في الأساطير الإغريقية "أوندينه Undine" مخلوقة خيالية أتت من البحر لتعيش على الأرض، يمكنها أن تقع في حب بشري، بشرط وحيد: إن خانها حبيبها فعليها أن تقتله وتعود إلى المياة. أما في "أوندينه" كرستيان بيتزولد، وفي المشهد الأول الذي يخبرها حبيبها فيه أنه بصدد تركها من أجل امرأة أخرى، ترد عليه بهدوء إنه إذا تركها سيكون عليها أن تقتله!
لا يُخفي بيتزولد المصدر الأسطوري لحكاية فيلمه المُشارك في المسابقة الدولية لمهرجان برلين السينمائي الدولي السبعين، لكنه يأخذ المغامرة السردية الذي خاضها في فيلمه السابق "ترانزيت" إلى مستوى آخر. "ترانزيت" كان حكاية فرار من النازية صورها المخرج في الزمن المعاصر، أما "أوندينه" فهي أسطورة تدور في الزمن الحاضر، وتحتاج لكثير من الجهد (وبعض المعرفة بالميثولوجيا ربما) كي تُلم بأبعادها.
أوندينه مؤرخة شابة، تعمل لدى بلدية برلين في وظيفة تتلخص في إلقاء محاضرات مختصرة عن التاريخ المعماري للعاصمة الألمانية، وكيف تطورت مباني المدينة عبر الحقب متأثرة بالوقائع السياسية. يتركها حبيبها في المشهد الأول كما أشرنا، لتعيش لحظات من عدم الاتزان قبل أن تقابل رجلًا آخر، يعمل غوّاصًا (لاحظ الارتباط بالمياة)، لتدخل معه علاقة تسير على الحد الفاصل بين الحب والشهوانية، إلى أن تتسبب المياة فيما يجعلها تنتبه أن لديها شأنًا لم تنهه بعد.
التحرر من الماضي والركون إليه
يتحرر كرستيان بيتزولد أخيرًا من وقائع الماضي (النازية وحكايات الهولوكوست وهوس برلين الشرقية) التي كانت الركائز الرئيسية لثلاثيته الأخيرة "باربرا" و"العنقاء" و"ترانزيت". لكن تحرر أقرب للانغماس. صحيح لا محارق ولا يهود هاربين من الجستابو ولا رهاب من الشيوعية، ولكن الماضي هنا هو منبع كل شيء، هو الجوهر الذي يجعل من حكاية أوندينه أكبر من معالجة معاصرة لأسطورة قديمة، بل تجعل المرأة معادلًا للمدينة. أوندينه هي برلين التي صاغ الماضي وجهها، أو للدقة أوجهها التي تبدلت حقبة تلو الأخرى.
في أحد أهم مشاهد الفيلم وبينما تستعد أوندينه (باولا بيير ملهمة بيتزولد الجديدة) لممارسة الحب مع حبيبها البديل (فرنتز روجوفسكي الذي شاركها بطولة "ترانزيت")، يفاجئها بطلبه أن تلقي على مسامعه المحاضرة التي كانت تتمرن عليه. "تقولين أشياء ذكية بطريقة جميلة"، يُفسر الطلب. وبينما تروي له أوندينه حكاية مبنى تغيرت طبيعته التاريخية، تصير معادلًا جرمانيًا لشهرزاد الليالي العربية: تجسد أرق وأقسى ما في الحكي، تخلب الألباب وتجعل أقوى الرجال أسيرًا للمرأة/ المدينة الأسطورية.
ككل الأفلام الكبيرة يستحيل الخروج بقراءة مباشرة، لن تجد هنا قراءة بيتزولد للماضي مجسدة في شخصيات رمزية، فقط فكرة حاكمة كبرى بألا فكاك من كوننا وليدي سياقنا. الحب والبغض، الضعف والقوة، الخيانة والوفاء، الواقع والأسطورة، كلها أمور وإن كانت مطلقة فإنها ليست معلقة في الهواء، بل هي وثيقة الصلة بمكانها، برلين البطلة الحقيقية للفيلم، وبزمانها الذي لا يتوقف عن تغيير أحوال المدينة/ البطلة. وهي على شاكلة بطلات بيتزولد الدائمات، عنقاء تموت مرارًا فقط لتخرج من الرماد بوجه جديد، أكثر قوةً وأشد ألقًا.
عبور الأنواع وأثره
برشاقة راوي قصص ماهر يتنقل بيتزولد في "أوندينه" بين الأنواع الفيلمية بلا توقف، من الرومانسية للفانتازيا للدراما وحتى الكوميديا، لا يكترث صانع الفيلم إطلاقًا للخانة التي سيوضع فيها، فقط يخوض اللعبة الأكثر صعوبة، أن تمتلك كل لحظة الجو العام والتأثير الملائم لها تحديدًا، على رهان أن يكون توالي اللحظات المصاغة ببراعة كافيًا لتقديم لوحة كلية لا يفوق غرابة عناصرها سوى تماسك تلك العناصر وقدرتها على أخذنا إلى عالم مواز. عالم يشبه عالمنا وشوارع تشبه تلك التي نتنقل بينها (لم يكن من الممكن أن يُعرض الفيلم في مهرجان آخر غير برلين)، لكنه ذو جوهر أسطورى، ولتمازج الواقع والأسطورة اسمًا نعرفه جميعًا: التاريخ!
تاريخ البشر سلسلة من علاقات الحب التي تنقلب انتقامًا، وأودينه محكوم عليها بتجسيد هذا التاريخ وإن لم تكن بشرًا. شيء ما في طريقة حركتها وحديثها يوحي بذلك، باولا بيير باهرة الجمال تُطلق العنان لأنوثة ذات مذاق غير مألوف. حسية غير بشرية وإن ارتدت الملابس الرسمية. وبينما يمتلك حبيبها الأول يوهاناس كل ما في الرجال من وسامة وغواية ونذالة أحيانًا، يأتي الحبيب البديل كريستوف مجسدًا الذكورة بمعناها البكر، الطفولي على فتوته، الراغب في الفناء والاستسلام داخل علاقة لا يعيبها إلا أنها قد أتت متأخرة.
وإذا كانت أوندينه مخلوقة مائية أتت من الماء وارتبط مصيرها به، فإن المخرج الكبير يجيد استخدامه كموتيفة بصرية دائمة الحضور، تبلغ قمة عذوبتها في مشهد تعرف أوندينه بكريستوف، وتتراجع لأقل مستوياتها في مشهد الانتقام الأشبه بأفلام الرعب الأمريكية (ربما يكون المشهد الوحيد الخارج عن السياق من حيث التنفيذ). لكنه يبقى اختيارًا واضحًا وواعيًا من صانع أفلام خبير بالحكايات متعددة القراءات.
يمكن تلقي فيلم بيتزولد على أكثر من مستوى، بإمكانك اعتباره فيلمًا رومانسيًا عن الحب ومفارقاته غير العادلة، أو عملًا ميثولوجيًا عن المنحى الأسطوري لحياة البشر، أو أن تراه قراءة في التاريخ الإنساني بشكل عام، وتاريخ عاصمة الألمان بشكل خاص.
وفي مسابقة برليناله 70 التي لا تزال لم تف بوعودها وتأت لنا بالكثير من الأعمال المدهشة، يظل "أوندينه" هو العمل الأكثر اكتمالًا وتأثيرًا، على أمل أن تُظهر لنا الأيام المتبقية من عمر المهرجان المزيد.