مع تحول السينما من صامتة إلى دخول شريط الصوت عليها، أصبح الحوار بين الممثلين جزءا من هذا الفن، لكن يختلف الصناع والنقاد بشأن مساحته في العمل، والاعتماد عليه في توصيل المعنى.
فالحوار، مثل الديكور وحركة الممثلين وزواية التقاط المشهد وغيرها، يجب أن تكون موظفة دراميا، بحيث تخدم الصراع، فهي وسيلة وليست غاية.
فالصورة الجميلة التي يراها المشاهد على الشاشة وتكوين الكادر ليست ذات أهمية ما لم تضف للدراما، والأمر نفسه ينسحب على الحوار.
وبعض الأعمال تعاني من ضعف بسبب استخدام الحوار بشكل مبالغ، والاعتماد عليه لشرح الصراعات وتبرير تصرفات الممثلين، بسبب عدم القدرة على صياغة الدرامية، التي تكشف ذلك.
كما يميل بعض الكتاب لاستخدام الحوار على لسان أحد الشخصيات لتأكيد معانٍ معينة أو التعبير عن موقف المؤلف، وقد أثير جدل كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع عرض مسلسل "القاهرة كابول" للمؤلف عبد الرحيم كمال بسبب شخصية حسن "نبيل الحلفاوي"، التي تشغل مساحة واسعة في الحلقات بالحوار، وتعطي الكثير من النصائح والحكم والمواعظ، لأبطال العمل ظاهريا، لكن هدفها توصيل رسائل باستمرار للمشاهد.
وفكرة الحكيم أو المُعلم أو المرشد ليست جديدة، فهي موجودة دائما في الدراما المصرية وأيضا الأجنبية، لكن يختلف توظيفها وتقبلها من عمل لآخر، ويضعها الكثير من الكتاب لتكون لسان حالهم ومعبرة عن آرائهم، وأحيانا أخرى للتأكيد على المعنى أو "الرسالة" التي يهدف لها العمل.
وهناك بعض النماذج الحاضرة في أذهان المصريين عن الشخص الحكيم أو الواعظ، من أشهرها شخصية وفائي "حسن حسني" في مسلسل أرابيسك، للسيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة، فـ"وفائي" هو الشخص الذي يدرك تاريخ مصر، وينتهل أبطال العمل حسن أرابيسك أو ممتاز محل أو الدكتور برهان من علمه.
ومثال آخر هو شخصية الدكتور إمام "رشوان توفيق" وعباس الضو "عبدالله غيث/ حمدي غيث" في مسلسل المال والبنون، للسيناريست محمد جلال عبد القوي، فالأول هو شخص مثقف يمتلك ناصية الحكمة، والآخر هو صوت الضمير، وفي المشهد الشهير ليوسف "أحمد عبد العزيز" وهو يعذب بعد أسره، بعد أن يذكر أسماء الأنبياء والشخصيات التاريخية، يختتم المشهد قائلا: "الدكتور إمام بيقول لا، عم عباس الضو بيقول لا"، في إشارة إلى كونهما ضميرين من ضمائر وحكيمين من حكماء الوطن.
وفي مسلسل الجماعة للسيناريست الراحل وحيد حامد، اعتمد الكاتب على شخصية المستشار عبد الله كساب "عزت العلايلي" ليكون حكيم وضمير الوطن وشاهدا على تاريخ الجماعة، وملقنا للجيل الجديد عن تاريخ الجماعة الدموي.
وهناك نموذجان في مسلسل رحلة السيد أبو العلا البشري، وهما أبو العلا البشري نفسه "محمود مرسي" المصلح والفارس في عصر انتهت فيه الفروسية، ومصطفى سعفان "صبري عبدالمنعم" أستاذ التاريخ، الذي كان يسخر من أبو العلا.
وما زال حتى الآن حكم ومواعظ إبراهيم سردينة "عبدالرحمن أبو زهرة" في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي" للسيناريست مصطفى محرن، باقية في أذهان المصريين، وأصبحت مادة لصناعة "الكوميكس" على مواقع التواصل الاجتماعي، وكان سردينة مرشدا لبطل العمل عبدالغفور البرعي "نور الشريف" في رحلته.
وبشكل أساسي اعتمد الفنان محمد صبحي في الكثير من أعماله الدرامية، منها ونيس بأجزائه وغيرها، على تقديم نفسه حكيما وواعظا، وهي نماذج مختلفة للشخص المثالي الحكيم الملقن والمرشد لكل من حوله.
ولم تكن الأمثلة المذكورة سلفا إلا نماذج لشخصيات متكررة في الدراما المصرية، للرجل الحكيم، لكنها مختلفة عن بعضها البعض في مدى التوظيف الدرامي، والهدف من وجودها.
الناقد محمود عبد الشكور يرى أن شخصية الحكيم أو المُرشد ليست سيئة في مطلقها، ولكن يجب توظيفها فنيا بما يخدم الدراما، فقد تعامل مع أناس كثيرين هذه طريقتهم في الحديث دائما، عند إثارة أي موضوع، بالتحدث لمدة طويلة والتأصيل للحكاية والاستفاضة في شرحها، حسب وصفه.
ولم ينزعج "عبدالشكور" من شخصية حسن في مسلسل "القاهرة كابول"، كما أنه يثني على اختيار نبيل الحلفاوي، لأنه تمكن بقدراته التمثيلية من تخفيف حدة التلقين.
وقال إن المشاهد الطويلة كانت أحد عيوب العمل، فقد كانت تحتاج إلى تقسيم، منها مشهد المقهى، لكنه غير معترض على مضمون ما جاء بالمسلسل.
وأشار إلى أن بعض الكتّاب يلجأون لوضع شخص معبر عنهم، وهي موجودة بكثرة عند الراحل أسامة أنور عكاشة، فالسفير أبو الغار هو أسامة، وأبو العلا البشري هو أسامة أيضا، الذي يحارب طواحين الهواء فهو شخص بمفرده في مواجهة جماعة الشر، ولذا كان يسخر منه مصطفى سعفان "صبري عبدالمنعم"، ليس لأن تصرفه خاطئ، ولكنه لأن الخير يحتاج إلى عصبة.
ولفت إلى أن شخصية مثل وفائي كان هدفها نقل التاريخ للأجيال الأصغر منه، موضحا أن محمد صبحي لم يقدم الفكرة بشكل جيد في أعماله.
وراى أن البعض متأثرا بمدرسة بريخت في تعليمية المشاهد، لكن تطبيق نظرية بريخت التي تمردت على المسرح اليوناني تتطلب توفير كل عناصرها، فهو كان يكسر الإيهام ويتفاعل مع الجمهور، ويجعله جزءا من مسرحيته، كما أنه كان مسرحا ملحميا وثوريا.
في السياق نفسه، يرى الناقد أندرو محسن، منسق المكتب الفني لمهرجان القاهرة السينمائي، أن الشخص الحكيم يجب أن يكون له خط درامي واضح، ويخدم العمل بشكل قوي.
ولم يتفق أندرو مع عبدالشكور، إذ قال إن شخصية حسن في القاهرة كابول ليست موظفة دراميا بشكل جيد، مضيفا أن الحوار نفسه في أغلبه "كلاسيكي" وليس عميقا، وأن نبيل الحلفاوي رغم كونه ممثلا هائلا، لكنه لا يجد ما يقدمه في الشخصية.
ودلل محسن على رأيه بقوله أن شخصية المُرشد موجودة في الأعمال الدرامية الأجنبية، لكن يختلف توظيفها في أغلبها عن الدراما المصرية.
وقارن بين شخصيتي حسن في "القاهرة كابول" والشيخ عبدالقادر "إبراهيم فرح" في مسلسل الخواجة عبدالقادر، فكلاهما للكاتب نفسه، مؤكدا أن الأخير كان موظفا دراميا بشكل جيد، وشخصيته كان تتطلب الظهور بهيئة الحكيم والمعلم.
وأوضح أن أحد سمات الشخص الحكيم أنه قليل الكلام، لكن شخصية حسن تسترسل في إلقاء الحكم والمواعظ.
وأشار إلى شخصية المرشد في أفلام الأجنبية مثل "Star wars" هي موجهة للبطل، كان يمكن تقبل شخصية "حسن" في حالة كونه شخصية ثانوية متصلة بالأبطال، تظهر في مشاهد أقل.
ولا يرى أن هناك أي تأثير على الأحداث إذا حذفت مشاهد حسن، موضحا أنه لا يعرف ماذا يفكر كل كاتب عند وضع شخصية الحكيم، لكن في الأغلب لتمرير رسائل ومعاني للمشاهد.
وعن الشخصيات التي ظهرت قديما في الدراما، فأوضح أنه ما كان يتقبل في الماضي قد لا يتقبل حاليا، لو عُرض مسلسل المال والبنون الآن لن ينجح بالشكل نفسه.
ويتفق مع معظم ما قاله محسن، الناقد عصام زكريا، المدير الفني لمهرجان الإسكندرية، قائلا إن شخصية الحكيم سمة أساسية في الدراما المصرية.
وأضاف أن شخصية الملقن والمرشد له وظيفة درامية، لكن في أغلب الأعمال المصرية يكون مجرد واعظ دون مناسبة للتعبير عن أفكار الكاتب.
ويرى أن هذا فخ يقع فيه الكثير من الكتاب، للتعبير عن أفكاره خارج السياق الدرامي، أو للتأكيد على المعنى في مواقف أخرى.
وأكد أن الدراما يجب أن توصل المعنى بمفردها وليس بمساعدة شخصية، فالتعبير عن جملة "الجريمة لا تفيد" تكون بالأحداث، وليس بشخص يقول ذلك.
ولفت إلى أن الحكيم في أغلب الأعمال الأجنبية يكون دوره توجيه البطل للطريق الصحيح، أو تسليط الضوء على عيوبه من خلال حوارهما، ويكون لهذا الكلام دور في الدراما، فحين تخطئ الشخصية الرئيسية تتذكر هذا الموقف، فيتغير مسار الأحداث، والفرق بين الأمرين مسألة دقيقة جدا تتطلب مجهودا وقدرة كبيرة من السيناريست، وشخصية حسن لم تكن موظفة دراميا بشكل جيد.
وأضاف أن ظهوره شخصا مصريا وسطيا، وأفعاله تدل على ذلك كانت كفيلة بتوصيل المعنى، لكن ظهور حسن في المسلسل يرتبط دائما بالاسترسال في الحديث والحكمة، حتى في المواقف التي لا تتحمل ذلك، مثل مشهد المستشفى.
وأوضح أن الشخصيات الأخرى للحكيم التي ظهرت في بعض الأعمال القديمة كانت أقل حدة من شخصية حسن، لكنه كانت نقطة ضعف أيضا في هذه الأعمال.
ولفت إلى أن مسرح بريخت مختلف، فهو كان يخرج عن النص ويكسر الإيهام ويشرح للجمهور سبب الصراعات، التي لا يعرفها حتى أبطال العمل نفسه.
وأوضح أن شخصية المرشد في الأعمال الأجنبية مختلف، فالبطل هناك لا يولد بطلا دون عيوب كما في أغلب الأعمال المصرية، فيحتاج لشخص مرشد يوجه ويعرفه القواعد لكي يحقق البطولة والانتصار، مثل "Star wars" أو "Matrix".
وأكد أن أعمال محمد صبحي التي ركزت على التعليمية وتوجيه الرسائل لم تكن جيدة فنيا، موضحا أن هناك نظرة عامة عند الكثيرين بأن الفن يجب أن يحمل رسالة وحكمة، وهو ما يجعلهم يتورطون في هذه الشخصية.
واختتم حديثه بأن أعمال التحريك الأجنبية الموجهة للأطفال تخلو من هذا الإرشاد المباشر، ولكنها ما زالت موجودة في الأعمال الدرامية المصرية.
اقرأ ايضًا:
انتقاد عنيف من رضا عبد العال ضد موسيماني: مدرب "هجاص" وبيكسب ضربة حظ
رامز جلال يسخر من الزمالك في حلقة نهلة سلامة... فماذا قال؟
استفتاء "في الفن"- طارق الشناوي: كريم عبد العزيز ومنى زكي و"الاختيار2" الأفضل