بينما تلمم 2019 أوراقها جاءني صوتها عبر الهاتف، لتخبرني بموافقتها على إجراء حوار داخل منزلها، اتذكر جيدا سعادتي في تلك اللحظة، ليس فقط لأنني سأجلس أمام "فريدة فهمي" السيدة الأولى داخل مملكة الاستعراض الأشهر في الشرق الأوسط، ولكن لأنني كنت على يقين بأن مكان اللقاء سيخبرني بالكثير عن حياة هذه السيدة، ومن حولها من المبدعين، ولا سيما إذا كان المكان هو شقة الزمالك التي شهدت نجاحا مدويا، لها ولفرقة رضا التي تربعت على عرش الرقص الشعبي لسنوات طوال.
وكما توقعت، جاءت الصور على جدران المنزل الأنيق لتقدم ألف دليل على أن "فريدة فهمي" هي جوهرة تتوسط عقد ملئ باللالئ، التي لا يجوز أن يكون رحيلهم سببا في نسيانهم، وإذا كانت فريدة فهمي تدين بالفضل لوالدها "حسن فهمي" مؤسس قسم هندسة الإنتاج بكلية الهندسة جامعة القاهرة، لأنه صاحب البصمات الواضحة على شخصيتها حتى الآن، وتحجز لصورته مساحة خاصة في صالة منزلها بريشة الفنان بيكار، فهي أيضا لا تنسى أبدا "علي إسماعيل" أو (بيتهوفن مصر) كما يحلو لها أن تناديه، ليس فقط لأنه مؤلف موسيقى كل التابلوهات الاستعراضية التي تمايلت على ألحانها، ولكن لأنه صديق لها ولشريك حياتها المخرج "علي رضا" الذي رحل هو الآخر تاركا خلفه جرحا لا يندمل، وحبا لا ينتهى، ولا سيما أن هذا الحب قد امتزج بالإبداع، حيث أخرج لها معظم أفلامها التي ستظل تخلد قصتهما إلى الأبد.
حديث فريدة عن هؤلاء الرجال لم ينقطع، لكن حديثها عن "محمود رضا" كان شئ آخر، فهي لا تتحدث عنه كونه المعلم الأول فقط، أو زوج الأخت التي رحلت مبكرا جدا، لكنها كانت تراه سبب وجود لها، ولبقية أعضاء الفرقة، ولذلك كان هو الوحيد الذي آتى ذكره في معظم حديثنا تقريبا، كل هذا يتم بينما كان هو يطل علينا من صوره المتناثرة هنا وهناك، باسما، ضاحكا، مقبلا على الحياة كما ظل طوال سنوات عمره التسعين.
لم تتعلم "فريدة" من "محمود" فقط خطوات الرقص الشرقي وأصوله، فقد تعرفت عليه بينما كانت في الخامسة عشر من عمرها، حينما تزوج من أختها "نديدة" متحديا كل التحذيرات كونها مريضة قلب، فعرفت منه معنى الحب، والتضحية، وحتى بعد أن رحلت الأخت بعد زواج دام خمس سنوات فقط، تعلمت منه يوم رحيلها درسا لن تنساه في التفاني والالتزام، حيث تم إبلاغهما بخبر رحيلها بينما كانا يجريا بروفة على المسرح، فعادا مسرعين، وأجريا مراسم الدفن، لكن رفض محمود أن يلغي حفلة اليوم التالي لأن التذاكر قد بيعت بالكامل، ورقص بينما كان الألم يعتصر قلبه.
في حديثنا الذي دام ساعتين أو أكثر، لم ألمح الحزن في عينيها سوى مرتين، عندما تحدثت عن الحالة التي وصلت لها الفرقة حاليا، وعندما تحدثت عن مرض "محمود" الذي كان قد تمكن منه تماما في ذلك الوقت، فلم يعد صوته مسموعا لها عبر الهاتف، فمكالمة طويلة بينهما قد لا تفسر منها سوى كلمة "ميلدا" وهو اسمها الحقيقي في البطاقة، لأن فريدة هو اسم فني أطلقه عليها المخرج "كامل التلمساني" ..سألتها هل تزورينه؟ قالت أحزن عندما اشاهده طريح الفراش، وأعود إلى منزلي مكتئبة جدا، لذا لا ازوره إلا بين الحين والآخر.
كانت فريدة خائفة من رحيل "محمود" فهى تعلم أن العقد قد انفرط منذ زمن، وأن رحيله يعنى أن (الجوهرة) ستبقى وحيدة، وأن نسيانه سيكون هو المصير، كما كان بالنسبة لباقي مؤسسي (فرقة رضا) الذين أفنوا حياتهم لتبقى، لكنها للأسف لم يبق منها سوى الاسم فقط، وبعض الذكريات من زمن مضى.
اقرأ أيضًا:
لمهاجمي يوسف الشريف ... أين كنتم من تصريحات عادل إمام؟!