"في البدء كان الوجه، ثم جاء بعده كل شيء".. هكذا قال سِفر الفن المُقدّس، إصحاح الحضور، آية التأثير، عن تلك الوجوه الفريدة، التي وُضعت في ملامحها أسرار القبول، و"سحر العيون"، حتى باتت مغاليق القلوب تُفتح فور رؤياها، لتدخل بلا استئذان.
يمكنك اختبار ذلك في سِيَر النجمات اللاتي تربعن على عروش القلوب، وبلغن مكانات أسطورية في خانات النجاح والجماهيرية الطاغية على امتداد تاريخ فن التشخيص، لتوقن كيف كان وجه كل فنانة ناجحة هو جواز مرورها الأول، وقطعة المغناطيس الخارقة، التي لا تفهم هي نفسها كيف ضخ فيها الإله تلك القدرة الفائقة على اجتذاب الجميع، وتحويلهم إلى توابع مسحورة!
بعضهن أسئن استخدام ذلك "السوبر باور" حتى تحول مع مرور الوقت إلى ما يشبه الشوكة الثلاثية في أيادي الشياطين، فارتبطت قدراته بالإغواء، والتضليل، وإثارة الحرائق، والبعض الأخر منهن أجادن استخدامه خير استخدام، بما يليق بملائكية الوجه، وسمو الروح، حتى تفتقت الظهور والأكتاف، وخرجت منها أجنحة خفَّاقة، تُرفرف في سماوات الإبداع والإنسانية، وليس هناك أروع من نيللي كريم حتى يُضرب بها المثل للتعبير عن النوع الثاني من جميلات الفن العظيمات، ذوات الأجنحة!
هل أقول ذلك بمناسبة خضوعها مؤخرًا لعملية جراحية دقيقة، استأصلت فيها ورمًا حميدًا خلف الأذن، بجوار عصب الوجه الأساسي، في أحد المستشفيات بالولايات المتحدة الأمريكية، وتوجهها بالشكر للفريق الطبي الذي أنقذ حياتها؟!
ربما.. أو ربما كان بداخلي – مثلي مثل كل جمهورها - الكثير من الود والامتنان تجاه فنانة أراها الأعظم والأروع بين جميع فنانات جيلها والأجيال التي تلتها، ولم تكن الجراحة الأخيرة إلا سببًا لتجديد باقة الحب والاعتراف بقيمة فنانة وإنسانة، كل كلمات المديح لن توفيها حق قدرها الفني والإنساني.
قلت سابقًا ولازلت أجدد القول، أن نظرة متأنية على مشوار نيللي بعين فاحصة، ستجعلك تدرك إنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من فراغ، باختصار نحن أمام نموذج إبداعي فريد معجون بالفن منذ نعومة الأظافر، من خلال طفلة وجدت نفسها "باليرينا"، التحقت بمدرسة الباليه منذ أن كانت في الرابعة من عمرها، لتبدأ رحلتها مع الفن والإحساس مبكرًا، قبل أن تنقلها الموهبة والملامح الجميلة من الأوبرا إلى الشاشة الفضية في فوازير "حلم ولّا علم"، ثم وجدت فرصة عمرها حين وقفت أمام فاتن حمامة في مسلسل "وجه القمر"، لتدخل كل بيت كواحدة من أفراده، دون أن يشعر معها المشاهد بالاغتراب أو الإقحام.
وحين أسندت لها أولى بطولاتها السينمائية في فيلم "سحر العيون"، جسدت نيللي شخصية "كابر" بأداء وتلقائية يُنبيء بموهبة فذة قادمة في الطريق، رغم أن العمل كان "لايت كوميدي"، لكننا استشعرنا فيها تلقائية عبلة كامل وأدائها السهل الممتنع، مع فارق السن والشكل بالطبع.
ومع بطولة فيلم "إنت عمري"، وجدنا أنفسنا أمام نيللي أخرى غير التي عرفناها من قبل، لننسى ونتناسى تماما كونها وجهًا جميلًا على الشاشة، وننفذ إلى أعماق شخصيتها المركبة التي جسدتها بعبقرية مذهلة، جعلتها جديرة باكتساح العديد من جوائز المهرجانات وقتها، لتحتكر جائزة أفضل ممثلة عن حق واستحقاق، بعد أن أمتعت وأبكت الملايين، قبل أن تعود لتتمرد من جديد عن كونها مجرد وجه جميل، وتخلع المكياج والملابس الفخمة، وتجبرنا فقط على التركيز على موهبتها وحضورها الطاغي في فيلم "واحد صفر"، ورغم ذلك ربحت الرهان، وفازت في التحدي.
ومع دورها في مسلسل "ذات" كانت نيللي أمام نقطة تحول وعلامة فارقة في مشوارها الفني، لتكتسب الثقة الكاملة في نفسها وموهبتها، وإقبال الجمهور على أعمالها أيًا ما كانت، حتى اني تساءلت وقتها: ما هذه الفنانة الساحرة؟ كيف لم تصل للعالمية وتنافس نجمات هوليود وهي الأجمل والأشطر، ومعها موهبة فذة وقدرة خارقة على اختراق الوعي والذهن والمشاعر مهما كانت الحواجز بين الجمهور والفنانين القابعين خلف الشاشة؟!
ثم دخلت بعد هذا النجاح المُدويّ في "سجن النساء"، كفنانة تدرك تماما حجم موهبتها، والنضج الفني الذي وصلت إليه، لتُلقي بكلماتها وهي تعلم أنها ستصيب، وتصوب بأحاسيسها ومشاعرها وأدائها وهي توقن أنها ستصل للهدف، بعد أن خرطها خراط المواهب، ووصل بها إلى حد الكمال، فأصبحت نجمة تفعل ما يحلو لها فيتقبله المشاهدين عن طيب خاطر وينبهرون به أيًا ما كان.
سقط الحاجز الفاصل بين نيللي وأي شخصية تؤديها.. بين التمثيل والحقيقة.. بين الواقع والخيال، لتجمع في أعين محبيها بين كل مزايا الشخصيات التي لعبتها.
واليوم أضيف، أن تلك الساحرة الرقيقة التي تحولت لأسطورة في عالم الفن، قد واكب نضجها الفني على مدار السنين نضجًا إنسانيًا أخر، تماهى فيه جمال وجهها الملائكي مع جمال أعمق وأعظم بكثير، وهو جمال الروح.
فهمت نيللي مع التصاعد السريع في مشوارها الفني، طبيعة المسؤولية الملقاة على عواتق المشاهير في جبر الخواطر، ومساعدة المحتاجين، وتحفيز الجماهير على المشاركة في العديد من المبادرات المجتمعية. منحت شهرتها واسمها الرائج لكل موهوب مجتهد، يحتاج لبريقها في بداية مشواره؛ حتى تتسلط عليه الأضواء ويختصر الكثير من الخطوات.
كل متابع لحساباتها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي سيجدها تشارك العديد من اللحظات السعيدة مع أخرين أخذوا زمام المبادرة، وكانت حريصة على أن تكون معهم بالدعم والمؤازرة بروح جميلة شفافة، وقلب طفلة تخبرك ملامحها الطيبة، أن هذا العالم رغم قساوته السوداء، لازال به مكانًا للون الأبيض.. في مشاريع الأكل، في المعارض الفنية، في أعياد ميلاد الوجوه الشابة رغم فارق النجومية، بل ومع بسطاء عاديين لم تقل لهم يومًا حين طلبوا التصوير معها: "بعدين"، أو "معلش بلاش دلوقتي"، أو "أصلي مش حاطة مكياج ومش هينفع أتصور كده" مثلما يفعل الكثيرون، وغيرها من التصرفات التي يندر تكرارها في وسط فني تعمي فيه الأضواء قلوب أصحابها، رغم أن وظيفة الضوء الحقيقية هي إتاحة الرؤية، لكنها لم تكن يومًا سببًا لإتاحة البصيرة!
هكذا تخطت نيللي مرحلة أن تكونوجهًا جميلًا بحُكم ما تنطق به الملامح، لتصبح وجهًا جميلًا بكل ما خلفه من نُبل ومشاعر ورقي، وهذا الجمال الأخير خلق ليكون مصيره الخلود، إذ لا يبلى مع بلاء الجسد، ولا يهزمه المرض وتقدم الأيام والسنين.
حفظك الله يا نيللي، وأدام جمال شكلك وروحك.