في اللغة العربية تأتي كلمة "مُحِن" كمعنى وإشارة للشخص الذي يواجه المِحن والأزمات، لكنه في تحول واضح لإعادة استخدام المفردات باتت كلمة "مُحِن" إشارة للحبيب الذي يغالي في إظهار الضعف والرومانسية، فهل كان هناك الفعل قبل أن يظهر المسمى؟
لا تخلو الأفلام من قصص الحب، فكل حكاية مهما كان موضوع الفيلم ونوعه سنجد قصة حب، وسنرى الحبيبان حسب موصفات عصرهما.
عبد الحليم حافظ ومواصفات جديدة للحبيب
خطّ عبد الحليم حافظ سمات جديدة للحبيب، ربما بمراجعة مصلحات عصرنا الحالي يمكن أن يُنصب العندليب بالممحون الأشهر وربما الأول، إذا عمل العندليب في مشروعه الغنائي والسينمائي على صورة جديدة عن البطل، فهو الضعيف/ الفقير/ المريض/ المظلوم / اليتيم.
هو دومًا الطرف الأضعف، المبالغ في الرومانسية، نراه في فيلم أيام وليالي مع الفنانة ايمان، هو يحيى الذي يربيه زوج أمه، وهو المحب الذي لا يتمكن من إيجاد فرصة لمقابلة حبيبته إلا عندما يساعده صديقه، وهو الذي يتحمل خطأ أخيه لينقذ صديقه، أما في فيلم الوسادة الخالية فهو صلاح الطالب الفاشل الذي يقع في حب فتاة يتعرف عليها في معرض للطالبات، ويدفعه الحب للنجاح، لكن لأنه في مقتبل العمر تفشل قصة الحب، ويظل طيلة الأحداث يسعي للفت نظر الحبيبة السابقة والكشف عن كونه نجح وحقق ما ينقصه.
اقرأ للكاتبة : القبلات في السينما تاريخ من القبول والرفض
خلال ثمانية عشر فيلمًا قدم عبد الحليم صورة الحبيب الضعيف والأقل والمهزوم، وانعكس ذلك علي أغانيه وما قدمه، فكان المقابل للضعف والانهزام هو المبالغة في إظهار المشاعر، والرومانسية المفرطة نجد علي سبيل المثال أغنية قولي حاجة وفي كلماتها "قول بحبك .. قول كرهتك بس قول أي حاجة" تميز عبد الحليم بهذه الطريقة دون غيره، فنظرائه من المطربين لم يقدموا هذه الصورة للحبيب، فسنجد محمد فوزي يقدم حبيب من نفس درجة المحبوبة وربما يعلوها، وبرغم الرومانسية والأغاني العاطفية، ففوزي لا ينسحق في مقابل حبيبته، نجده في أغنية "حبيبي وعنيا" يقول "حبيبي وعنيا لو في وسط مية ما يغلاش علي ابدا ما يغلاش علي" ففي حين تبارى مطربي السينما حتي السبعينات في تقديم صور مختلفة للحبيب اضطلع العندليب وحده بصورة الحبيب الأكثر رومانسية والأكثر ضعفًا لا ينقذه سوى الحب والمبالغة في اظهار ضعفه وحبه، حتى يصل إلي النهاية السعيدة المرجوة.
سينما النهايات السعيدة
دأب الجمهور التعامل مع السينما بوصفها مساحة السعادة والترفيه في حياته، ومن ثم كانت النهايات السعيدة هي الحافز والمكافأة التي يمنحها صُناع الفيلم للجمهور الذي سيعيش قصص حب فاشلة في بداياتها، أو أن معطياتها تؤول إلي الفشل، ومن ثم كان من الضرورة أن ينتصر الحب.
مع نموذج الحبيب المهزوم أو الضعيف التي قدمها العندليب، تنوعت صورة الحبيبة حتى تتلون المأساة بأشد درجاتها صعوبة، وليغالي العندليب في إظهار الفتي المهزوم، ففي فيلم حكاية حب والذي قدمه أمام مريم فخر الدين، هو المدرس الفقير، وهي ابنة الطبقة الثرية، والتي تتحمس له وتسانده في أولى تجاربه الغنائية في إحدى الحفلات، ولكنه لا يجرؤ على البوح بحبه لها، وتمضي الأحداث ليتحقق له عن طريق المصادفة فرصة الغناء في الإذاعة ويبدأ طريق الشهرة، ليكون في مكانة تليق له بالاعتراف بحبه، وحين يحدث ذلك يكتشف أنه مريض بمرض خطير، لتكون المأساة حاضرة دومًا، حتى اللحظات قبل الأخيرة من الفيلم.
كذلك في فيلم شارع الحب، فهو عبد المنعم الصبي اليتيم الذي يلوذ إلي صديق والده، وبعد دراسته للموسيقي يضطر إلى انتحال صفة مدرس عجوز، وحين يقع في حب كريمة (صباح) فهي الثرية حفيدة الباشا، وكلما تجاوزا محنة ظهرت أخرى وصولًا بمحاولة غنائه في حفل الأوبرا.
نلاحظ دومًا أن النجمات/الحبيبات اللواتي يظهرن أمام العندليب لابد أن تكسرن القواعد وتُصبحن أكثر ضعفًا أمام حبه، وتحاولن دفعه للترقي حتى يصل لمكانتهن، ولابد للحبيبة أن تكون رقيقة، مسالمة، مقدرة للتضحية، لذا لن تجد عبد الحليم بطلًا أمام هدى سلطان فهي صاحبة الشخصية القوية، الحبيبة التي مهما ضعفت يكون ضعفها دلالًا وشركًا للحبيب، ولن يكون الحبيب أمام مديحة يسري التي قدمت المرأة صاحبة عِزة النفس والشموخ مهما تورطت في الحب، حتي عندما قدم دور الحبيب أمام فاتن حمامة في فيلم موعد غرام، استدعى التطور الدرامي أن تنهزم البطلة وتُصاب بشلل يجعلها تشعر بالضعف، أما في فيلم أيامنا الحلوة وبرغم كونه حب من طرف واحد، فقد قدمت فاتن حمامة الفتاة اليتيمة الفقيرة، وحين نبض قلبها بالحب، ظهرت عليها أعراض مرض السل، وتنتهي الأحداث بوحدة الأصدقاء وإشارة خافتة إلي موت الحبيبة.
يُدشن العندليب صورة للحبيب ستظل أيقونة فيما بعد، فالحبيب البطل القوي سيتراجع لصالح المستضعف والمنكسر المهزوم الذي ينتصر ويقوي بالحب، والذي تستقوي الحبيبة به، فلا تبدو قوتها أمام محبته، ولا ينتصر أيا من معطيات التفوق، بل ينتصر الحب والحبيب الذي لن يترك لحظة تمر دون أن يعلن وبإفراط عن حبه واشواقه.