تكمن أهمية فيلم المخرج الفلسطينى إليا سليمان "إن شئت كما فى السماء" أو إنها حتما الجنة”الذى عرض فى مهرجان القاهرة السينمائى مؤخرا، وسبق عرضه وفوزه بتنويه لجنة تحكيم مهرجان "كان السينمائى” الماضى، فى كونه صورا لرحلة البحث عن الهوية، والقضية، والإنسان، فهو يبدأ رحلته المعقدة الصامتة طول الوقت، حيث إنه خلال أحداث الفيلم الممتدة يعبر بالصمت إن شاء التعبيرأو كما يقول هو بالرسم، حيث يقدم لنا فيلما اشبه بلوحات ..متعايشا مع الشخصية الكاريكاتورية التى عبر بها ناجى العلى رسام الكاريكاتير الفلسطينى الراحل عن القضية الفلسطينية، وعن الصمت العربى،فى أوج الصهينة ..وإقتبس "سليمان" أفيش فيلمه من شخصية "حنظلة” وهو مكتوف الأيدى يعطى ظهره للعالم ..ينتظرأملا قادما فى البحر ..
لا يمكن الوقوف عند الفيلم كعمل روائى تقليدى، فهو حالة صدق أراد بها صانعه توصيل ما بداخله من معاناة عاشها، وكانها رحلة قاسية من "الناصرة” الى نيويورك” والى “باريس” ثم العودة الى الأرض والجذور “الناصرة” بفلسطين مرة أخرى ..
وحتى على مستوى التكنيك، هو لم يلجا الى التعقيد وإقحام الرؤى الإخراجية بالبلدى “الفذلكة” بل أدخل المشاهد معه فى ألبوم من الصور
السينمائية الممتعة، والتى تجعلك تتهكم تارة وتشمئزمن أفعال المحتل أخرى، وتشفق على البطل المتنقل بين البلاد باحثا عن قضيته، ساخرا من إستغلال إبن البلد جاره الذى يسرق حديقته، بل يقوم بزرع شجرة صغيرة بها أملا فى إحتلال داخلى .. وعن قصد أراد أن يقدم لنا فيلما بدون صوت طلقات الرصاص، أو ضجيج الدبابات،والشعارات التى سئمناها، بل يقول كل شىء دون ان ينطق بشىء .لم يقل سوى كلمة واحدة هى الإسم والوطن "فلسطينى من الناصرة”.
الفيلم ممثلا لفلسطين فى ترشيحات الأوسكار القادمة، يحظى بقدر كبير من الإهتمام ليس لأنه عن القضية الفلسطينية، ولكن لرؤية شمولية طرحها إيليا سليمان بأن العالم كله ينقسم إلا محتل وكائن آخر يعيش تحت الإحتلال، ولكن بصور مختلفة، فحتى الإنسان قد يعانى من الإحتلال وهو يواجه العالم بمفرده .
التعبير الذاتى لم يكن عن الوطن فقط، بل الهوية التى تضيع مع الغربة، مع الأحلام التى تجهض، هو مخرج يبحث عن منتج لفيلمه الصامت، والشفرة هى فلسطين، يواجه حلمه بالرفض.
فإيليا سليمان المولود بالناصرة فى 28 يوليو من عام 1960، صال وجال ومازال في مهرجانات العالم يشرح قضيته بطريقته الخاصة، فهو عانى كثيرا من بطش المحتل،منع من التدريس،والتجوال في وطنه،وإعتقل على أيدي جنود الإحتلال.
له رؤيته فى تناول قضيته، فهو يرفض السرد التقليدي في السينما، مؤكدا، إن أكثر ما يخدم الإختلال هو تقديمنا لسينما تقليدية،مملوءة بالشعارات،التي لا تخدم القضية.."حينما نقدم أفلاماً شعاراتية فإننا نخدم الاحتلال، والأمر ذاته حين نصنع أفلام "بوب كورن”مركّبة أميركياً على حكايتنا، أي ذلك السرد الساذج المبني على فكرة البطل والإنتصار الوهمي، أو حتى تلك الأفلام التي تحمل التركيبة الكلاسيكية، وهذا موجود بكثرة عندنا، ولأسباب عدة، من بينها أن طموحات بعض المخرجين هوليوودية تجارية، لأن "سينما الفن”ليست مغرية للمنتجين.
فيلمه “إن شئت كما في السماء"المرشح لتمثيل فلسطين فى الأوسكار،وهى المرة الثانية التي يرشح فيها فيلما له للأوسكار بعد فيلمه السابق”يد إلهية"يلقى إهتماما كبيرا من السينمائيين العرب، كونه عملا تجريبيا على مستوى عال من الدينماكية،تشعر وأنت تشاهده بإن كل مشهد مصور ليقول لك شيئا عن فلسطين، رغم إن البطل والذي يقوم بدوره إيليا سيلمان،لاينطق بكلمة واحدة منذ بداية الفيلم وحتي المشهد الأخير .
هو أراد أن يكون شاهداعلى كل شيء،دون أن يصور لنا عنفا ظاهريا،لأنه كما يقول لم يري فى السينما التى تقدم عن فلسطين للعالم جدوى،لأنه يكره أن تكون صورة الفلسطيني،هو ذلك الضعيف،غير القادر على مواجهة المحتل،وإنه دائما الأقوى بما يمتلكه من أسلحة وعساكر،فكان الحل الأمثل للخروج بالقضية الى العالم هو السرد البديل، ويقصد به سينما برؤية أخرى، قد تكون غير مباشرة، لكنها مؤثرة .
يقدم لنا حياته البسيطة من الناصرة بفلسطين بمشاهد للكنائس ثم مشهد له وهو يراقب الناصر من شرفة حديقته، وجاره الذي يقوم بسرقة ثمار التفاح،يقنعه بأنه كان سيستئذنه،وإنه في مشهد آخر يقوم برعاية الثماروالأشجار.حتى الصياد البسيط، يخترع له الأكاذيب عن بطولاته فى فى إصطياد النسور وهو ضعيف غير قادر على تحمل بلل الأمطار.العنف صار فى الحكايات قتل نسرا وترك أفعى لأنها ألقت عليه التحية .
في شوارع باريس يتنقل من مقهى لآخر،يصور لنا حياة البشرممن نظن أنهم مثاليون، يعيشون فى كوكب آخر نحن العرب طبعا،لكنهم ليسوا كذلك،العنف يطاردنهم فى كل مكان.
فى مشهد يلخص حال المؤتمرات التي يقيمها العرب فى المهجر، جمهور يهتف، وثلاثة عشر متحدثا عربيا عن القضية على منصة واحدة..ومقدم المؤتمر يطالب الجميع بالهدوء، كونأنه لابد وإن يتحدث الجميع عن القضية،فلو إستمر الضجيج،لما تحدث الجميع،دليل على الثرثرات التي لافائدة منها عن القضايا العربية فى خارج الحدود.
تجربة سينمائية خاصة، ليست كباقي التجارب المباشرة،أو كسينما التباهي، والتفاخر، بأن فيلما به مشهد لبطل يحرق العلم الإسرائيلي، ليس همه ان يبعث برسالة، كتباهيه أمام الجمهور بأنه فعل ذلك،حتى يحصد مئات الألاف من الجنيهات، من شباك التذاكر.
هو يرى إن فيلمه عن فلسطين عندما تعولمت،عن عولمة العنف، وعولمة الإحتلال بأشكاله المختلفة"..ومن ثم يحاول أن يخرج القضية من محليتها بالسينما، بعدما فشلت كل محاولات المؤتمرات التى تعقد فى كل دول العالم تقريبا، تندد، وتشجب فقط ...هو يشجب ويندد ولكن على طريقته الخاصة على طريقة "غيليا سليمان ..إن شئت كما فى السماء"..لا كما فى يد البشر!