أقف أمام المرآة ممسكًا في يدي ماكينة الحلاقة "الجيليت" ، وزعت كمية لابأس بها من كريم الحلاقة فوق خدي وشاربي ، لا أعرف إن كنت جادًا في حلاقة لحيتي التي بالكاد يُزهر خضارها ، في هذه المرحلة نتحسس تفاصيل ذكورة تنبت في مقدمة المخ لتقود سفينه مراهق مجنون باحث عن الإختلاف ، يقضي يومه بين ألبومات منير وعمرو محي وحميد ويهرب من كتب الثانوية إلى سلسلة ماوراء الطبيعة لأحمد خالد توفيق.
يومها توقفت طويًا أمام المرآة ، كنت مترددًا دون سبب واضح ، بالتأكيد لم أتذكر الحكمة الانجليزية التي تقول : "الحرية تقاس بكم الأشياء التى تخاف أن تفقدها" ، لن أندم على فقدان لحيتي وشاربي ، ولكن الاحتفاظ بهما بعد 20 عامًا أصبح موضة تدفعك للندم اذا تخليت عنها وعن اعجاب فتاة عشرينية بشعيرات لحيتك البيضاء .
نرشح لك- سمير غانم .. ملك "الهلس" الذي نحبه
كانت أمي تمنعني من تشغيل الكاسيت في الحمام ، أمام مسميات الحرام ، واستجلاب اللي يجعل كلامنا خفيف عليهم ، كنت أضرب بكلامها عرض الحائط وأضع سماعات "الووكمان" في أذني لأنهي مهمتي بمزاج ، تجزم أمي أن هناك عفريتا لبسني منذ ذلك الوقت ، ولا أنفي تلك التهمة بل أؤكدها : طبعا عفريت الشغف .
يتسلل صوت محيي إلى خلايا العقل مضيئًا الضوء الأخضر في اشارة الذكريات ، فتمر المشاهد والحكايات بارتباك مثلما هو الحال في إشارة روكسي ، مسخرة أن تتحول قصة حب قصيرة عمرها خمس مكالمات هاتفية لمراهق إلى ذكرى حقيقية ، استدعاء الذكريات عادة قاتلة تصاحبني منذ الطفولة حتى الآن ، لم أتعلم من الحكمة الصينية التي تقول : " الذكريات مثل أطباق الشوربة الرديئة في المطاعم الرخيصة ، من الأفضل ألا تحركها " ، تتناول الحساء الرديء فتصاب عادة بالقيء والإسهال ، أما اجترار الذكريات فيصيب خططك المستقبلية بشلل مروري تام ، عندها ستجد نفسك مؤمنا بمقولة ويللا كاثر: "بعض ذكرياتنا أفضل من كل مايمكن ان يحدث لنا ثانية" ، لاتصدقها واقنع نفسك بمقولة تامر حسني : " لسه اللي جاي أحلى" حتى لو لم نرى أي حلو من يومها .
يجيد محمد محيي إعادة صياغة ذكرياتك وتشكيلها بمرور الزمن ، مر عشرون عامًا على أغنية "شارع الهوى" ، ولكن قبل خطبة أختي الصغرى بأيام طافت في خيالي ، وهل كل مافعلته في حياتي مع بنات الناس فعلته أختي مع خطيبها الذي أصبح زوجها الأن؟
مرسي السيد الملقب بشاعر المصريين كتب الأغنية ضمن مجموعة قصائد شعرية كان يلقيها كفواصل ضمن ألبوم "معرفتك انتحار" لعلي الحجار والذي صدر في مطلع الثمانينات ، ولكن قصيدة "شارع الهوى" لم تطرح في الألبوم لجرأتها المبالغة ، ولكن الألبوم ضم قصيدة " ده اللي انتي طايره بيه " والتي غناها محيي أيضًا تحت اسم "نداء" ، وهي القصة التي ربطت بين محيي ومرسي السيد ، سمع المطرب الشاب قصيدة "نداء" فذهب لبيت مرسي السيد فرفض التعاون معه في البداية ، وكرر محيي الزيارة بالحاح فشعر مرسي أن هذا الشاب يملك شيئًا مختلفًا ، وأخيرًا وافق على منحه الأغنية التي صدرت في ألبوم "روح قلبي" عام 1994 ، بالمناسبة نفس الألبوم ضم أغنية "الصبر جميل " من كلمات الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم ، والذي رفض هو الآخر التعاون مع محيي في البداية ولكنه وافق بعد إلحاح ، وكأن محيي كان يثبت وقتها أن صوته لن يغني سوى كلمات الكبار فقط .
سمع محيي أغنية شارع الهوى ، فطلب من مرسي أن يغنيها، رفض الشاعر في البداية خوفًا من عدم فهم الجمهور لها ، ولكن محيي أصر ولحنها محمود طلعت ووزعها فهد . يحكي محيي أن محمد منير سمع الأغنية خلال تسجيلها فقال له : "أنت مجنون يابني .. ايه اللي هتغنيه ده ؟ " ، حاول الجميع إثناؤه عن قراره ولكنه أصر ، صدرت الأغنية وكنت الوحيد تقريبًا بين أقراني الذي أحبها . ذات مساء ضحك صديقي هاني عندما أدرت الكاسيت لأسمعه الأغنية ، قال لي لفظًا خارجًا أعقبه بمقولة لن أنساها : "هذه الأغنية اختصار للحكمة الشهيرة اللي عنده معزة يربطها" ، مرت سنوات كثيرة حتى احتلت هذه المقولة "تريند" السوشيال ميديا بسبب مداعبات بين طفل وطفلة في المرحلة الابتدائية ، وانتشر الفيديو تحت مسمى ترويجي سوشيالي شهير " مقطع عبد الرحمن والمعزة ".
في كل قصص الحب يلعب أهل الملامة دورًا مهمًا ، هؤلاء الأصدقاء من هواة كتابة روشتات العلاقات الناجحة بحثًا عن إجابة للسؤال الشهير : كيف تنجح قصة حبكما ؟ فنجد أنفسنا في النهاية نبحث عن إجابة لسؤال واحد هو : كيف نفترق بأقل خسائر ممكنة ؟
يغني محيي "أهل الملامة فرقوا بينا ياطير" ، فأتكذر نصيحة صديقة لحبيبة سابقة : " استمرارك معاه انتحار ، انتي تستحقي أحسن من كده "، آمنت البنت بكلامها وانسحبت بحثًا عن الأفضل فلم تجده ولم تجدني حتى الآن ، ترن الكلمة في أذني فأتخيل هذه الصديقة مثل "الزومبي" الذي اختاره المخرج طارق العريان بطلًا لأول كليب رعب رومانسي ، اختصار أهل الملامة في صورة الدجالين والمشعوذين خلال الكليب أفقد الأغنية عمقها ، ولكنه منحها قدرًا لابأس به من الجدل ومساحة مناسبة لـ " الألش" بعد سنوات .
لا أومن بمقولة أوجين أونيل : " ذاكرتنا تتمسك بإصرار شديد بالذكريات الكريهة المنفرة .. أما الأشياء الجميلة فلابد أن نكتبها في مفكرتنا حتى لا ننساها. " ، لدي في كل قصة قائمة طويلة من الذكريات الجميلة ، ولكن يبدو أن محمد محيي مصر على استبدالها بالوجع ، عندما يغني "أعاتبك" لا أتذكر ما فعله الأخرون بي ، ربما يستيقظ ضميري لينشر في جدار الروح بقوة وهو يؤنبني على لحظات التخلي التي مارستها بدم بارد ، كم مرة قالت لي انصفني فخذلتها ؟ آخر مكالمة قالت فيها : " أريد رؤيتك الأن وإلا سأنتحر " ، اعتبرت الطلب تهديدًا أحمقًا ، ولكنني تعلمت بعدها ألا أستخف بتهديد أمرأة مادمت حيًا .
أعاتب نفسي على الويل والجراح والعمر اللي راح يامحيي ، وأعاتب نفسي أنني لم أكتشف عبقرية عصام كاريكا كملحن إلا متأخرًا جدا ، بعدما صدر للأجيال الجديدة صورته كـ"شنكوتي" ، عصام كاريكا ملحن عبقري بدأ حياته مديرًا لفرقة حكيم ، وملحنا لأغنيته الشهيرة "بيني وبينك" ، ثم قدم ألحانا متنوعة بين الدراما والرومانسية أشهرها "وهي عاملة إيه دلوقتي" لعمرو دياب .
طرح محيي اعاتبك عام 1993 فكانت أيقونة المرحلة ، وسط نجاحات راسخة لعمرو دياب ومحمد فؤاد ، شق معها محيي طريقة كنجم قادم بقوة ، ولكنه تخلى عن تلك النجومية مترفعًا عن السعي وراء الحفلات والأفراح ، كان فقط يختار ما تميل له ذائقته ، وهو بذلك لامس مشاعر كثيرة ظلت محتفظة به في درج الذكريات ، تحن إلى صوته من حين لآخر ، فتنفض عنه تراب الأيام وتعيده للحياة .
يغني محيي "وصوا الأيام عليا " ، فأقطع الطريق من القاهرة الى الإسكندرية وأنا أفكر فقط في حكمة الأغنية " لو كان حكم القدر انك تفضل ياقلبي تايه طول السنين ، تدور على المحبة في بلاد فيها الأحبة نسيوا الشوق والحنين" ، وما العمل ؟ لا حيلة متاحة سوى الرضا بالنصيب ، والرضا مفتاح يضمن إغلاق باب الذكريات بشكل مُحكم ، لا تصدق من قال لك أن صناعة ذكريات جديدة ستمحوا الماضي ، هي فقط تنقلها للأرشيف ، وهو مكان في الذاكرة يفتح أبوابة للزوار فقط في أيام الفراغ ، والفراغ قاتل تسلسلي يمارس هوايته بالفتك بك قطعة قطعة ، يذبح ارادتك ، ثم يخنق حماسك ، قبل أن يسمم شغفك ببطء إلى أن تنهار قواك فيتركك أمام الناس خيالًا لشخص بالكاد يتذكرون أنه مر من هنا .
تقول الكاتبة البريطانية إليزابيث بوين : إن سحر الذاكرة وعبقريتها أنها متعنتة صعبة الإرضاء .. متقلبة غير مأمونة العواقب .. أحياناً ترفض أشياء عظيمة فاضلة.. على حين تطبع صوراً واضحة لأشياء صغيرة تافهة " ، ولهذا أؤمن أن من يجيدون صناعة التفاصيل الصغير في حياتنا هم فقط من سيبقون في الذاكرة .
اقرأ أيضا:
والناس نايمين... سميرة سعيد تطرح بوستر أغنية "الساعة اتنين بالليل"
رئيس لجنة مكافحة كورونا يكشف تطورات الحالة الصحية لـ دلال عبد العزيز ووائل الإبراشي