اللغط والاتهامات التي حاصرت المخرج الللبناني أحمد غصين والتي رافقت فيلمه الروائي الطويل الأول (جدار الصوت) الذي عرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 41، جميعها ستسقط بمجرد مشاهدتك للفيلم، بخاصة مع المشهد الأكثر جدلا حين ذهب غصين وصور مشاهد الدمار في منطقة الزبداني في سوريا، هذا المشهد الذي وضعه في خانة استغلال الوجع السوري، وهنا لا نبحث عن مبررات للمخرج في توظيفه للمشهد، لان الصورة التي قدمها هي الأكثر ذكاء في ادانة النظام السوري وتحميله المسؤولية في شكل المدينة التي ظهر، بالرغم من أن الفيلم لا يحكي سوريا بل يتناول أحداث حقيقية وقعت خلال حرب يوليو 2006 أثناءالحرب التي شنها الكيان الصهيوني على لبنان.
حينها ستعي أن الذكاء في التوظيف للمشهد كفيل بأن يعري كل من حاول إيهامنا بما يسمى المقاومة والممانعة، هو دمج يراد منه بصريًا ان تخرج من الصالة وانت تفكر، والسينما تعطيك هذه المساحة، فهي في فيلم غصين قدمت السؤال وعليك أن تبحث عن الإجابة .
اذا نحن أمام فيلم يدخل في فئة سينما الحرب، استطاع غصين أن يثبت من خلاله تمكنه من إدارة كل العناصر فيه، ويبشر بمخرج استطاع أن يترك أثره في صناعة الأفلام القصيرة لينتقل بقوة تجاه صناعة الأفلام الطويلة، ويقدم فيلمًا متماسكًا بكل تفصيل فيه، بخاصة أن جل المشاهد ستكون في مساحة ضيقة، وهذا النوع من الإدارة ليس بالسهل، فأنت ستضع كل الممثلين مع السيناريو والحوار المرافق لهم، واللعب على الضوء والصوت في مساحة ضيقة، في الوقت نفسه لن تشعر كمُشاهد بأي نوع من الملل، بل الترقب سيكون حاضرا ، و المفاجآت ستكون جزءً من تفاعلك مع الحكاية.
الفيلم وهو من بطولة كرم غصين وبطرس روحانا وعادل شاهين وسحر منقارة ، يبدأ مع انفعال فتاة من قرار حبيبها مروان بالذهاب الى الجنوب لاستعادة والده والعودة به الى بيروت، في الوقت التي تصدح فيه الإذاعات المحلية عن قصف إسرائيلي ، هذا المشهد بالرغم من أنه محدود الا أنه يعطي فكرة لها علاقة بكليشيه الحب في زمن الحرب، كان لا بد من المرور به بل والابتداء معه، لتنتقل التفاصيل الى مروان وهو يقود سياراته متجها الى الجنوب اللبناني، ليجد نفسه عالقا في بيت مهجور مع مقاومين قدامى أصدقاء والده، لتبدأ أحداث الفيلم التي تتصارع وتنقل مشاعر معنى الحصار ومعنى الإيمان الذي يسقط بأن الشباب سيأتون لإنقاذهم من كل بد، وهنا إشارة الى منتميي حزب الله دون ذكرهم بشكل واضح وصريح، لكن الحقيقة انهم لن يأتون أبدا، فليس لهم في هذا المكان من يهمهم أن ينقذوه ، فأنت أمام شخصيات شيوعية، وهنا أيضا الذكاء في الإسقاط .
في المقابل قيمة الحوار الذي كان دائرا بين المحاصرين المدنيين، هو بحد ذاته حكاية تجعلك تدرك ما يحدث حاليا في لبنان من ثورة تعم كل مدن لبنان، مع شعار كلن يعني كلن، هو تراكم الوجع والقهر والخوف، مع جدار الصوت الذي تصدر من خلاله كل ما تحاول إنكار سماعه، هو ظل الجنود المدججين بالأسلحة والتي تحميهم هيليكوبترات وهم يتحدثون ويهمسون وتراقب ظلهم على أدراج المنزل، هو كيف تتعلم خنق صوتك في حضرة عدم وجود المنقذ، هو معنى الخذلان الذي يكبر في قلبك وأنت تستعد لمواجهة الموت، هو نقل المشاعر عند قدوم زوجين يفرق بينهما عمرا بحاله، هو قلة الحيلة، والرضوخ للوهم في حضرة من يترجم ما يقوله الصهاينة للمحاصرين، كل هذا وأكثر ستعيشه بهذا المنزل من خلال فيلم غصين، وستعي انه لم يقدم فقط عملا فنيا متكاملا بل أراد أن يكون جزء من نقل ما يصعب الإعلان عنه.
تناغم واضح بين الممثلين، في حضرة النكتة، ستضحك كثيرا وأنت تشاهد الفيلم، فالدعابة مكون أساسي لبلاد البحر المتوسط، يلجأون اليه للهروب من واقع مؤلم، ومع مرور الأحداث يظل اليقين وضرورة الاندماج مع كل ما يحصل خارج هذا المنزل، حتى حين وقف أحد المقاومين القدامى وبدأ يتحدث الى بقرة وينصحها بالهرب، لتعود مع هذا المشهد وصوت الشيخ إمام يصدح برأسك وهو يغني ناح النواح والنواحة على بقرة حاحا النطاحة.
وعودة إلى ما تم كتابته في البداية، مع المشهد النهائي للفيلم الذي أثار جدلا، خرج وقتها مروان لينظر إلى السماء، وهو المشهد الذي تم تصويره في الزبداني في سوريا بين رمان من الدمار، تم توظيفه في الفيلم كخلفية مشهدية للقصف الصهيوني على لبنان عام ٢٠٠٦، لكن من ينظر إلى ما وراء المشهد تصله الرسالة التي قد تكون غير مباشرة ومباشرة لمن يعرف مواقف غصين، فجدار الصوت انتهى مع ذلك المشهد تحديدًا لادانة حزب الله والنظام السوري في طريقة مدروسة جدا وبمشهد شديد الدقة.
من الجدير بالذكر أن المخرج اللبناني أحمد غصين عن فيلمه "جدار الصوت" الجائزة الكبرى في فئة "أسبوع النقاد الدولي" وجائزة الجمهور، إضافة إلى جائزة "ماريو سيراندري" للمؤثرات التقنية خلال الدورة السادسة والسبعين من مهرجان البندقية الإيطالية.
اقرأ أيضا:
فيلم The Friendly Man.. عدوانية تنتقل من الانترنت إلى الواقع
"نساء الجناح ج" عندما تصبح المستشفى العقلي هي الملجأ الوحيد!