رغم كثرة الأفلام التي تتناول الحربين العالميتين، فإنه لا يكاد يخلو أي عام من وجود فيلم مهم ينتمي لهاتين الحقبتين، أو حتى يمر على أحداثهما بشكل ما.
عندما أعلن سام مندز عن أحدث أفلامه الذي يدور في قلب الحرب العالمية الأولى كما يبدو من عنوانه ”1917“ ظن البعض أنه فيلم آخر سيستعرض إحدى قصص البطولات كما في ”Hacksaw Ridge“ أو إحدى العمليات المهمة كما في ”Saving Private Ryan“ لكن رهان الفيلم كان على جانب آخر، إذ قرر سام ميندز أن فيلمه سيظهر كما لو كان مصورًا في لقطة واحدة طويلة، ونقول ”سيظهر“ لأن الفيلم ليس مصورًا في لقطة واحدة بل توجد بعض القطعات غير الملحوظة بوضوح بين المَشاهد وبعضها لتمنحنا الإحساس أن الفيلم مصور دون قطع.
رهان الفيلم كان على الجانب التقني، أو هكذا كنا نظن.
ملاحظة: المقال سيحتوي على كشف لأحداث الفيلم.
التكنولوجيا والفن
يُقال أن السينما أكثر الفنون ارتباطًا وتأثرًا بالتكنولوجيا، منذ انطلاق العروض الجماهيرية للسينماتوغراف عام 1895 وقبل ذلك، وتطور أساليب التصوير والعرض يؤثران بشكل واضح في صناعة الأفلام، وبينما لا يوجد سقف للتطور التقني، فإنه لا يوجد سقف أيضًا لطموحات صناع السينما وقدراتهم على تطويع كل تقنية جديدة لخدمة أفلامهم.
منذ الإعلان عن تفاصيل ”1917“، ولدينا تخوف من أن يكون مجرد استعراض للقدرة على تقديم لقطات طويلة ذات مدة قياسية وسط مشاهد الحرب، أو أن يطغى الاهتمام بالشكل على المضمون، لكن الفيلم خالف توقعاتنا ليقدم شكلًا شبه مثالي لتوظيف التقنية لخدمة المضمون السينمائي.
لا يبدو هذا التخوف مبالغًا فيه، إذ أن تقديم فيلم في لقطة واحدة يجب أن يكون له ما يبرره فنيًا. منذ عامين عرض فيلم ”Utøya: July 22“ والذي قدم تجربة شديدة التميز إذ صور لنا حادثة إطلاق النار على معسكر أوتيا في النرويج في لقطة واحدة طويل مدتها 72 دقيقة هي نفس مدة الحادث الحقيقي، وهنا يتضح سبب استخدام اللقطة الواحدة طيلة الفيلم تقريبًا، إذ هي لمعايشة الحادث والتفاعل مع الشخصيات، فما الفكرة التي تحتاج إلى اللقطة الواحدة في ”1917“؟
تدور أحداث الفيلم الذي كتبه سام مندز وكريستي ويلسون كارنز، عن مهمة بالغة الصعوبة مكلف بها جنديان إنجليزيان (دين تشارلز تشابمان وجورج مكاي) أثناء الحرب العالمية الأولى، وهي توصيل أمر لإحدى الكتائب القريبة نسبيًا بعدم الهجوم على الألمان لأنهم نصبوا لهم فخًا، ولما كانت وسائل الاتصال التقليدية مقطوعة، فإن هذين الجنديين هما الأمل الوحيد في عدم وقوع خسائر ضخمة إذا حدث الهجوم.
هكذا نجد أن اختيار اللقطة الواحدة هنا له ما يبرره دراميًا، إذ قرر المخرج أن يمنحنا حالة من المعايشة لهذه المهمة الثقيلة الملقاة على عاتق الجنديين، وهكذا نجد أننا بصدد خوض تجربة جديدة في هذا النوع السينمائي، أفلام الحروب، مع ما في هذا النوع من صعوبة تقليدية في تنفيذ المشاهد، بسبب طبيعة مواقع التصوير ووجود حركة للمجاميع وبعض الانفجارات، والآن لنا أن نتخيل كل هذا مضروبًا في لقطة واحدة تمتد لعدة دقائق، أي أن الخطأ الواحد سيعني إعادة كل هذا من جديد، والإعادة لا تعني مجهودًا فقط بل تكلفة أيضًا، لهذا لم يكن غريبًا أن تستمر بروفات التحضير لمدة 6 أشهر.
لكن مندز قرر أخذ التحدي لمستوى آخر. أحد الأسئلة التي يجيب عنها المخرج قبل بدء تصوير فيلمه هو: أين سأضع الكاميرا؟ هذا السؤال الذي سينعكس عليه كيفية تلقينا للمشهد، أي مشهد. في ”1917" الكاميرا طوال الوقت في حالة حركة تقريبًا، والكاميرا تتبع هذين الجنديين لكن هذا لم يمنع سام مندز من التحرك بحرية لصناعة لقطات جميلة وتوظيف الديكورات الخاصة بمواقع الحرب بطريقة شديدة الثراء داخل الفيلم، حتى إن بعض اللقطات كانت تدعو للتفكير في كيفية التصوير من هذه الزاوية بعينها.
يبدأ الفيلم ونحن مستمتعون بما نشاهده وبهذا الشكل المختلف للتصوير، لكن بمرور الوقت يتحول الأمر إلى ما يشبه ألعاب الفيديو، نتابع الشخصيات لعدة دقائق ثم تقع أزمة أو مواجهة صعبة يتخطونها ثم نتابعهم مرة أخرى وهكذا، حتى نصل إلى لحظة معينة يوشك فيها الفيلم أن يصبح تقليديًا ومتوقعًا، وحتى الإبهار البصري الخاص بالتصوير يكاد يفقد أثره، وهنا يحدث التدخل المهم من صناع الفيلم للخروج من هذا الفخ.
السينما والفيديو جيم
عند منتصف الفيلم تقريبًا، أو قبله بقليل يحدث التحول الدرامي الأبرز في الفيلم والذي يكرّس لكل ما سيأتي لاحقًا. يُقتل أحد الجنديين، وهو تحول صادم إذ نحن لا نتحدث عن شخصية ثانوية يمكن أن تموت كما يحدث في أفلام الحرب عادة، بل واحد من اثنين هما بطلا الفيلم، وهكذا يصبح وقع الصدمة والمفاجأة أكبر، لكن الأمر لا يتوقف على لحظة موته، التي كانت من أكثر اللحظات المؤثرة في الفيلم، بل على وقع هذا على مسار الفيلم، وعلى طريقة كتابته، فالحوار يقل بشكل ملحوظ بعد هذا المشهد بقليل وحتى قبل نهاية الفيلم بدقائق، وهنا نجد أن هذا الخيار في السيناريو يحمّل المخرج عبئًا إضافيًا، إذ أن عليه أن يبذل مجهودًا أكبر ليقول بالصورة كل شيء.
هكذا نجد أن النصف الثاني يصبح أكثر توترًا وذو إيقاع أسرع وتزداد فيه مشاهد المطاردات، لكن صناع الفيلم لا يكتفون بكسر قاعدة البطل الذي لا يموت بل يتمادون فيكسرون قاعدتهم الخاصة في الفيلم. إذ نجد في الثلث الأخير قطعًا واضحًا وهو الوحيد في الفيلم بهذه الصورة، يفقد فيه الجندي وعيه بضع ساعات قبل أن يكمل مغامرته، فبعد أن كان المشاهد يشعر أنه أمام لعبة أصبح هو اللعبة في يد مخرج يكسر القواعد كل عدة مشاهد بما فيها قواعد فيلمه نفسها، وكأن القاعدة الوحيدة الباقية هنا هي صناعة فيلم قوي ومختلف.
لكن لا زال أمامنا قاعدة أخرى سنكسرها في الثلث الأخير من الفيلم.
الانتصار والهزيمة
في هذا الفصل الأخير من الفيلم نجد توظيفًا شديد الجمال للحظات شروق الشمس، فنتابع مطاردة هي الأكثر تشويقًا في الفيلم، تدور في قلب الظلام ويخرج منها الجندي مع شروق الشمس، وبهذا يستغل كل التوقيتات الممكنة ويوظفها جماليًا لصناعة مشاهد تبقى طويلًا في الذاكرة، يساعده في هذا مدير التصوير الرائع روجر ديكنز.
مثل أي موسيقار يفسح مجالًا لجملة صولو جميلة يتبعها ببعض الهدوء قبل أن تدخل الأوركسترا كاملة لتختم مقطوعته، هكذا يفعل سام مندز، إذ بعد المطاردة المذكورة سابقًا يتجه الفيلم إلى الهدوء النسبي قبل أن يجد الجندي أخيرًا الكتيبة التي يجب أن يوصل لها رسالته وهنا نصل إلى القاعدة الأخيرة التي كسرها مندز، إذ أننا عندما بدأنا مشاهدة الفيلم كنا ننتظر أن يصل البطل -كما يحدث في أي فيلم أمريكي- في الوقت المناسب، أي قبل ثوانٍ من إعطاء الأمر بالهجوم، ولكن نظرًا لأننا لا نلتزم بأي قواعد هنا فإن الجندي يصل بعد أن يبدأ الهجوم بالفعل، بل إنه يركض أمام خطوط الجنود الذين يشاركون في الهجوم وتحت مرمى النيران في واحد من المشاهد التي ستبقى طويلًا في ذاكرة المشاهد وذاكرة السينما، مشهد نجد فيه كل جينات الفيلم، لقطة واحدة تتحرك فيها الكاميرا متابعةً البطل، وسط حركة مجموعات تبدو عشوائية لكنها أبعد ما يكون عن هذا، وتصميم إنتاج يجعلنا نشعر وكأننا داخل الحرب مع شريط صوت تمتزج فيه موسيقى توماس نيومان بالمؤثرات الصوتية للانفجارات لصناعة حالة يصعب تكرارها.
بعد هذا المشهد الاستثنائي يصل الفيلم إلى محطته الأخيرة وتصل الرسالة أخيرًا بعد أن تكون المعركة قد وقعت بالفعل وسقط بعض الضحايا، في محاولة أخيرة من الفيلم لتوضيح مساوئ الحرب ولقول إن قرار الحرب أخطر من أن يُترَك للعسكريين فقط.
يبقى سؤالٌ أخير، كيف سيُنهي المخرج هذه الملحمة بعد كل هذا التوتر، يختار سام مندز أن ينهي الفيلم كما بدأه، من وضع السكينة عند الشجر، مثلما استُدعي الجندي في البداية من تحت الشجرة، يرتكن إلى إحدى الأشجار التي نجت من الحرب ليرتاح.
فيلم ”1917“ هو واحد من أهم أفلام 2019 ومن أهم أفلام الحرب في السنوات الأخيرة، وأهميته لا تتوقف فقط عند ما ذكرناه في السطور السابقة، بل أيضًا عند كونه من الأفلام التي يخرج منها المشاهد وهو يفكر طويلًا في كيفية تنفيذ فيلم شديد الصعوبة بهذه الحرفية، وفي كيفية أن تجد جديدًا لتقوله في نوع سينمائي كان يبدو أن لا جديد يمكن أن يقال فيه.
اقرأ أيضا:
بعد 24 عاما... شاهد كيف تغير الممثل مؤمن حسن الشهير بـخضير في "لن أعيش في جلباب أبي"
على الهواء مباشرة... أمير كرارة يترك استديو "مساء dmc" فجأة