قبل قرابة الأربعة عشر عامًا ظهر فيلم "أوقات فراغ" ليُشكل ما يشبه الانتفاضة في السينما المصرية، ويجمع بين النجاح الجماهيري والإشادة النقدية بفيلم قدم المنتج حسين القلا فيه مجموعة من الموهوبين الشباب الذين كانوا يخطون خطوتهم السينمائية الأولى: المخرج محمد مصطفى والمؤلف عمر جمال والأبطال أحمد حاتم وكريم قاسم وعمرو عابد.
باختصار، كان "أوقات فراغ" فيلمًا مغمورًا بحسابات الصناعة السائدة، لكنه نجح في تحقيق المعادلة السحرية والوصول لقلوب المشاهدين لا سيما الشباب منهم، بتقديمه الحكاية غير المألوفة سينمائيًا لحياة الجيل الجديد، طلاب الثانوية الحائرين بين طموح لم يتضح وملذات في مرحلة الاكتشاف، وتخبط بين اندفاع المراهقة والقيود المجتمعية والدينية.
هذا العام، ومع الأيام الأولى في العشرية الثالثة من القرن الحادي والعشرين، يُقدم المنتج أحمد السبكي على محاولة لتقديم النسخة النسائية من التجربة، حكاية فتيات الثانوية ومشكلاتهن، مفتتحًا العام السينمائي وموسم نصف السنة بفيلم "بنات ثانوي" للمخرج محمود كامل والمؤلف أيمن سلامة، في استمرار لمحاولات مستمرة صار المنتج المخضرم مؤخرًا معتادًا عليها لتقديم أعمال ذات طابع جاد، مختلفة عن الصورة الذهنية المنطبعة لدى الكثيرين حول كل ما يحمل اسم "السبكي"، دون التفريق بين إنتاجات أحمد والأفلام الشعبية الرديئة التي يفضلها شقيقه محمد السبكي.
في المسافة الزمنية والدرامية والفنية بين "بنات ثانوي" و"أوقات فراغ" سيحاول هذا المقال اكتشاف الفروق وعقد المقارنات، التي لن تكون في حالتنا هنا استدعاء مبالغ فيه أو محاسبة للفيلم من خارج عناصره؛ فالمقارنة جائزة وقائمة في ظل كون الفيلمين ـ كل في سياقه ـ تجارب هادفة للخروج عن المألوف، ومحاولة لمخاطبة شريحة عمرية اعتادت السينما المصرية تجاهلها على أهميتها؛ فأفلام المراهقين والمدارس العليا Teenage / High school dramas وإن كانت نوعًا مستقلًا بذاته في السينما الغربية، تكاد تغيب كليًا عن سينمانا، ويكفي أن المقارنة الأكثر شيوعًا وقت صدور "أوقات فراغ"، كانت بينه وبين "احنا التلامذة" عاطف سالم الذي عُرض عام 1959!
سطوة التكنولوجيا.. بث حي لحياة جيل
في 2006 كانت حياة الشباب مختلفة عن نظيرتها في 2019، كان الإنترنت لا يزال حدثًا جديدًا على الغالبية، وسائل التواصل الاجتماعي لم تظهر للنور بعد، وأجهزة الكومبيوتر في الأفلام تظهر في خلفية الأحداث للدلالة على طبقة اجتماعية ينتمي إليها سكان هذا المنزل أو ذاك؛ وكانت هي المرة الأولى ـ إن لم تخني الذاكرة ـ التي نرى فيها استخدامًا آخر، أكثر جموحًا، للحاسب، عندما ظهر طالب الثانوي الذي لعبه كريم قاسم وهو يستخدم حاسبه الشخصي لمشاهدة أفلام البورنو سرًا.
لم تكن هذه سوى تفصيلة طريفة تقديمية للشخصية، لكنها حملت داخلها جذورًا يمكن مدها على استقامتها ليومنا هذا الذي صارت التكنولوجيا فيه إدمانًا لدى الكبار قبل الصغار. لكن إن كانت استقلالية الكبار تمنحهم قدرًا أكبر من الحرية، فالتكنولوجيا هي أداة الشباب لممارسة تلك الحرية ولو اختلاسًا. الأمر صار أكبر من متعة جنسية يسرقها شاب وهو يخشى اكتشاف أمره، بل بات في يد كل طفل هاتف متصل بعالم مفتوح على كل الاحتمالات، الصالح منها والكارثي.
يدرك المؤلف أيمن سلامة هذا الفارق جيدًا، فيفتتح فيلمه ببث مباشر من هاتف سالي (جميلة عوض)، يُدشن عرضًا حيًا مستمرًا لحياة تسيطر على صاحبتها الرغبة في إذاعة كافة تفاصيلها للجميع. هنا استخدام البث المباشر يلعب ثلاثة أدوار متوازية: فهو حيلة سردية يمكن للمؤلف من خلالها الحديث عن الشخصيات بشكل مباشر عندما يلزم الأمر، وهو تفصيلة محورية في رسم شخصية سالي، أكثر الفتيات الخمس درامية وابتعادًا عن النمطية، والتي نشك في البداية أنها تكذب وتبالغ كي "تتجمل" قبل أن نعي كونها بالفعل صريحة وصادقة في أغلب ما تقوله، وهو ـ البث المباشر ـ رابط زمني، يذكرنا طوال الوقت بقدر التعقيد الذي يمكن أن تتعرض له مراهقات العام 2020 مقارنة بماض كان الأب فيه يرفع سماعة الهاتف فيعزل أبنائه كليًا عن العالم.
المال والجنس.. محرك رئيسي وتجاهل متعمد
اختار صناع "أوقات فراغ" أن ينتمي أبطالهم قلبًا وقالبًا للطبقة الوسطى، أبناء أسر عادية بعضها ميسور الحال وبعضها يعاني بعض الشيء، لكن في النهاية احتياجات الأبناء مكفولة، وحتى من يعاني منهم ماليًا فهي معاناة سببها قسوة الأب أكثر من كونها أزمة مالية حقيقية. خيار الأمان المادي قاس دراميًا؛ يفقد الكاتب فرصًا ذهبية للدراما (فليس هناك دافع درامي أقوى من الحاجة للمال)، لكنه خدم الفيلم وقتها بأن جعله بالفعل قادرًا على التواصل مع القطاع الأعرض من الجمهور الآت من أسر تشبه أسر الأبطال.
على النقيض يظهر المال كدافع درامي رئيسي في "بنات ثانوي"، فالفتيات الخمس بلا استثناء ترتبط مشكلاتهم بشكل مباشر بالمال: الفتاة التي انتقل والدها لطبقة اجتماعية أقل فتغيرت حياتها، الفقيرة التي تكاد تنفق على والدها المدمن، ثالثة سافر أهلها بحثًا عن المال فعاشت مع أخيها وحدهم، رابعة فقدت أهلها فتعيش مع خالتها وتحب شابًا في مدرسة اللغات (أغنى منها بطبيعة الحال)، وأخيرًا الجريئة المدللة التي تؤمن أن واجب والدها هو توفير احتياجاتها ولو على حساب نفسه.
لخيار الطبقة كما يتضح تأثير درامي هائل؛ فمعظم ـ وليس كل ـ أزمات هؤلاء الفتيات ما كانت لتظهر لو كنّ بنات أسر تمتلك قدرًا أكبر من المال، وبالتالي فالمؤلف يبني حكاياته ارتكازًا على مجموعتين متوازيتين من الدوافع: الحاجات المادية (ومن المفروغ منه أن المراهقات غالبًا ما تحلمن بظروف حياة أفضل، مهما كان نمط حياتهن الحالي)، والحاجات العمرية البديهية كالرغبة في الوقوع في الحب وفي التميز بين الأقران وغيرها.
يظهر هنا تجاهل واضح ـ ومقصود على الأرجح ـ لأثر الاحتياجات الجنسية على البطلات، بالرغم من كونهن في السن الذي يبلغ فيه تأثير رغبة اكتشاف الجنس الحد الأقصى، فإن صناع الفيلم يقررون، لأسباب إنتاجية على الأرجح، أن تكون بطلاتهم أطهر من مريم العذراء، لا يخطر الجنس على بالهن ولا تتحدثن عنه مع بعضهن. وحتى الخط الوحيد الذي يتطور لعلاقة جنسية حقيقية (لن نكشفه حتى لا نحرق الأحداث) فمحركه الرئيسي احتياج نفسي تعويضي أكثر من كونه جاذبية جنسية. ناهيك بالطبع عن الاستنتاج الأخلاقي النهائي للخط الذي سنتعرض له لاحقًا.
هنا تظهر قيمة "أوقات فراغ" في تعامله الناضج مع الجنس في حياة الشباب، فمن الدقائق الأولى ـ راجع ما ذكرناه عن تقديمة كريم قاسم ـ لم يدفن الفيلم رأسه في الرمال ويتظاهر بأن الأمر غير موجود، بل يضعه في سياقه كأحد المحركات المؤثرة في أفعال الأبطال. مفهوم بالطبع اختلاف قدر الحساسية بين الأبطال الذكور والإناث، لكن كان من الحريّ بمن يحاول طرح مشكلات حياة "بنات ثانوي" أن يمتلك قدرًا أكبر من الجرأة في رصد وتحليل تلك الحياة.
السير على حافة اليوميات.. سقوط وسط الرحلة
(تحذير: قد يكشف الجزء التالي من المقال تفاصيل من حبكة الفيلم)
أحد أهم عناصر القوة في "أوقات فراغ" التي كفلت له النجاح والبقاء في الذاكرة، كان قدرة صناعه على جعله دراسة حالة من قلب يوميات المراهق المصري في مطلع الألفية الثالثة. التخبط والبوصلة المضطربة، المجتمع المحافظ في مواجهة نزق الشباب واندفاعه، والملذات الصغيرة التي يحاول الأبطال انتزاعها دون التورط فيما هو أكبر مما تحتمله أعمارهم.
لذلك كان أذكى ما في سرد الفيلم هو تشابه بدايته ونهايته، فبعد فورة إيمانية سببها التعرض لصدمة ضخمة بوفاة الصديق، تعود المياة تدريجيًا لمجاريها، وتنتصر أحكام الطابع الغالب على التطبع، ويصبح الصديق الراحل ذكرى في مؤخرة ذاكرة شباب يبدأ حياته رافعًا شعار "بنلف في دواير.. والدنيا تلف بينا.. دايما ننتهي.. مطرح ما ابتدينا"، كما ذكرت أغنية الفيلم البديعة.
المؤلف أيمن سلامة حاول في مطلع "بنات ثانوي" أن يحقق النجاح نفسه في تسجيل يوميات مراهقات اليوم، عارضًا أحداث صغيرة في حيوات بطلاته الخمس، ليقدم فصلًا أول هو الأفضل والأكثر تماسكًا في الفيلم بأكمله، فصل تسير فيه الدراما على حافة اليوميات وليس في قلبها. لأن كل مشاهد يعلم جيدًا أن ما يراه وإن كانت أحداث صغيرة مشابهة لحياة أي فتاة في عمر البطلات، فإن الفيلم لن يكتفي بمعناها هذا، وإنها في الأغلب تمهيد لدراما أكبر ستظهر لاحقًا.
بالفعل لا يخيب الفيلم التوقعات، وقبل بلوغ منتصف الفصل الثاني يبدأ رحلة سقوط درامي مدوية في بئر الميلودراما، لتنفجر الفواجع واحدة تلو الأخرى في حياة البطلات بشكل متواز، ويتحول كل ما كان أشبه باليوميات إلى ما يصلح لفيلم على شاكلة أفلام الخمسينيات ولكن بتفاصيل عصرية: زيجات عرفية ومحاولات ابتزاز جنسي وانتحار ومؤمرات زوجية بل وجثة يجب الخلاص منها. وحتى الفتاة التي ينسى المخرج أن يرسم لها حياة أسرية في الفصل التقديمي (هدى المفتى)، يظهر لها من العدم أب مكافح تدفعه للعمل بجنون من أجل توفير احتياجاتها، أب لا يظهر سوى في مشهدين أحدهما لنتعرف عليه متأخرًا والآخر لتفجعنا أزمته الصحية.
لاحظ أننا نسبنا الخطأ الأخير للمخرج، ففي الأغلب تقديم خلفية الشخصية موجود في السيناريو وتم حذفه من النسخة النهائية من الفيلم، لكن ما ننسبه للمؤلف فهو بالتأكيد هذا الانهيار المفاجئ الذي نقل الفيلم من مساحة يمكن فيها لمشاهدة مراهقة أن تتماهى فيها مع هذه البطلة أو تلك، إلى مساحة لا يمكن خلالها أخذ العمل بجدية تفوق ما نمنحه لمسلسل اجتماعي من أعمال قطاع الإنتاج!
اغسل يديك قبل الأكل وبعده
نصل للنقطة الأخيرة التي تمنح "أوقات فراغ" أفضلية مطلقة، وهي الإجابة على السؤال المعتاد: لماذا صُنع هذا الفيلم؟
لا غبار هنا على جدية الصناع، فالمخرج محمود كامل أثبت نجاحه في أكثر من عمل سينمائي وتلفزيوني، ويظهر هنا قدرًا أكبر من ضبط أداء ممثلاته اللاتي تخرجن جميعًا في صورة جيدة، وعلى رأسهم مايان السيد التي أراها للمرة الأولى لتلفت الأنظار لا سيما وهي تؤدي أقل الشخصيات امتلاكًا لدراما وملامح خارجية واضحة. حتى جميلة عوض التي انتقدت أدائها من قبل في أحد المقالات تتمكن أخيرًا من رسم شخصية متماسكة ذات ملامح وسمات مختلفة عمن تؤديها.
لكن هذه الجهود الملحوظة من فنانين شباب تصير فجأة مرافعة مباشرة شديدة الرجعية، تخبرنا صراحة أن تضييق الخناق على الفتيات أمر محمود لأن "مش كل القديم وحش، خصوصًا في التربية". القول الذي لا أسخف من محتواه سوى كونه يأتي على لسان فتاة تُثبت خلال الفيلم رجاحة عقلها وسلامة منطقها وقدرتها على تقييم المواقف والأشخاص، قبل أن يورطها السيناريو في مأزق فانتازي احتمالات حدوثه في الواقع لا تتجاوز احتمالات سفر بطلات الفيلم في رحلة جماعية للقمر.
"أوقات فراغ" أظهر مراهقيه يشربون الخمور ويدخنون الحشيش ويلتقون بعاهرات، لكنه كان عملًا تقدميًا في جوهره، يؤمن بأبطاله ويتفهم طبيعة المرحلة العمرية التي يمرون بها، فهي مرحلة عسيرة ومحفوفة بالمخاطر، لكن ملايين البشر يعبرونها دون خسائر هائلة، بل وبخبرات تساعدهم في خوض حياة البالغين.
أما "بنات ثانوي" ففتياته طاهرات، أقصى جرائمهن الأخلاقيه هي تدخين السجائر أو الخروج مع شاب في سيارة، لكن هذا لا يشفع لهن، ولا يحميهن من الوقوع في كوارث تكاد تطيح بمستقبلهن. ومن المؤسف حقًا أن يكون مجموع اسهامات فنانين موهوبين أوقن أن كل منهم بمفرده إنسان تقدمي مؤمن بالحريات الشخصية، هو عمل يضيع جودة البدايات وينتهي بميلودراما وعظية عتيقة الطراز تروّج لخطاب رجعي آمن تجاوزه الفن المصري قبل أربعين عامًا بالكمال عندما قال فؤاد المهندس "سك على بناتك بس اديهم المفتاح"!
اقرأ أيضا:
أحسن 20 فيلمًا عربيًا في 2019 (قائمة شخصية)
برليناله 70: ماتيو جارونى وأكرم زعتري أبرز الأسماء في أول دفعة معلنة من أفلام مهرجان برلين