تقاس قيمة المطربين بمدى بقاء وتأثير مشاريعهم الفنية، الحديث هنا عمن يمكن أن نصفهم بمطربين أصحاب مشاريع، لها هوية وملامح وتوجه لجمهور واضح سواء اتسعت دائرته أو تقلصت.
لماذا أكتب هذه المقدمة التمهيدية؟
لأنني بصدد الحديث عن المطرب الوحيد الذي قدم مشروعًا فنيًا واضحًا ومتفردًا بين كل الأصوات التي وُلدت في مطلع الألفية الجديدة .. نعم أتحدث عن حمزة نمرة.
قبل الحديث عن ألبوم حمزة نمرة الجديد "مولود سنة 80" وبالطبع الأغنية الأشهر فيه "فاضي شوية"، والتي سيطرت على "تريند" تطبيقات الموسيقى وموقع يوتيوب، يجدر بنا التفتيش في المرجعية الموسيقية التي جاء منها نمرة بمشروعه .
هنا الاسكندرية
موسيقي شاب ولد ونشأ في الإسكندرية، مهد الحركات الموسيقية المصرية قديمًا وحديثًا، المدينة التي أثارت موجة الفرق المستقلة، وما سمي في مطلع الألفية بموسيقى "الأندرجراوند".
كانت تلك المشاريع متنوعة وغنية مثل الثراء الثقافي لهذه المدينة، بما شملته من تجارب لإحياء التراث الموسيقي عبر فرقة "الحب والسلام" ومن بعدها "مسار إجباري" وغيرهما، هذا بالإضافة إلى حركة موسيقى "الراب" و "التراب" التي قادتها أصوات سكندرية مثل "شاهين" ومن بعده بسنوات "ويجز".
حتى موسيقى المهرجانات بكل ما أثارته من جدل انطلقت نحو المستمع المصري والعربي ثم العالم أجمع قادمة من قلب أزقة وحواري بحري والمنشية وكوم الدكة.
قطع حمزة نمرة خطواته الأولى في فرقة "الحب والسلام"، التي كانت بالمناسبة أشبه بقطاع "التدريب" الذي صقل تجارب هاني الدقاق قبل فرقة "مسار اجباري"، وهاني عادل قبل فرقة "وسط البلد"، كان الطبيعي أن ينطلق نمرة بتجربة موسيقية مشابهة يتم تسويقها جماهيريًأ عبر مشروع جماعي لفرقة، ولكنه اختار التغريد منفردًا في مشروع خاص حطم فيه النمط التجاري السائد الذي أسر الأغنية في إطار عاطفي بحت.
شاهد حمزة نمرة في هذا اللقاء وهو يتحدث عن علاقته بفرقة الحب والسلام ومدى تأثيرها في مسيرته :
قدم حمزة نمرة قبل "مولود سنة 80" خمسة ألبومات هي "احلم معايا" ، "انسان" ، "إسمعني" ، "المسحراتي" ، ثم " هطير من تاني" ، والحقيقة أن هذه الألبومات شكلت مرحلتين مهمتين في مشروع حمزة الموسيقي، المرحلة الأولى يمكن وصفها –دون تجني- بمرحلة "أغاني التنمية البشرية"، والتي استمرت حتى ألبوم "اسمعني" الذي صدر عام 2014 .
ظهر نمرة في هذه الألبومات كمُبشر لتيار موسيقي يتماس بوضوح مع تيار إجتماعي وفكري يتوغل ويتوسع، لا أحتاج لتوضيح أكثر فالسنوات والأحداث والأغاني عبرت عن تلك الحالة.
أمامنا مطرب لا يغني للحب، الصحافة تطارده بأسئلة حول مشروعية الغناء العاطفي ، وردوده لم تكن كافية لتأكيد الفكرة أو نفيها، وفي ذات الوقت ارتبط اسمه بشركة الإنتاج البريطانية التي يملكها المطرب والمنتج الموسيقي البريطاني كات ستيفن المعروف فيما بعد بـ "يوسف إسلام" عقب اشهار إسلامه ، وهي نفس الشركة التي قدمت المطرب والمنشد البريطاني سامي يوسف الذي تحول إلى "موضة" الاوساط الاعلامية المصرية بعد أن ذاع صيت أغانية الاسلامية بالتوازي مع ظهور الدعاة الجدد وعلى رأسهم بالطبع عمرو خالد.
مشروع غنائي بصبغة أخلاقية أم ماذا؟
هناك روابط اجتماعية متشابكة ومعقدة مهدت لحالة التمرد على شكل الأغنية العاطفية في أوج سطوة نجومها، إلا أن هذا التمرد لم ينجب سوى تجارب دُفعت للمشهد دفعًا بدعم من توجه اجتماعي "محافظ"، وسريعًا أصاب النشاز هذه النغمة الجديدة عندما عزفت على أوتار السياسة أعقاب 25 يناير، فأفرزت التجربة مطربين وفرق غنائية استمدوا وجودهم من قوة اللحظة وتأثيرها ثم توارى هذا الحضور تدريجيًا بالتوازي مع المتغيرات السياسية والاجتماعية التي طرأت على الساحة.
حمزة نمرة كان واحدًا من هؤلاء الذين تأرجح مشروعهم الفني بين أمواج التيارات المحافظة، وأصوات الميادين الباحثة عن ثورة مستمرة في كل شيء وأي شيء بلا هدف حقيقي، ولأن لا شيء يبقى على حاله، ولأن الفن كأي شيء قابل للنضج والتعديل والتطوير كأفكار البشر ومواقفهم، دخل مشروع حمزة نمرة الموسيقي مرحلته الثانية الأكثر نضجًا ورحابة واتساعًا لاستيعاب شرائح أكبر من الجمهور.
مشروع موسيقي تخلى شيئًا فشيئًا عن الأيديولوجيات السياسية والالتزامات الأخلاقية، هكذا بدى لنا الأمر في ألبومه "هطير من تاني" الصادر عام 2018 ، والذي حققت أغنية واحده منه هي "داري ياقلبي" أكثر من 236 مليون مشاهدة في عامين وهو رقم لم يحققه أي من نجوم الأغنية المصرية الكبار .
في نهاية 2020 عاد نمرة ليطرح ألبومه السادس "مولود سنة 80" والحقيقة أنه أفضل و أنضج ألبوماته على الإطلاق، وأكثرها رسوخًا من حيث وضوح شخصيته الفنية، بأغنيات تنطلق من الحكي عن شأن خاص جدًا، فتجدها بين السطور تعبر عن شأن عام .
ففي أغنية "مولود سنة 80" يحكي حمزة عن حالة "الغربلة" الفكرية والاجتماعية التي عاشها أبناء هذا الجيل، منذ لحظة الميلاد على مشارف عصر التكنولجيا، ثم الإنسحاق تحت عجلة المتغيرات العالمية المتسارعة، فاكتشفنا أننا دخلنا عقدنا الرابع ونحن نسأل : كيف كبرنا ومتى؟
جيل نوادي الفيديو وشرائط الكاسيت الذي توقع مستقبلًا مشرقًا، فوجد نفسه في سباق مع الزمن بينما هو مكبل بمسئوليات اجتماعية وخاوف تحاصره في كل خطوة.
هذا الخوف عبر عنه أيضًا في أغنية "أحكيلك خوفي" وهي واحدة من أجمل ماكتب عمر طاهر، وكأنه يجلس إلى جوارك بورقة وقلم ويدون معك قائمة مخاوفنا من الوحدة والمجهول والفقد والفرص الضائعة والمستقبل.
لم تكن الكلمات البطل الوحيد في هذه الأغنية بل أيضًا الموزع الموسيقي مصطفى نجم الذي قدم واحدة من أجمل "الزيجات" الموسيقية عندما مزج بين قالبي "الريجي تون" اللاتيني بصبغتة "البوب مارلية" البحته، وإيقاع المقسوم المصري بكل مافيه من نفحات شرقية أصيلة .
فاضي شوية" الأيقونة الجديدة
حتى الأن لا يمكنني التقاط سبب واضح لنجاح أغنية "فاضي شوية" سوى أنها لمست شيئًا في وجدان المستمع، شخصيًا أراها فُسحة بين جدول حصص مزدحم، أو فنجان قهوة وسيجارة وسط يوم مرهق، هذا الشعور كفيل بالضغط على زر السلام النفسي في روح أي مستمع فيتفاعل مع الأغنية بأشكال مختلفة، وهو ماحدث عندما أصبحت كلماتها تريند يتداوله الناس عبر "الكوميكسات" و "الميمز" ومنشورات فيس بوك ، فأصبحت الدعوة الرسمية للقاء "فاضي شوية نشرب قهوة في حتة بعيدة"؟
قد يكون التفسير البسيط للنجاح غير كافي، ربما هي اللغة والمفردات التي كتبها خليل عز الدين، وتحديدًا في شطر " ده اسمه كلام .. عيشنا العمر نربي حمام .. بس نسينا نقوم غية" كلمات تحمل قدرًا من الفلسفة في وصف قصص الحب، أو ربما وصف حال مواطن كادح يعيش في مكاتب الوظيفة يربي في حمام غيره دون أن يملك يومًا غية، وكأننا ندور في سواقي لا تنتهي .. ربما هذا تفسير شخصي بحت وقراءه لمستوى غير مقصود في كلمات الأغنية.
هذا الألبوم متخم بالملاحظات، فلا تنتهي تدوين أفكارك حول أغنية حتى تجد نفسك أمام أخرى تفتح نافذة فكرة جديدة، إلا أن هناك نقاط مضيئة واضحة لا يمكن اغفالها، أبرزها الاتساع الواضح لمشروع نمرة الموسيقى، والذي قفز إلى أشكال مختلفة مثل الهيب هوب ، والديسكو سترينج ، والريجي تون ، واللاتين بوب، والسوفت روك، والمقسوم الصعيدي، والمقسوم الشعبي، والاليكترو مهرجان.
بين كل هذه القوالب قدم نمرة ثلاث أغنيات تحت مسمى "المشروع شعبي"، وهي "معلش" ، "استعيذوا" ، و"مش مهم"، وهو ما يعكس قراءته الذكية لمزاج الجمهور العام، والذي أصبح متشبعًا بالموسيقى الشعبية فيما يمكن تسميته بـ"أثر المهرجانات".
كثيرون حاولوا محاكاة موسيقى المهرجانات لمخاطبة هذا المزاج ، ولكن المختلف في تجربة حمزة نمرة أنها صُنعت بوعي واضح، فلم تبد كمحاولة للحاق بركب "التريند"، بل إختيار مدروس للموضوعات وكذلك لإيقاعات التي تعبر عنها، ففي أغنية "معلش" بكل ما تحمله من شجن يميل إلى الإحباط جاء الإيقاع مطعمًا بالمقسوم المصري الحديث.
أما في أغنية "استعيذوا" تراقص القالب الموسيقي وخصوصا في دخول الأغنية بين موسيقى حلقات الذكر وأناشيد الموالد ، ثم استخدم في الصولو المزمار الاليكتروني - المعوزف بآلة الكيبورد- والمسجل شعبيًا باسم مزمار "عبسلام".
وأخيرًا جاءت أغنية " مش مهم" لتكمل صورة هذا المشروع بأغنية يمكن تصنيفها بـ"اليكترومهرجان" على غرار "موريس لوقا" صاحب الباع الطويل في هذا اللون، وأشهر تجاربه كانت ألبوم "بنحيي البغبغان" .
ضم الألبوم أيضًا أغنيات يمكن اعتبارها موتيفات رشيقة أكملت عملية تحرير مشروع حمزة نمرة من قيود الماضي، فغنى للحبيبة بشكل مباشر في "الوقعة الأخيرة"، وغنى لقصة حب بسيطة ودافئة في "القصة واللي كان".
وغنى عن يوميات شاب مصري يبحث عن أحلامه التائهة فوق أرصفة شوارع القاهرة في "6 صباحا".
وغنى للأب بلهجة أردنية مشحونة بالحنين في أغنية "يابا"، والتي أراها خطوة ذكية لمخاطبة جمهوره في الشام، والأهم أن كل هذه الأغنيات عبرت عن حالة تنوع بالتعاون مع شعراء وموسيقيين قادمين من خلفيات ثقافية وفنية مختلفة .
"مولود سنة 80" ليس فقط الألبوم الأهم في مسيرة حمزة نمرة، بل جاء في وقت احتاج فيه المستمع من يدعوه لتناول فنجان قهوة "محوج" يعيد ضبط بوصلة المزاج الذي عكرته الضوضاء.