من الفاعل؟
قصص الجريمة التي تتمحور حول فكرة "من الفاعل"، يرجع أساسها إلى أدب الغموض، أدب أجاثا كريستي، وآرثر دويل (مبتكر شخصية شيرلوك هولمز)، ومن الأدب امتدت للسينما وأصبحت نوع أصيل، بسبب تشابهاته التي أصبحت أقرب للقواعد.
من ضمن هذه القواعد، لدينا جريمة قتل، عدد كبير من المشتبهين، كل منهم لديه دافع للقتل، ومحقق فائق الذكاء، عادة ما نحاول حل اللغز معه، لكنه يسبقنا لحلها، بحيث نكتشف الحل في نهاية الفيلم، هذا هو بناء قصص "من الفاعل" وقصص الجريمة والغموض، سواء في الأدب أو السينما.
ملك التشويق
كل ذلك تغير عندما قام هيتشكوك بصناعة أفلامه، فقد كان لديه نظرية، مفادها إن التيمة المتكررة لأعمال الجريمة، تفتقد التشويق، لأنها تصبح مثيرة للاهتمام فقط في النهاية عند لحظة الكشف أو التنوير، ولذلك، تصبح مملة، عند إعادة المشاهدة.
وبناء على هذه النظرية، قام هيتشكوك بابتكار نوع جديد من التشويق، بحيث إنه قد يكشف لنا القاتل في منتصف الفيلم أو حتى في أوله، أن يجعلنا نشك في وجود جريمة من الأساس، أو حتى أن يقوم بقتل الشخصية الرئيسية بعد نص ساعة من مرور الفيلم، هيتشكوك في كل فيلم، كان يقوم بفعل جديد لتحقيق حالة التشويق، حيث نشاهد دائماً لعبة القط والفأر، وينجح في جعل المشاهدين، متشوقين حتى آخر لحظة، ولذلك فهو لم يسمي "ملك التشويق"، من فراغ.
تجانس النوعين
ريان جونسون، الكاتب والمخرج هنا، قام بعمل شيء شديد الابتكار، وهو الدمج بين النوعين، نوع "من القاتل" القادم من عالم أجاثا كريستي، وتشويق القط والفأر، القادم من عالم هيتشكوك، كأنه يرسل تحيية لكليهما، وفي نفس الوقت، يقوم بصناعة فيلم مبتكر وشديد الطازجة.
(الجزء القادم يحتوي على حرق للأحداث)
فالفيلم يبدأ بمكونات "من فاعل" المعهودة، الجريمة، المشتبهين، الدوافع، والمحقق فائق الذكاء، لنتفاجأ بعد مضي فترة من الأحداث، أن الفيلم يكشف لنا الفاعل، ويلعب لعبة هيتشكوك، لعبة القط والفأر بين المحقق والقاتل.
لكن التجديد لا يتوقف هنا، فالفيلم يجعلنا نتعاطف مع الفاعل، بحيث لا ندرى لأي منهم يجب أن نشجع أو أن نخاف عليه، وهي لعبة تشويقية وحسية مثيرة جداً.
الشيطان يكمن في التفاصيل
في أحيان كثيرة، تبالغ أفلام الغموض في الأسرار والتواءات الحبكة، لنتفاجأ عند المشاهدة الأولى، لكننا إذا شاهدنا الفيلم مرة أخرى، أو حتى فكرنا فيه، فمن السهل أن نجد فجوات غير منطقية في الحبكة وأفعال الشخصيات.
هنا الوضع مختلف، فالفيلم يتحدانا لنفكر أو نشاهد مجدداً، لندرك أن كل تفصيلة مفاجئة لها سياق. فالسيناريو هنا، يستخدم تقنية في الحكي تسمى "التأسيس والحشد"، حيث يأسس لنا مجموعة من المعلومات، أو التفاصيل، التي قد تبدو غير مهمة في أول الفيلم، ليقوم بحشدها جميعاً في النهاية، لندرك إن لكل نتيجة سبب رأينا مسبقاً، ولذلك فهو سيناريو محكم ومحبوك بشكل مدهش.
كوميديا مبتكرة وشخصيات مميزة
جونسون قام بالاستفادة من مبدأ التأسيس والحشد لسبب آخر غير حبك التفاصيل، فقد استفاد منها كوميدياً بأن جعل لكل شخصية، تفصيلة مميزة مرتبطة بها.
فمثلاً، لدينا هنا شخصية فتاة تقوم بالقيء في كل مرة تكذب بها، وبجانب إنها تفصيلة تم توظيفها واستخدامها، عدة مرات في الحبكة، لكنها أيضاً مبتكرة وجذابة جداً كوميدياً، خاصة إن جونسون كان يستخدمها بشكل مختلف في كل مرة، مما يجعلها فعالة دائماً من حيث إثارة الضحكات.
ورسم الشخصيات المميز يمتد إلى تفاصيل صغيرة مثل جعل الشخصية المحقق ذات لكنة أمريكية جنوبية، مما جعل نجم جيمس بوند الوسيم، دانيال كريج يظهر بشكل مغاير تماماً عن كل أدواره، ومثله، كريس إيفانز، المعروف بدوره الجاد والمتصلب لكابتن أمريكا في أفلام مارفل، فأن دوره هنا على النقيض، وبالطبع، آنا دي آرماس، التي كان أدائها ودورها هو مفاجأة الفيلم عن استحقاق.
والكوميديا هنا ليست في المواقف ورسم الشخصيات فقط، ولكن في جمل الحوار المكتوبة بذكاء شديد، فهناك جمل مكونة فقط من كلمتين قد تجعل المتفرج ينفجر ضحكاً.
مخرج إيقاعي متمكن
ولذلك نستنج أن أهم عناصر الفيلم هما التشويق والكوميديا، وكلاهما ناجحين تماماً، بسبب التحكم المدهش في كل تفاصيل الإيقاع، بداية من السيناريو، إلى تسكين الممثلين وتوجيههم في طريقة الأداء ليتمكنوا من ضبط تون جمل الحوار الكوميدية، مرروا باستخدامه لحركة الكاميرا المستمرة، اما للتشويق أو للكوميدياً، والتوظيف الجذاب لديكور المنزل، وهو العنصر المهم جداً في هذه النوعية من أعمال "من الفعل".
كل هذا، ينتهي عند المونتاج، الذي يحيك كل هذه التفاصيل، فحركة الكاميرا وقطعات المونتاج هنا، مثلها مثل الإيفيهات الكوميدية التي تثير الضحك، ونتيجة لكل ذلك، يمكننا القول بكل أريحية، إن جونسون مخرج إيقاعي بامتياز، ويستحق إشادة نقدية على مجهوده المدهش في هذا الفيلم.
نقد سياسي واجتماعي ناضج
بالإضافة لكل ذلك، فأن الفيلم هذا الفيلم التجاري الممتع، يقدم نقد سياسي واجتماعي حاد، عن أحوال المهاجرين في أمريكا، ونظرة المجتمع الأمريكي الدونية لهم، وللطبقات الفقيرة عموماً.
بالإضافة إلى تفاصيل أخرى عصرية، مثل تأثير السوشيال ميديا على سلوكية وشهرة بعض الأشخاص وغيرها من التفاصيل الطازجة.
والجميل في كل ذلك، أنه غير مقحم، أو مفتعل، بل على العكس، نجح جونسون في توظيفه في دارما حبكته بشكل تلقائي وشديد النضوج، نضوج قد لا نجده في أفلام، من المفترض أن تكون فنية، "تحمل قضايا هامة!".
في النهاية، ولكل هذه الأسباب، فأن فيلم Knives Out هو واحد من أفضل وأمتع أفلام العام، وأكثرها ابتكارا وحبكاً في التفاصيل.