في 21 يناير عام 1996، كان المصريون على موعد مع السعادة، ليس فقط لأن شهر رمضان حينها كان يأتي في "عز الشتا" وبالتالي لا وقت للجوع، أو العطش، لكن أيضا لأن الموسم الدرامي حينها كان قويا جدا، فسياسة إتحاد الإذاعة والتليفزيون، وتحديدا قطاع الإنتاج الذي كان يرأسه حينها الصنايعي "ممدوح الليثي" تعتمد مبدأ التأثير بالكيف لا بالكم، وبالتالي، فإن عدد المسلسلات التي تم إنتاجها في هذا الموسم لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، لكن تأثيرها لا يزال ممتدا حتى اليوم، منها على سبيل المثال، مسلسل (نصف ربيع الآخر) بطولة "يحيى الفخراني" و"إلهام شاهين" وإخراج "يحيى العلمي" ومسلسل (من الذي لا يحب فاطمة) بطولة فتى الشاشة الأول آنذاك "أحمد عبد عبد العزيز" وفتاة أحلام شباب هذا العصر، وكل عصر "شيرين سيف النصر".
وإذا كان قطاع كبير من عشاق الدراما قد انشغل بصراع "ناهد الوكيل" و"سعاد الأنصاري" على قلب "ربيع" في المسلسل الأول، بينما انشغل آخرون بغربة "صبري" التي شعر بها في وطنه أولا قبل أن يسافر إلى النمسا، حينما انفصل عن حبيبته "ماجدة" في المسلسل الثاني، فأن قطاع أكبر من الجمهور توحد، ولا يزال مع قصة حب "عبد الغفور البرعي" و"فاطمة كشري" في (لن أعيش في جلباب أبي) الذي عرض في نفس الموسم، فكان (البريمو) كما هو حتى الآن بعد مرور 24 عاما على عرضه.
نجاح هذا المسلسل يظهر أيضا في مداومة بحث الجمهور عن كواليسه الخفيه، فلا تزال أخبار رفض الفنان الراحل "حسن حسني" دور "إبراهيم سردينة" بسبب الأجر، ورفض "خالد النبوي" دور "عبد الوهاب" بسبب عدم اكتمال السيناريو وقت عرضه عليه، وقيام "عبلة كامل" لدورها بدلا من "يسرا" أو" معالي زايد" كلها أخبار تحقق نسب مشاهدات مرتفعة، وكأن الجمهور مع كل حكاية من هذه الحكايات يطلق لخياله العنان لأن يصنع نسخة آخرى من المسلسل، تخصه وحده، ينسج من خلالها أحداثه بأبطال مغايرين.
الجميل أن هذا الأمر متاح على اليوتيوب ولا يحتاج مزيدا من الجهد أو الخيال، فقد شهدت التسعينيات أيضا إنتاج مسلسل إذاعي يحمل نفس الاسم لكنه هذه المرة من بطولة "فريد شوقي" و"زهرة العلا".
كلا المسلسلين اشتركا في أنهما كانا الأبعد عن أحداث الرواية الأصلية التي كتبها الأديب الكبير "إحسان عبد القدوس" ولم يكن "عبد الغفور البرعي" بطلا رئيسيا فيها، بعكس ما كان في الإذاعة، أوالتليفزيون.
وقبل أن تتعرف على أبطال المسلسل الإذاعي المجهول بالمقارنة بنظيره التليفزيوني، لابد أن نذكر أن للأول تتر رائع بصوت "عماد عبد الحليم" يقول في مطلعه (أنا عايز أعمل نفسي بنفسي أعدي الصعب أدوس على يأسي..وأسبق بكرة وأأكد ذاتي) وهو ما حرم منه المسلسل الثاني بسبب تعنت المسؤولين في التليفزيون آنذاك، عندما رفضوا كلمات رائعة كتبها الشاعر "بهاء الدين محمد" فظلت حبيسة الأدراج حتى غنى أجزاء منها قبل ثلاث سنوات الشيخ "مشاري راشد العفاسي" من ألحان "وليد سعد" والتي أظن أنك ستشعر بما شعرت أنا به من غصة عندما استمعت إليها، لأنها من المؤكد كانت ستضيف كثيرا للمسلسل.
لكي تستمتع بالمسلسل الإذاعي يجب عليك أولا أن تنسى، أو تتناسى أحداث ما شاهدته في التليفزيون، فلا وجود لقصة حب بين "عبد الغفور" و"فاطنة" بل الأدهى أن دور "زهرة العلا" هامشى جدا، وغير مؤثر، حيث تموت ضمن أحداث المسلسل، فضلا عن أن طريقة نطق الفنانة الراحلة للكلام كان غير واضحا في كثير من الأحيان، ومتأثرا بعوامل السن، أو ربما ب (طقم أسنان) كانت ترتديه فى هذا الوقت، أثر كثيرا على مخارج ألفاظها.
وبما أنه لاوجود حقيقي ل"فاطنة" فمن البديهي أن الخط الدرامي الخاص ب"سيد" شقيقها، وزوجته، غير موجود، بل أن شخصية "نفيسة" نفسها ابنه "عبد الغفور" لا وجود لها ضمن الأحداث.
يلعب بطولة المسلسل الفنان "هشام عبد الحميد" في دور "عبد الوهاب" و "ماجدة حمادة" في دور "سنية" و"سوسن بدر" في دور "بهيرة" أما "نظيرة" فأدت دورها "رانيا فريد شوقي" التي وقفت أمام ميكرفون الإذاعة لأول مرة في حياتها من خلال هذا المسلسل.
في المسلسل الإذاعي ظهرت شخصيات لم تظهر في التليفزيون، مثل "عبد السلام" شقيق "عبد الوهاب" الذي هاجر إلى بريطانيا، واستقر فيها بعد حصوله على الدكتوراه، لكنه لبى نداء والده، وعاد ليساعده في أعماله، بالإضافة إلى شخصية "أمين" التي أداها "صبري عبد المنعم" حيث لعب دور صبي "عبد الغفور" في الوكالة الذي علم نفسه بنفسه، ووقع في حب "بهيرة" وحارب من أجل أن يتزوجها.
أما على مستوى الأحداث فالأمر مختلف تماما أيضا، ف"عبد الوهاب" لم يكن مجرد شخص طائش، يحمل عقدة والده ويجعلها حائلا أمام تحقيق أي نجاح، كما فعل "محمد رياض" في التليفزيون، فقد كان مهندسا ناجحا، عاش في أمريكا سبع سنوات، تزوج، وأنجب خلالها، وكون ثروة هائلة، جعلت زوجته الأمريكية تحيك مؤامرة ضده، وتدخله مستشفى الأمراض العقلية هناك، لكي تستحوذ على ثروته، لكنه ينجح في الهرب بالثروة، وبابنته أيضا، ويعود إلى مصر، ويصنع فيها مشاريع ناجحة جدا، كانت سببا في غضب والده منه، لأنه شعر أن ابنه يريد أن ينافسه، بدلا أن يجلس تحت جناحه، ويساعده في أعماله.
أما "عبد الغفور البرعي" نفسه فلم يكن هذا الشخص العصامي الذي ربى ابنائه على الحرية، والمسؤولية في آن واحد، فقد كان رجلا بخيلا، متسلطا، يفرض على بناته زيجاتهن، فقد زوج "سنية" من أحد تجار الوكالة الذي أذاقها الآمرين، وكان دائم الضرب والإهانة لها، أما "نظيرة" فقد وقف في طريق حبها ل"حسين" لأنه يريد أن يزوجها لابن وزير طمعا في نفوذه!!
وإذا كنت -مثلي- يصيبك الدوار من طريقة حديث "إيناس مكي" أو "روزالين" في المسلسل، والتي اشتهرت بجملة (مستر هاج آبد الجفور) فمن المؤكد أنك سترسل لها خطاب شكر بعد أن تسمع صوت الممثلة التي أدت نفس الدور في الإذاعة، والتي كان أداؤها غاية في السوء.
وفي النهاية، لا يهدف هذا المقال في المقام الأول إلى المقارنة بين المسلسلين، بقدر ما يهدف إلى إلقاء نظرة على القناة الرسمية للإذاعة المصرية على اليوتيوب...وصدقني لن تندم
المسلسل الإذاعي "لن أعيش في جلباب أبي"