قليلون هم من يؤمنون بقدرتهم على التحليق بعيدًا ، وقليلون جدًا من يحلقون بالفعل بعيدًا عن كل القيود التي يبنيها البعض كسقف للأحلام .
قبل 35 عامًا جاء عمرو دياب من بورسعيد، حاملًا في حقيبته حلمًا كبيرًا يسع السماء، وموهبة هي كل مايملك، ومخزون استراتيجي من الصبر والاجتهاد يكفي لكتابة سطور قصة نجاح خالدة.
وبين اللحظتين، اللحظة التي قال فيها "نفسي أبقى حاجة" قبل ثلاثة عقود، واللحظة التي وقف فيها منذ أيام فوق مسرح مدينة الاعلام بدبي يغني ويفرح ويضحك وخلفه الألاف من مختلف الجنسيات يغنون معه، بين هاتين اللحظتين هناك قصة طويلة لا يمكن اختصارها في كلمة نقد أو رأي حاد عن الموضوعية بحكم الزمن وعوامل التعرية.
اقرأ أيضًا للكاتب: عمرو دياب .. عن معنى "المشروع الفني" والزمن الذي أنصفه
لماذا أتذكر النقد كلما رأيت عمرو دياب محلقًا فوق مسارح العالم من الشرق إلى الغرب؟ لأنني ابن الجيل الذي تربي على صوته، وعاش معه معارك كثيرة شنتها أقلام كبيرة وأخرى صغيرة، وزملاء مهنة، ووجوه كنا نحسبهم قادة رأي. معارك كنا نقرأها على أغلفة المجلات وصفحات الجرائد، ثم كبرنا معها ورأينا نسخة جديدة من هذه المعارك عبر شاشات الموبايل، وفوق مقاعد جلسات "الهري" المسماه ببرامج "الهارد توك"، والتي تحولت مع الوقت إلى باب رزق لبعض الوجوه التي غربت عنها شمس الشهرة والأضواء.
أكتب الآن بعد أن هدأت العاصفة أو بمعنى أدق الزوبعة التي أثارها "أستاذنا" الإعلامي الكبير والمحاور "المعتزل" مفيد فوزي، ويعز علي حقًا أن أرى الأستاذ مفيد بعد كل هذا الزمن مغادرًا مقعد "المحاور" ومكتفيًا بكرسي "الضيف"، الذي تصطاده "مفارخ التريند" ليبيض لها قصة جديدة تدفع باسم المذيع وضيفه نحو دائرة الجدل، وعناوين المواقع ومنشورات مواقع التواصل.
ليعذرني الأستاذ مفيد فوزي على قسوة التوصيف، فهو ابن الجيل الذي علمنا أن قيمة النقد في قسوته، ونزاهة الكلمة في صراحتها، ورجاحة الرأي في موضوعيته، ولهذا أجدني أطرح بعض الأسئلة بعدما سمعت ماقاله عن مشوار عمرو دياب، معزيًا نجاحًا مدويًا ممتدًا لثلاثة أجيال على أسباب أخرى لا علاقة لها بالفن والموهبة والخبرة.
من حق الأستاذ مفيد أن يُعجب بصوت ويكره آخر مثلما قال من قبل أنه لا يحب صوت أم كلثوم ويفضل فيروز، ورغم أنني كمشجع "كلثومي" الهوى والمزاج أقول "حاشا لله" أن يأتي صوت على وجه البسيطة كصوت "الست"، إلا أنني أيضًا تفهمت وقتها اعتبارته التي لم تخل من رائحة "طائفية" لا مجال للخوض فيها الآن.
ولكن في ذات الوقت نصب الأستاذ مفيد نفسه وصيًا على ذائقة ثلاثة أجيال تقريبا هي جيل عمرو، وجيلي، وربما جيل إبني الذي لم يتجاوز عامه الرابع عشر ويسمع عمرو دياب أيضًا. هل يجهد الأستاذ مفيد نفسه قليلًا ويبحث عن تفسير حقيقي لنجاح فنان عبر ثلاثة أجيال وربما أكثر؟
ألم يفكر الأستاذ مفيد في سر انتشار أغنيات عمرو دياب وترجمتها لعشرات اللغات؟ هل نجحت "نور العين " و "تملي معاك"، وغيرهما من الأغاني التي وصلت لوجدان المستمع العربي والأوروبي والهندي والأمريكي والياباني بسبب "الحظ والموديلز والعضلات" فقط؟
هل فكر الأستاذ مفيد في السر وراء نجاح أغنية قد لايعرف المستمع في "الهندوراس" من مطربها، ولكنهم أحبوا صوته وتفاعلوا مع إيقاعاتها وأطربت ألحانها مسامعهم ؟!
هل يعترف الأستاذ مفيد فوزي للمرة الأولى، وربما الأخيرة بأن الاستمرار على القمة لأكثر من 30 عامًا من المستحيل أن تصنعه الصدفة، أو تسوقه لنا العضلات، أو تضيئه مجرد موديل في كليب؟
هل يجد الأستاذ مفيد تفسيرًا صحفيًا ونقديًا لفنان اقترب مشواره الفني من عامه الأربعين ومازال هو أول المجددين، وأكثر نجوم الساحة شغفا نحو العمل وإحياء الحفلات والغناء هنا وهناك؟
هل يفهم الأستاذ مفيد كيف نجح عمرو دياب في الإبحار وسط الموجات العنيفة التي ضربت شواطيء الموسيقى وجرفت الذوق العام من حين لآخر، بينما هو مستمر وقادر على مخاطبة كل مرحلة بلغتها وفلسفتها؟
هل يصدق الأستاذ مفيد أن عمرو دياب الذي يغني كل أسبوع في عاصمة عربية مختلفة، هو في الحقيقة شريان رئيسي يضخ هويتنا المصرية وقوتنا الناعمة وفننا وثقافتنا في الجسد العربي، وفي وعي أجيال جديدة من المستمعين العرب من المحيط إلى الخليج؟
هل يتخيل الأستاذ مفيد أنه لولا إسم "عمرو دياب" المطلوب دائمًا في المهرجانات والفاعليات الغنائية الدولية والعربية الكبرى لتوارت عبارة "المطرب المصري فلان الفلاني" فوق مختلف المسارح؟ وهذا ليس انتقاصا من أصوات أخرى، ولكنه رصد حقيقي لوضع الأغنية المصرية على الساحة الآن ، وحقيقة دامغة شاهدتها بعيني في أكبر المهرجانات الغنائية العربية.
دعني اسألك يا أستاذ مفيد لماذا تصر على إطلاق رصاصاتك "الفارغة" نحو نجم يمتلك رصيدًا ومنجزًا فنيًا لم يحققه أي من أبناء جيله، وربما أجيال سبقته، بينما تصمت نصائحك وانتقاداتك أمام الأصوات التي اختفت بإرادتها وهي تملك كل مقومات النجاح.
هل تعلم يا أستاذي لماذا؟ لأن عمرو دياب ببساطة كسر الأعراف التي ربيتمونا، عليها بأن للنجاح تاريخ صلاحية، وأن للأحلام عمر افتراضي، لأنك آمنت بذلك يا أستاذ مفيد اعتزلت بارادتك وتخليت عن "لقب المحاور" منذ عشرين عامًا، بينما ظل العملاق "لاري كينج" على سبيل المثال نجمًا متجددًا منيرًا مبدعًا حتى آخر يوم في حياته.
صدقني يا أستاذ مفيد القصة ليست رأيًا في فنان، وأغلب الظن أن عمرو دياب المؤمن أنه قادر على التحليق بعيدًا هو في حد ذاته "فكرة" استمرارها قد يؤرق البعض، ولكن "الفكرة" لاتموت.
اقرأ أيضًا لمصطفى حمدي:
الأفضل في موسيقى 2021 .. كثير من الصخب قليل من التجديد
40 سنة "شبابيك" .. "الحكاية والحواديت" وراء الألبوم التاريخي لـ محمد منير
عندما اختار المستمع أن يشرب قهوة "في حتة بعيدة" مع حمزة نمرة