(1)
أحببت ما قدمه أم لم تحبه، فلا يمكنك إنكار أن محمد منير حالة فريدة ونادر تكرارها في مسيرة الموسيقى المصرية، حالة كانت نتاج تجارب العديد من الفنانين من مختلف التوجهات الفنية تجمعت وانصهرت لتثمر لنا الملك، فبين عبدالرحيم منصور وصلاح جاهين والابنودي وكوثر مصطفى وبين هاني شنودة ورومان بونكا وأحمد منيب ونبت محمد منير وترعرع وصال وجال في الموسيقى متفردا بلون خاص به، ولكنه لم يقف عند الموسيقى فحسب بل تخطاها إلى السينما، والسينما هي جانب أخر مر عليه أغلب المطربين منذ بدايتها لكونها أحد أهم وسائل الانتشار ولكن السينما في مسيرة منير كانت تأكيد على التفرد والحالة المختلفة ولم تكن بغرض الانتشار فقط.
بالطبع تجربه مختلفة كانت بدأت رحلته منذ سنوات 3 أو 4 على اقصى تقدير بدوائر قريبة من أحد أهم مخرجي السينما المصرية، تجربة تحمل بداخلها العديد من المتشابهات مع شاهين فكان لابد لشاهين أن يرى منير، وفي رأيي إن انطلاقه منير السينمائية من رحم سينما شاهين كانت إطارا جديدا يضاف إلى إطارات البرواز الخاص بمنير، الظهور السينمائي الأول كان في فيلم حدوتة مصرية الذي عرض تجاريا في عام 1982، ليدخل منير لأول مرة عالم السينما ومن أوسع أبوابه.
اقرأ أيضًا : الملك والهضبة .. كيف صعدا إلى القمة؟
الفيلم الذي رشح للفوز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي عام 1982، كان كارت تعارف لمنير الممثل قبل المطرب، فمنير لم يغني في الفيلم بل هو صاحب اغنية الفيلم التي وضعت على التيترات وتم استخدامها داخله، ولكن عكس أفلام المطربين لم ينفرد منير بمشاهد ليغني فيها، بل كان له دور درامي يؤديه، دور "مهدي" المؤلف النوبي صديق يحيى، والذي نرى من خلاله ما يراه في يحيى.
ربما دور منير لا يحمل الكثير من الدراما أو التعقيد مثل أدوار أخرى كدور الزوجة أو الأم أو الأخت، ولكن تلك الإطلالة الأولى على السينما ومن نافذة يوسف شاهين أكدت ببساطة أن لمنير حضور جيد أمام الكاميرا وقدرة مقبولة على الأداء التمثيلي حتى وإن كان في مشاهد بسيطة، ليتخذ لنفسه موضع قدم داخل عالم سينما مختلف عن السينما التجارية السائدة وقتها، والأهم أن بفيلم شاهين أكد منير الطريقة التي يريد طرح نفسه بها داخل عالم الموسيقى، وهي أنه مختلف كليا عما يتم تقديمه على الساحة، مختلف حتى في اختياره لجمهوره.
لا يمكنني أن اعتبر أن فيلم اليوم السادس هو خطوة جديدة في مسيرة منير السينمائية بل يمكن القول إنها خطوة تكميلية للخطوة الأولى وإن كان ظهوره أقل وأثره أقل واهمية الدور الدرامية أقل، فلم يضف الفيلم أو دوره فيه أي شيء لمنير على الإطلاق للعديد من الأسباب التي تتعلق بالفيلم وتتعلق بدوره واستخدام شاهين لمنير في الفيلم، ليبدأ في نفس عام اليوم السادس الخطوة الثانية والأهم.
(2)
لم يكن يوما "الطوق والأسورة "فيلما اعتياديا من السهل أن ترى مثله، هو فيلم يحمل بصمات خيري بشارة أحد أكثر مخرجي جيله اختلافا عنهم، بشارة الذي وجد في منير الوجه المناسب لذلك المثقف الواعي والذي لا يستمع إليه أحد في بلدته ليقدم دور الأستاذ محمد في رائعة بشارة ويحيى الطاهر عبدالله الطوق والأسورة، وهنا نرى منير ممثلا مكتملا للمرة الأولى.
منير الذي تعلم الحرفة على يد شاهين يخرج ما تعلمه أمام كاميرا بشارة، هذه المرة منير لا يؤدي ولكن يبدأ رحلة التمثيل بجد، لديه شخصية درامية بحق لها العديد من الأبعاد والتي تحتاج إلى ممثل ذو موهبه لتقديمها فليس مجرد وجه أو صوت هنا هو الممثل محمد منير، ليقدم دور في مجمله جيد، ينبئ أن هذا الأسمر ذو الخصوصية، قادم وبقوة وليس مجرد مطرب أخر سيضاف إلى سجلات المطربين الذين مروا على الشاشة الكبيرة.
وعد عامين على دور محمد، يعاود بعدها منير الوقوف أمام كاميرا خيري بشارة ولكن هذه المرة كبطل من أبطال فيلم اعتبره من أكثر الأفلام سوداوية في السينما المصرية، والحديث هنا على يوم مر ويوم حلو، منير يمثل بالفعل، بل ويثبت أنه لديه موهبة جيدة مضاف إليها حرفة تعلمها من تجارب سابقة ليخلد دور مثل دور عرابي الديب، والأهم أن منير خارج إطار الخير كما يسميه العامة، فعرابي شخصية سيئة وشريرة، وهذه مغامرة، فالكثير من الممثلين يخشون من دور الشرير في الأفلام خشية أن يكرههم المشاهد فما بالك بمطرب يريد أن تزداد شعبيته في الشارع؟
منير في عرابي الديب يقرر أن يغامر بالكثير، مقابل تأدية شخصية بصعوبة وتعقيد عرابي الديب، وفي نفس المرحلة كان يقف على المسرح ليقدم مسرحية الملك هو الملك التي كتبها سعد الله ونوس وأخرجها مراد منير، وهي التجربة المسرحية الثانية بعد ملك الشحاتين التي كتبها نجيب سرور وأخرجها مراد منير أيضا.
اقرأ أيضًا : أهم 15 أغنية في مشوار الملك ... كيف واكب محمد منير التغيرات الموسيقية طوال 40 عامًا؟
ومن المسرح جاء لقب الملك، اللقب الذي سيستمر مع إلى الأبد، حضور منير على المسرح ممثلا هو نفس حضوره عليه مطربا، تلك الكاريزما والقدرة على الأداء والتفاعل مع الجمهور، ولكن المسرح كاشف، وهنا يظهر أن منير مازال لديه الكثير ليتعلمه عن فن التمثيل، وخاصة القدرة على التفاعل مع الممثلين على الخشبة في كل ما هو طارئ، فخروج بسيط لصلاح السعدني عن النص كان كفيا بأن يجعل منير يقف لا حول له ولا قوة، لا يستطيع أن يرد، لا تسعفه سرعة بديهته (بالطبع الحديث هنا عن ذلك الخروج الذي تم تسجيله في تصوير إعادة المسرحية عام 2006 ضمن فعاليات الدورة الأولى من المهرجان القومي للمسرح والتي شهدت إعادة العديد من المسرحيات كانت الملك هو الملك من بينها).
الخبرة التمثيلية لم تكن يوما تصب لصالح منير، حتى حينما خرج من عالم سينما المهرجانات إلى عالم السينما التجارية في أفلام مثل شباب على كف عفريت أو حتى في الفيلم الوحيد الذي قام ببطولته بمشاركة نجلاء فتحي (اشتباه)، تلك الخبرة لم تكن في صالح منير إطلاقا، الاختيارات لم تكن جيدة، وفي اشتباه تحديدا ظهر أن منير هو موهبة تمثيلية جيدة ولكنها تحتاج دائما إلى من يقودها ليخرج أفضل ما فيها.
تلك المهمة التي للأسف لم ينجح فيها أحد بشكل ملفت للنظر سوا شاهين وبشارة، بينما كان حضور منير مع أسماء مثل عمر عبدالعزيز في ليه يا هرم أو مع إنعام محمد على في حكايات الغريب أو مع يوسف فرانسيس في البحث عن توت عنخ أمون، كان حضور منير المطرب لا الممثل، الممثل الذي لم نراه يمثل مرة أخرى بصدق إلا في المصير حينما عاد منير إلى عالم شاهين.
شخصية مروان في المصير، هي الأخرى شخصية درامية للغاية تحتاج إلى ممثل لتقديمها، خاصة تلك العلاقة بين مروان وعبدالله ابن الخليفة، والخط العاطفي بين مانويلا ومروان، تلك الخطوط تحتاج ممثل وليس مؤدي، ممثل يعرف تفاصيل الشخصية ليقنعك بحب مروان لمانويلا وحبه لعبدالله، لتحزن على مقتله في مشهد اغتياله، ولتدرك وهذا هو الأهم لماذا تم اغتيال مروان، مروان يتحرك بدافع الحب طيلة الوقت فحبه لعبدالله قاده لفعل شجاع ولكنها شجاعة طائشة أودت بحياته.
منير ما بعد المصير ربما هي تجارب كلها تستفيد من منير المطرب حتى دوره في فيلم "دنيا" كان استفادة من منير المطرب لا توظيف جديد لمنير الممثل، ليثبت منير صدق نظرية أنه ممثل موهوب ولكنه دائما يحتاج إلى من يرشده ويقود تلك الموهبة، وهي نفس أزمة منير المطرب الذي تغير شكله 180 درجة حينما رحل عنه سواء قدريا أو غير قدريا كل من شكلوا منير الملك في بدايته ونضجه وانتشاره، وساعدوا في ترسيخ اقدامه لا وسط الجمهور فحسب ولكن كحالة استثنائية يستحيل تقليدها ونادرة الحدوث في مسار الموسيقى، ليبق الملك -رغم كل شيء- ملكاً.