد نفسه هو كاتب وشاعر بالأساس قبل أن يصير مخرجًا، وهو يعيش مرحلة منتصف العمر – على الأقل بحسب السن – ولا يخجل من الإعلان عن أن الفيلم تعبير شخصي وجماعي عن الفنان وعن جيله.
شباب السينما السعودية الذين تبدأ مسيرتهم المهنية بالتوازي مع الانطلاقة الكبرى التي تشهدها الصناعة يختلفون بطبيعة الحال عن بني الجيل الأسبق: الأربعينيين الذين نشأوا في عالم يلقنهم أن الفنون محرمة، أو على أحسن الفروض هي لذة مؤقته يمارسها المرء سرًا وللحظات في حياته المنشغلة بأمور "أهم"، ثم وجدوا الواقع يتغير وعليهم التوائم مع هذا التغيير.
لعل هذا هو الصوت الخافت في حكاية علي سعيد التي لا تمتلك حبكة واضحة على النمط الكلاسيكي، وإن أمسك بلحظة تمرد يمر بها حامد (بأداء مرهف من يعقوب الفرحان، الموهبة الكبيرة التي يمكن الرهان على مستقبلها الواعد بلا تردد). المفارقة هنا هي أن حامد يتمرد على التمرد، يرغب في البحث عن السلام الروحي بعد حياة يبدو أنها جمعت بين نقيضين: الصخب والتحفظ، عاش الشاب يُقدم رِجلًا ثم يؤخرها، وها هو قد صار كهلًا فاته زمن حياة الشباب، لكنه غير جاهز بعد لممارسة حياة الكهول.
مرثية سكون
عمل آخر ينطلق من همٍّ شخصي لمبدعه، ومن ذوق فني خاص يستقى عناصره من مشارب سينمائية وفنية شتى: أفلام الرعب النفسي، رسوم المانجا وعوالمها (المخرج ماجد زهير سمان عاش في اليابان ويتقن لغتها)، وبالطبع سينما المؤلف الذي يحول مشكلات يومه مادةً خام لعمل سينمائي يحمل تقديرًا كبيرًا للوسيط وأدواته.
أتحدث هنا عن تقدير الوسيط السينمائي في ظل حالة عامة لطالما سيطرت على السينما العربية، ثقافة ونقدًا، تُعلي من شأن الموضوع الذي يطرحه الفيلم، فتضع بذلك – وبسلامة نية – السينما في حيز واحد مع المقال والأدب والحكي الشفاهي، وكلها فنون لها تقديرها لكن الفنان السينمائي يمتلك أدوات أكبر بإمكانه توظيفها في خلق الحالة الشعورية – والفكرية بطبيعة الحال – التي يرغب في عرضها.
يُعاني المخرج من مرض طنين الأذن Tinnitus المزمن، والذي يبدو لمن لا يعاني منه عرضًا بسيطًا، فما الضرر من بعض الرنين يسمعه المرء داخل أذنه؟ لكن حقيقة الأمر، والتي يجيد ماجد سمان التعبير عنها بمزيج سمعبصري مؤثر أن الأمر كابوس مكتمل الأركان، غول يعيش ويتكاثر داخل رأس المريض فيحيل حياته جحيمًا، وكيان أقرب لوحوش أفلام الرعب يجعل حضوره الثقيل أمورًا مثل الانتحار وإيذاء الذات قرارات يمكن الإقدام عليها في محاولة يائسة لإيقاف الألم.
ما بين رسوم الجرافيتي والصور ثلاثية الأبعاد المخلقة رقميًا، وبين التعبير اللوني عن الحالة المزاجية، وبالطبع شريط الصوت الذي يحاول نقل معاناة الشخصية الرئيسية (يجسدها المخرج بنفسه) بصورة خلّاقة، يُقدم "مرثية سكون" عملًا مشغولًا باحترافية وصدق معًا. فيلم يوظف طاقات كبيرة لفنانين في تخصصات مختلفة، ويضع جهودهم جميعًا في خدمة الفيلم، وهي الوصفة الأسلم لصنع أفلام كبيرة.
أرجيحة
توضح الترجمة الإنجليزية النكتة في عنوان الفيلم لمن لم يدركها للوهلة الأولى: لفظ طفولي يمزج بين كلمتي "أرجوحة" الفصيحة و"مرجيحة" العامية، من البديهي إذن أن تسيطر الروح الطفولية على فيلم المخرجتين الشابتين رنيم ودانة المهندس. مجددًا الفيلم شبيه بمخرجتيه، طفلتين كبيرتين تحاولان تفسير مآسي العالم بعيون تجمع براءة الطفولة وسذاجتها.
تُقدم رنيم ودانة هنا على اختيار كبير هو تصوير فيلم غنائي، تحل الأغنيات فيه محل الحوارات، عارضتين زيارة طفلة لأرجوحة اعتادت الذهاب لها مع والدها والمزاح حول طريقة نطقها للكلمة، غير أن زيارة الطفلة هذه المرة مختلفة، كونها تزور المكان وحيدة بعد موت والدها الذي يسترجع شريط الصوت علاقتها المحببة به، وإدراك المأساة يجعل الرهافة مرادفًا لهول الفقد وعمق الألم.
الفيلم يحل لغزه مبكرًا عبر تفصيلة بصرية تكشف مصير الأب. هذا الكشف يزيد من ثقل الحقيقة على كاهل المشاهدين، لكنه في الوقت نفسه يلقي الحمولة الفيلمية بالكامل على جاذبية الأغنيات وجودة تصميم الاستعراض (الكوريوغرافي) وحدهما، وهو اختيار يخلق تحدي يستحق التحية وإن أدى لجعل الفيلم أشبه بالومضة التي تبرق لوهلة لكنها لا تنطلق من هذا الوميض نحو تعمُّق درامي في الحالة، لهذا وصفنا "أرجيحة" بأنه محاولة للنظر لمأساة الموت من عيني طفلة.
يتبقى ذكر أن الإشارة لأن الأب مات شهيدًا، والتي تحمل هي الأخرى ارتباطًا شخصيًا بالمخرجتين اللتين قامتا بإهداء الفيلم لقريب رحل بالطريقة عينها، إلا أنها حرمت المأزق من عموميته الإنسانية، فطفلة تفقد والدها هي مأساة مكتملة الأركان، سواء كان ذلك الأب بطلًا شهيدًا أو مجرد رجل اعتيادي مات دون بطولة.
عثمان
بعض الأفلام تصرخ - على بساطتها - بموهبة كبيرة تستعد للانطلاق، وهو بالضبط ما يُفصح عنه فيلم "عثمان"، أحد فيلمين قصيرين معروضين للمخرج الشاب خالد زيدان، الثاني هو "الطفل في خزانة ملابسه" الأقرب لتمرين منه لفيلم، فهو العمل الفائز بجائزة تحدي مهرجان البحر الأحمر لعمل فيلم خلال 48 ساعة، البرنامج الذي يشحذ مهارات صناع الأفلام الشباب ويدربهم على سرعة الإنجاز، لكن من العسير أن يسفر عن فيلم مختمر ومكتمل مثل "عثمان".
الجغرافيا والإيقاع هما الكلمتان السحريتان في الفيلم الذي تدور أحداثه في مسقط رأس المخرج بمدينة جازان، مدينة هادئة لدرجة الملل، بلا أحداث كبرى، يكاد كل من فيها يعرفون بعضهم البعض وتبدو – كغيرها من المدن الصغيرة حول العالم – مكانًا مثاليًا لتنتهي فيه حياة المرء بشكل خانق ودون إنجاز يذكر، لا سيما لو كان شابًا يعمل في وظيفة متواضعة مثل عثمان عامل الأمن في المستشفى (الممثل المحلي أحمد يعقوب بفهم واضح لطبيعة الدور وتوجيه ممتاز من المخرج).
شوارع وطرق ومباني جازان تلعب دورًا رئيسيًا في تأسيس الجو العام للفيلم، وفي البناء التدريجي للإيقاع الذي يختاره خالد زيدان لفيلم، إيقاع متثاقل ضاغط على الأعصاب، يحاول عثمان (الذي نراه منذ اللحظة الأولى يردد أغنية أمريكية تؤكد أن قدراته تفوق ما تسمح له حياته المحدودة من فرص) أن يجد في تكرار التفاصيل اليومية ملاذًا من الوصول للحظة انفجار، لكننا نعلم بطبيعة الحال أنه لو لم يبلغ هذه اللحظة، فلم يكن لهذه الحكاية أن تصلح موضوعًا لفيلم يتجاوز زمنه النصف ساعة.
نضج كبير يُظهره المخرج الشاب (الذي يظهر بشكل عابر في الفيلم كعامل أمن زميل للبطل)، مقدمًا صورة نموذجية لما تعنيه السينما المحلية التي ينشغل صاحبها بالحياة في مسقط رأسه، فينجح في التماس مع المشاهدين في كل مكان.
شريط فيديو تبدل
إذا كان "عثمان" يأخذنا في رحلة مكانية إلى بلدة سعودية، فإن "شريط فيديو تبدل" للمخرجة مها الساعاتي، والمتنافس في مسابقة الأفلام القصيرة للمهرجان، يقطع رحلة في الزمن إلى العام 1987، محاولًا الإمساك بلحظة ثقافية يذكرها كل من عاش عقدي الثمانينيات والتسعينيات: الهوس بالثقافة الغربية بينما كان شكل المجتمع نفسه شديد المحلية، زمن ما قبل العولمة عندما كانت مشاهدة فيديو كليب يضم بعض الفتيات الراقصات فعلة أخلاقية مشينة يُعاقب من يُقدم عليها.
في ذلك السياق الثقافي، وفي إطار الهوس بنجوم موسيقى البوب (تخترع الساعاتي مغنيًا افتراضيًا اسمه "كراون" يشير بوضوح – ولأسباب تتعلق بالحقوق طبعًا – إلى النجم الأمريكي برنس Prince)، تروي المخرجة حكاية تجمع بين مآزق التهميش العرقي والثقافي وبين براءة حب المراهقين الذي يقوم على تصورات حالمة ويحركه تبادل الأغاني الرومانسية.
يعلم البطل الأسمر، غير الاجتماعي الذي يعاني من تنمر أقرانه، أن الفتاة التي يُعجب بها مهووسة بالمغني كراون، وبعد انكشاف شريط فيديو يحمل أحدث أغنيات المغني الممنوعة، يتخذ قرارًا جنونيًا لا يعلم أنه سيتسبب في فضيحة تنفجر في مجتمعه المحلي بسبب "شريط فيديو تبدل".
غير أن أفضل ما في الفيلم هو إتقان مها الساعاتي للاحتفاظ بنبرة فيلمها، التي تحمل خفة ظل وطرافة لكنها لا تصل أبدًا لحدود التهريج، وإنما تظل داخل مساحة العبث الجاد، الذي يجعلنا نتعاطف مع البطل في المأزق الذي وضع نفسه داخله، ونسعد عندما ندرك أن الفضيحة ربما تصبح سببًا في بلوغه قدرًا من الثقة والتمكين لم يكن يحلم ببلوغه لو التزم بالمعايير المعتادة.
اقرأ أيضا:
ميريام فارس تتعرض للانتقادات بسبب رقصة جديدة لأغنية Tukoh Taka (فيديو)
دينا الشربيني: طلبت أم أجنبية عشان أمثل دور أخت شيرين رضا
إحالة محمد رمضان لمحكمة الجنايات بتهمة سب وقذف عمرو أديب
هل ندم خالد الصاوي على دوره في "عمارة يعقوبيان"؟ الفنان يرد بعد 16 عامًا
لا يفوتك: حلقة خاصة عن المطربة جنات في "تحليل النغمات مع عمك البات"
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5