ليس أصدق من الشغف طريقا للوصول، ولا أجدى من الإخلاص وسيلة للمبتغى. وبين الشغف والإخلاص يمكننا أن نلخَّـص مسيرة الناقد السينمائي "يوسف شريف رزق الله" الذي يُـعَـدُ واحدا ممن شكلوا وجدان المصريين عبر مشروعه الدءوب في نشر الثقافة السينمائية وإتاحتها للجميع عبر عمله سواء في الصحافة المقروءة أو الإعلام المرئي المسموع.
في دورته الواحدة والأربعين قام مهرجان القاهرة السينمائي بعرض فيلم عن الناقد الفني الأشهر. يستعرض الفيلم منجز "رزق" الفني وأثره في الثقافة السينمائية، كما لا يفوته أن يُلق الضوء على سماته الإنسانية والتي كان أهمها وأبرزها هو ذلك التواضع الحقيقي، وحرصه على التقاط المواهب ودعمها. شباب نقاد ومبرمجي مهرجانات، ومديرو تصوير ومخرجون وممثلون يقومون بالإدلاء بشهادتهم المهنية والإنسانية عن الراحل.
المهرجان الذي كرّم الراحل بإطلاق اسمه على دورته الأخيرة كان قد قرر إطلاق اسم "يوسف شريف رزق الله" على جائزة الجمهور إيمانا من منظمِّيه بدور الراحل في نشر الثقافة السينمائية بين عموم المشاهدين. أما الفيلم الذي يعد الأول في مسيرة المخرج عبد الرحمن نصر فيتسعين بصور أرشيفية ومقاطع برامجية من تراث "رزق الله" السينمائي، سيكون من المُـفاجئ أن يتحدث لنا "رزق الله" بنفسه عن نفسه من خلال أرشيفه التليفزيوني في حواراته عن مشواره الفني بخلاف ما اعتدنا عليه في تلك الأفلام التأبينية، وسيدعم حديثه مُـجايلين له من أصدقائه وكذلك من تلامذته الذين نفوا عنه صفة التعليمية إذ كان الراحل يُقدِّر تجربة كل فرد ولم يكن ليُصادر على آرائهم أو اختياراتهم.
اللافت في الفيلم هو ذلك الإيقاع المشدود وملائمة كل ضيف للحكي بشكل مثالي عن "رزق الله" كلٌ وفق حيثيته؛ سيدلي "خيري بشارة" بشهادته عن "رزق الله" حين دشنه وبشَّـر به كمخرج واعد بعد أن أخرج بشارة أول أفلامه "الأقدار الدامية" عام 1976، وسيصفه بأروع توصيف يمكن للمشتغِـل بالفنون أن يناله حين يصفه بأنه (نـاقَـد بلا حسابات). ليست هذه هي الصفة الوحيدة التي يمنحها "خيري بشارة" لرزق الله، إذ يصفه بأنه "دودة أفلام" مشيرا إلى أنه لم يكن لينافسه في ذاكرته السينمائية الموسوعية سوى "محمد خان" الذي اعتاد مباراته في عناوين الأفلام ومخرجيها وممثليها.
ولكونه كان رئيسا لقطاع قنوات النيل المتخصصة ورئيسا لاتحاد الإذاعة والتليفزيون سيحكي المهندس "أسامة الشيخ" عن "رزق الله" من منطلق الانتاج البرامجي مُركِّـزا على تعففه، إذ لم يكن "رزق الله" ليناقشه في أجرٍ عندما كان يقوم بإعداد رسائل المهرجانات الدولية لصالح التليفزيون المصري. كاشفا عن بُـعـد من أبعاد شخصية "رزق الله" الإنسانية التي كانت تتسم بالرقي الشديد، في حين تذكر د. "درية شرف الدين" وزيرة الإعلام السابقة كيف زاملها إعدادا وتقديما لبرنامج "نادي السينما" قبل أن يتركه لبرامج أخرى. مشيرةً لدوره في توجيهها لكيفية الإعداد البرامجي للبرامج التليفزيونية الخاصة بالسينما والاتصال بالجهات المختلفة من سفارات ومراكز ثقافية أجنبية للحصول على المراجع الخاصة بأفلام البرنامج الشهير.
وإذا كان مدير التصوير "سعيد شيمي" يؤكد على دور "رزق الله" التثقيفي عبر برامجه المتلفزة أو عبر دوره في تنظيم أنشطة جمعية الفيلم؛ فإن شباب النقاد يشيرون لدور "رزق الله" في تشكيل وجدانهم السينمائي كمتلقيّ محتوى إعلامي ونقدي من إعداده عبر سنوات عمله بالتليفزيون والصحافة. فيذكر "رامي عبد الرازق" مدى جديِّة شخصية "رزق الله"، وكذلك "رامي المتولي" الذي أشار لمتابعة الراحل لمقالاته، واستقدامه للجان المشاهدة في مهرجان القاهرة السينمائي. ولتأتي شهادة الناقد "أحمد شوقي" الذي زامل الراحل آخر ست سنوات من حياته كاشفة عن جوانب أبعد عند "رزق الله"، حيث اتسمت علاقة الراحل به بالأستاذية والأبوة بدون موقع سلطوي من جانب الراحل، فضلا على إشارته إلى تقبُّـل "رزق الله" للنقد بما يخلق حالة من (الجدل الإيجابي) كان قوامها التكاملية في العمل. كاشفا ما لم يعرفه الكثيرون عن الراحل حيث كان يخضع لجلسات غسيل كلوي متكررة كل أسبوع لم تمنعه أو تعيقه عن أداء مهامه المتعددة.
من الشهادات البارزة في الفيلم كانت لرؤساء مهرجان القاهرة المتعددين الذين عاونهم "رزق الله" حين كان مديرا فنيا للمهرجان، فيتذكر كل من ماجدة واصف وحسين فهمي ومحمد حفظي دور "رزق الله" في المهرجان عبر سنوات انعقاده ودوره في مساندتهم والدفع بهم لرئاسة المهرجان. أما السيناريست "وحيد حامد" فيشير لدور الخلفية الدراسية والمهنية لرزق الله في صقله الفني، حيث تخرَّج "رزق الله" في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومن بعدها عمل محررا في قطاع الأخبار بالتليفزيون مشيرا إلى أن السينما لا تنفصل عن العالم وأحداثه. في حين يتذكّر المخرج "مروان حامد" لدور "رزق الله" في دعمه لدراسة السينما وإقناع والدته الإعلامية "زينب سويدان" لدراسة الفن بحكم مزاملته لها في التليفزيون.
وتأتي شهادة المخرج "يسري نصر الله" عن "رزق الله" بأنه كان محبا حقيقيا للسينما ويريد إتاحتها لكل المصريين، ولا ينس المصريون رسائله الفنية التي نظّمها من كل مهرجانات العالم. وهو ما أكَّـده الناقد "طارق الشناوي" حين أشار إلى أن "رزق الله" كان الدليل لكل الصحفيين والنقاد الفنيين مرتادي المهرجانات السينمائية.
بإنتهاء مشاهدة الفيلم سيتبين أن السمة الأبرز في "رزق الله" كانت شغفه الخالص بالفن السينمائي وهو ما شكل له الدافع لكل مجهوداته النقدية والفنية التي مارسها طوال حياته، ليجسد لنا النموذج الأبرز لمحبّ السينما أو "السينيفيلي" في صورته المُثلى والأنقى.
==========
* أسماء إبراهيم كاتبة ومخرجة أفلام تسجيلية