في سنوات الطفولة حاولت جاهدًا أن أتعلم لعبة الشطرنج ولكنني فشلت، لم تنشأ صداقة متينة بيني وبين العساكر والطابية والفيل، وهذه القطع التي تعتصر ذهنك لكي تفلت بها من فخ فتسقط في الآخر.
أنا من الجيل الذي ولد وتربى على الألعاب اليدوية قبل انتشار ألعاب الفيديو جيم، ببساطة نحن أبناء "بنك الحظ" و"السلم والتعبان" و"الشطرنج" و "الكوتشينة"، لمتنا على "ترابيزة بنج" ثم تطورت الحياة وأصبحت "ترابيزة البلياردو" تجمعنا بعد المدرسة.
عرفنا "البلاي ستيشن" في مرحلة متأخرة قليلًا فبدأناها بالنسخة "اليابانية"، رغم بساطة وسذاجة تصميماتها إلا أنها كانت بالنسبة لنا ثورة في عالم الترفيه، خطفتنا من ألعابنا اليدوية وأسرتنا أمام شاشات التليفزيون التي تحولت فيما بعد إلى شاشات ذكية، وأصبح "البلاي ستيشن" في حذ ذاته جهازًا وسيطًا يمكنك أن تسمع من خلاله منصات الموسيقى وتشاهد منصات الأفلام والمسلسلات، وعلى رأسها "نتفليكس" التي أعادتني منذ أيام لذكريات الطفولة بعرضها مسلسل The Queen’s Gambit أو "مناورة الملكة" إخراج "سكوت فرانك" وبطولة "أنيا تايلور" التي تقدم واحدًا من أهم أدوارها.
اقرأ أيضًا : 10 معلومات عن مسلسل The Queen’s Gambit.. ما علاقة ليث هيدجر به؟
اسم المسلسل مأخوذ عن واحدة من أشهر خطط اللعبة وهي "مناورة الملكة" بما يعكسه من رمزية مرتبطة برحلة البطلة، ففي ستينات القرن الماضي تدخل "بيث" وهي فتاة يتيمة إلى أحد الملاجيء، وهناك تعلم الشطرنج على يد أحد حراس الملجأ، ولكن الفتاة الصغيرة تظهر عبقرية نادرة في اللعبة، يربط هنا صناع المسلسل بين شغفين يتملكان "بيث" وهما براعتها في الشطرنج، وإدمانها المهدئات والكحوليات لتغذي تلك البراعة، المهدئات التي كانت تتناولها الفتاة الصغيرة الزاميًا في الملجأ فتحت نوافذ خيالها لتكتشف آفاقًا أبعد من أسرار اللعبة وبالتالي خلقت ارتباطًا ذهنيًا ونفسيًا بين إدمان المهدئات وهذا الإبداع.
لسنا هنا أمام محاولة لتفسير العلاقة بين الإبداع والمخدرات، ثم اسقاط الفكرة على نماذج أخرى واقعية لمبدعين ارتبطت سيرتهم بإدمان "المكيفات" مثلًا، ولكن هذه العلاقة كانت المحرك الوحيد والرئيسي لنقاط الصراع طوال حلقات المسلسل، وهي المدخل الأهم لأي أزمة تواجهها البطلة طوال المنافسات، فهي أقرب إلى فتاة باردة المشاعر، اختصرت متع الحياة في تأثير الكحوليات والمهدئات، وتحقيق الانتصارات على رقعة الشطرنج.
الحرب الباردة .. حكاية لاتنتهي!
نحن أمام عمل لا يحمل أية نقاط صراع أو إثارة تقليدية، لا وجود هنا لقصة حب فاشلة، أو علاقات جنسية، ولكنه اعتمد فقط على نقطة صراع واحدة هي المنافسة التي تدور على رقعة الشطرنج، ثم قفز إلى بعد سياسي صريح بنقل الحرب الباردة بين الولايات المتحدة وروسيا إلى معركة في مباراة شطرنج بين "بيث" الأمريكية واللاعب الروسي بورجوف"، لنصبح في تلك اللحظة أمام عمل لم يخرج عن الشكل التقليدي لمعارك أمريكية روسية سابقة اجترتها هوليوود في عشرات الأفلام ، أشهرها على سبيل المثال الجزء الرابع من سلسلة "روكي" لسلفستر ستالون، والذي عرض عام 1985 وظل لسنوات عديدة نموذجًا صريحًا لنقل الحرب السياسية الباردة بين القطبين إلى شاشات السينما بصورة دعائية أمريكية "فجة".
يظهر ذلك بصورة فنية في مشاهد تعمد المخرج سكوت فرانك أن يعبر فيها بصريًا عن هذا الصراع، كأن يظهر اللاعب الروسي في مشهد بلقطة "كلوز" على وجهه المتوتر بينما تقف بيث على الجانب الآخر ومعها "حلفاء"!
قد لا تحب الشطرنج ولكنك ستحب المناورة!
قد لا تكون من هواة لعبة الشطرنج .. تمامًا ككاتب هذه السطور، ولكنك لن تقف إمام إعجابك بصناعة دراما انسانية من رحم تلك اللعبة "العصية"، فعنصر المنافسة في حد ذاته صراع إنساني بحت يجذب المشاهد ويخلق لدية حالة توحد مع البطل.
على مستوى التمثيل استطاعت "أنيا تيلور" أن تنقل كل الأحاسيس والمعارك والمشاعر التي تدور في عقل "بيث" طوال حياتها خلال لحظات الجلوس أمام رقعة الشطرنج وخوض المباريات مع من يعتبرون أنفسهم عباقرة اللعبة.
تبدو الحياة للبعض مثل معركة، هي في الحقيقة كذلك، و"بيث" تنقل تلك المعركة إلى لعبة الشطرنج، فتفرغ فيها طاقات الغضب التي تراكمت فوق مشاعرها عامًا تلو الآخر بعوامل الوحدة والقسوة واليتم وافتقاد الأمان الدائم، كل هذا جعلها تتحدى العالم لتوجد لنفسها كيانًا حقيقيًا حصنه الحقيقي هو التفوق في الشطرنج.
جماليات الصورة وسحر الألوان
نجح المخرج سكوت فرانك ومدير التصوير ستيفن مزلر في تقديم ثنائية متميزة على مستوى الصورة وخصوصًا استخدام الألوان المعبرة عن الفترة الزمنية، لم يعتمد هذا الثنائي على خلق حالة من السوداوية على مستوى الصورة بل منحا المشاهد صورة مفعمة بألوان ساحرة تصطحبك في رحلة لتلك العوالم دون أن تشعر، وهو ما أنعكس على تصميم الملابس أيضًا ، رغم أن هذا أصبح أمرًا اعتياديًا في جميع الأفلام والمسلسلات الغربية فلا مجال لخطأ زمني على صعيد البيئة والملابس والاكسسوارات، إلا أن الدقة في "مناورة الملكة" كانت ملفتة للنظر وواحدة من عوامل نجاحة، خاصة وأن المزج بين لوني رقعة الشطرنج وتفاصيل ملابس الأبطال كان له مغزى واضح ربما في إشارة للحياة التي تتلون يومًا بالأسود وآخر بالأبيض.
ولهذا لم يكن غريبًا أن يحصل المسلسل على تقييم مرتفع على موقع IMDb بلغ 8.8 ومازال يحصد إعجاب المشاهدين على أغلب مواقع التقييم.